في خضم كل الظروف والعوامل الضاغطة التي تهيمن اليوم على العلاقة بين عالمنا العربي والاسلامي - والشرق عموماً - وبين "الغرب"، أصبحت قضية الحوار تمثل إحدى الاشكاليات الأساسية التي يجرى الحديث عنها سواء من حيث الماهية والمادة والموضوع، أو أشكال ووجوه وأدوات ووسائل الحوار، أو وضع كل من المتحاورين أمام الآخر أو في نظره، وقبوله به أو تعاطفه أو تواطؤه معه، أو إنكاره له وتشكيكه بنياته وخلفياته ومراميه وغاياته. في خضم هذه العلاقة المتنافرة - المتجاذبة، أصبحنا نجد الكثير من الكتب التي تتناول آفاق أو أبعاد التأثر والتأثير القائمة بين ال"أنا" أو "الذات" العربية و"الآخر" الغربي، وهي كتب متفاوتة النظرة والقيمة والأهمية بالطبع. ضمن هذا التوجه يندرج كتاب الباحث والناقد السعودي الدكتور سعد البازعي "استقبال الآخر"، الذي يطالعنا تحته عنوان تفسيري آخر، "الغرب في النقد العربي الحديث". والكتاب لا يتناول صورة الغرب في هذا النقد، كما قد يتراءى للبعض، بل "ينطلق من استحضار واع للموقف الفكري الحضاري المؤسس على الإيمان بالخصوصية الثقافية من ناحية، وبحتمية المثاقفة الواعية وحيويتها من ناحية أخرى"، ومن اعتبار أن "النقد الأدبي جزء حيوي من تلك العملية الفكرية الابداعية التي شغلت الثقافة العربية قروناً ولا تزال تشغلها"، ثم من القلق الذي شعر به المؤلف عند اكتشافه "ان كثيراً من النقد العربي الذي اطلعت عليه وتمثل في بعض أشهر أقطابه يقوم على التهالك على النظريات والمناهج الغربية والاستعجال في تمثلها"، مثلما يقول في "استهلال" الكتاب. يعرض البازعي أطروحته في قسمين يتناول أولهما "النقد الغربي: خصوصية السياق" حيث نجد تقديماً وتقويماً لأهم مناهج النقد الحديثة من أنتروبولوجية الى شكلانية فبنيوية وواقعية ماركسية ينتهي بتلخيص واضح الدلالة والموقف يندرج تحت عنوان "التقويض: جمع ما لا يجتمع"، بينما يتحدث في الثاني بعمق وتفصيل عن "الاستقبال العربي" الذي يقدمه ضمن خمسة توجهات أو عبر خمس مراحل. أسمح لنفسي بالتوقف هنا برهة لأقول انني سأكمل عرض هذا الكتاب متفقاً حيناً ومختلفاً حيناً آخر مع "الصديق" سعد البازعي. وأنا أدعوه صديقاً على رغم عدم معرفة كل منا بشخص الآخر، وذلك تعبيراً عن إحساس وعملاً بمأثور ونشداناً لغاية. أبدأ بالثالثة لأقول إن الهدف من كل حوار يجب أن يكون تلمس درب الحقيقة والعمل على التطوير وعلى تعميق نظرتنا الى الذات والعالم. ثم أعود الى الثانية لأردد مع المثل: "صديقك من صَدَقك". وأصل الى النقطة الأولى لأقول إنني أحسست لدى قراءة الكتاب بجدية أو صرامة الباحث الرامي الى هدف نبيل والبعيد من العبث والاستهتار والخفة، ما يفرض الاحترام والتعاطف ويوحي بالانفتاح والتقارب والصداقة الأكاديمية على الأقل. فعندما تحصي أكثر من مئة وأربعين عنواناً باللغة العربية وما يناهز المئة بالأجنبية في "مصادر الكتاب"، ثم تجد أنها استخدمت كلها في سياق النص بصورة منهجية مترابطة ومتسلسلة بمنطق وإحكام، لا يبقى أمامك سوى الشعور بالتقارب والتداني مع كاتب هو قارئ متميز قبل ذلك، أي ان ثقافته النقدية هي خلاصة اطلاع وبحث وتبحر. وهو ما يُفترض أن يتكئ اليه كل باحث وناقد. وعندما تقرأ شكر المؤلف ل"جامعة الملك سعود التي منحتني تفرغاً جزئياً لاستكمال الكتاب، وكذلك المكتبة البريطانية في لندن التي وجدت في رحابها خدمات مميزة قدِّمت - كالعادة - من دون سؤال"، ثم شكره "مؤسسة سلطان العويس الثقافية في دولة الإماراتالمتحدة" و"جامعة البحرين وجمعية النقد الأدبي المصرية"، ثم أسماء أساتذة وباحثين كبار تمت استشارتهم، فلا بد من أن تقف خاشعاً أمام جلال الأسماء وأن تشعر بعميق الانتماء وأن تتباهى بالقول: إن لي وللنقد والفكر أصدقاء وحلفاء ها هنا، ثم أن تبدأ حديثاً من القلب الى القلب، أو بالأحرى من الفؤاد الى الفؤاد، لكن هذا الأخير يجمع في مصطلحنا الإسلامي القلب والعقل معاً. نعود الى الكتاب لنوجه تحية الى التواضع العلمي الذي يطبع المؤلف، كونه يكتفي بالعرض والتحليل والتساؤل دونما ادعاء ابتكار أو اقتراح مشروع بديل. ولكنه يقدم تجربة الناقد شكري عياد نموذجاً نقدياً متميزاً يلخصه بعنوان متعاطف: "من الاستقبال الى التأصيل". إنما لا يمنعه ذلك من طرح تساؤلات الكتاب الكبرى في سياق الحديث عن تلك التجربة، إذ يقول: "وفي تصوري أن جزءاً من أهمية النقد الذي تركه عياد هو في هذا القلق الذي تتسع شواهده لتشمل الكثير من أعمال الناقد وعلى فترات متباعدة نسبياً. ذلك ان لهذا القلق دلالة على الوعي بأن الاشكالية الحضارية التي تواجهها الشعوب العربية أعقد من أن تحل بتوليفة سهلة، أو أن الحل عندما سيأتي سيكون الحل الأمثل. ومن ذلك التفاعل الأدبي أو النقدي مع معطيات الحضارة الغربية". بعد ذلك بقليل، أي في إحدى الصفحات الأخيرة من الكتاب، يتوصل الى طرح السؤال الأساس بقوله: "هنا يرسم عياد ملامح التحدي الذي كان عليه أن يواجهه في مقبل عمله، ومعه في ذلك جانب كبير من النقد العربي، بل من الثقافة العربية المعاصرة ككل: كيف يمكن أن نستعير ما لدى الغرب من مذاهب من دون استعارة النظرة التي بنيت المذاهب عليها؟". القلق من التغريب المهدد للأصالة والهوية هو الحافز الأساسي والهم الشاغل للمؤلف إذاً. ونحن سننطلق من الهم ذاته لمناقشة الخطوط العريضة للكتاب. يقدم البازعي عرضاً جيداً ومعمقاً لمناهج النقد الغربي وتاريخ منشئها وظروفه، فيلاحظ أن القواسم المشتركة التي تأسس عليها الفكر الغربي منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر، والذي أسس له ديكارت قبل ذلك، وحتى أيامنا هذه، هي العقلانية الديكارتية تحديداً ثم النزوع الى العلمانية الذي أرسى دعائمه "متطرفو حركة التنوير اللادينيين من أمثال فولتير" وأكملت المهمة من بعدهم مجموعة من الفلاسفة اليهود، مثل سبينوزا وهوسيرل ونيتشه، والنقاد الأدبيين اليهود أو البروتستانتيين، أمثال نورثروب فراي وهارولد بلوم وه. أبرامز وكلود ليفي - ستروس وجاك ديريدا ولوسيان غولدمان وميشال فوكو. وهو يقدم هذا العرض تحت أربعة عناوين تنم بوضوح عن مساره النقدي الملتزم: "مفهوم الخصوصية" أي خصوصية - وليس عمومية - السياق النقدي الغربي، و"من المقدس الى الدنيوي: فراي وشكلانية النماذج"، و"البنيوية: تصدعات الحلم"، و"جيمسون والتقويض الماركسي"، قبل أن يخلص الى الحكم النهائي عبر عنوان ذكرناه سابقاً: "التقويض: جمع ما لا يجتمع". لا بد من التنويه بالجهد الكبير المبذول في هذا العرض، وبالمعلومات القيمة والموثفة التي يقدمها، وبطريقة عرض كل واحدة من مدارس النقد الغربية مع التعريف بمؤسسيها وأشهر أعلامها. ولكن لا بد أيضاً من ملاحظة المدى الذي يبلغه "القلق" عند ناقد كبير كالبازعي، إذ انه لا يجد أي مظهر إيجابي في أي منهج نقدي غربي. فهو يختصر فولتير وفلاسفة القرن الثامن عشر ب"المتطرفين اللادينيين"، كما رأينا، ويختصر العلمانية بأنها "اتجاه متنام لدى الانسان للعيش من بدون دين"، ولا يرى في منهج نورثروب فراي، عدا عن"النموذج الأعلى"، سوى تجسيد لبعد مقدس لا يمكن أن يلائمنا. ثم ان البنيوية تضحي، ليس "جزءاً" من تاريخ النظرية الماركسية في النقد فحسب، وإنما هي أيضاً جزء من تاريخ النقد التقويضي، ذلك النقد الذي يمكن اعتباره أقوى الانقلابات الفكرية التي حفرت ما سماه بيير ماشيري "قبر البنيات". أما استخدامه مصطلح "التقويض" فهو عائد، كما يقول، "الى تعبيره عن عنصر الهدم في ذلك المصطلح الفكري النقدي" الذي يعيش بمجمله أزمة أشد تعقيداً، كون "التشكيل المتنافر إشكالية أساسية يعيشها الفكر الغربي. هو الاشتباك المتناقض والهش الذي جاء فلاسفة التقويض ونقاده لتعريته وإعلان تناقضه وانتقاضه"، ما يجعل جميع مناهج ذلك الفكر "متحيزة الى سياقها الخاص على النحو الذي يدعم الخصوصية الحضارية ويستوقف الناقد والمفكر العربي - الإسلامي في شكل خاص". أهي دعوة الى خصوصية في مواجهة خصوصية؟ سيكون من الظلم اتهام الكاتب بذلك. فهو لا ينفك يدعو الى التمثل الواعي والحذر لما في تلك المناهج من ايجابيات في شكل لا يطاول في العمق خصوصياتنا الثقافية. وهذا بالتحديد ما يحاول استعراضه وتبيان مسالكه وملامحه في القسم الثاني والأوسع من الكتاب. نقول بصراحة اننا نرى البازعي هنا أكثر واقعية وأوضح رؤية في متابعة مراحل "استقبال الآخر" في النقد العربي الحديث الذي تطغى عليه سمة الانبهار بالمدارس الغربية. وهو ينشد الدقة والتحليل العلمي لألوان طيف ذلك الانبهار المتدرج من "الحضور الصامت وغير المحسوس للنقد الغربي في تركيبة الخطاب النقدي لدى سيد قطب"، الى "تغريب طه حسين الغائم"، أو من "يدعو الى التأصيل لكنه يحمل الثقافة الأوروبية" ومن "يدعو الى الانفتاح على أوروبا لكنه يحمل همّ التأصيل أو يسعى الى تجاوز مشكلاته"، أو الاستقبال الضبابي المتميز بخبط عشواء، "مثل غياب الضبط المصطلحي أو المنهجي نتيجة الاستعمال في تطبيق المناهج، أو مجرد ادعاء التميز في الحداثة النقدية بتبني أكبر عدد من المناهج من دون هضمها". والمثل الأوضح على ذلك هو انتشار البنيوية التكوينية بكثافة في النقد العربي المعاصر، والعائد "الى الحرص على جمع الشتيتين: التوجه الشكلاني وعدم التخلي عن القيم والالتزامات الواقعية، اليسارية غالباً، التي لعبت دوراً رئيساً في تشكيل التجربة السياسية والثقافية والاجتماعية في الوطن العربي". ان ذلك الانبهار هو الذي يدفع الكثيرين من النقاد الى "تبني وجهة نظر الآخر بصفتها وجهة نظر عالمية صحيحة ليس في معرفة الآخر وحسب، وإنما في معرفة الذات أيضاً". كتاب يطرح بقلق ملتزم أسئلة الاستقبال والتأصيل والتطوير والتقدم. يطرحها بجدية تجعلنا نحس مع مؤلفه بأبعاد المسؤولية المبنية على قلق البازعي الذي نخشى أن يكون بلغ أحياناً حد الهجاس بالموضوع أو - على وجه الخصوص - الرهاب من "الآخر" المتربص خلف يهوديته أو بروتستانتيته، وذلك ما يفقد دراسة قيمة كهذه الكثير من منهجيتها وأكاديميتها: ينصبّ التساؤل الأول على نظرتنا الى "الغرب"، الماثل باسمه على غلاف الكتاب، وعلى علاقتنا به وبانتاجاته، على الأقل في ميادين النقد والعلوم الانسانية، لا لكي نتفق أو نختلف مع البازعي على الكمية والنوعية اللتين يُفترض أن في مقدورنا أخذهما من "الجهود العالمية في اللسانيات" أو في أي علم آخر، وإنما لتحويل الشك بالذات وبالآخر الى ثقة بالنفس وبالعقل وبالمسار والسيرورة التاريخيين، ثم لتذكّر أن ديكارت نهل حتى الثمالة من مقولات ابن رشد وغيره ممن نهلوا بدورهم من يقينهم الديني ومن تراث يوناني ومشرقي أيقظوه وتمثلوه دونما خوف أو وجل أو قلق. ثم يتفرع التساؤل ذاته الى مفهومنا للغرب. فهل يحق لنا اليوم، نحن "القلقين" على التراث والأصالة والهوية، أن نختصر "الغرب" بموجة "المحافظين الجدد" و"الانجيليين الجدد" المفبركين في مصانع الصهيونية وامتداداتها المسيحانية المتعارضة مع جوهر المسيحية وتعاليمها وأقوال ممثليها الفعليين والشرعيين بدءاً بقداسة بابا روما وانتهاء بكنائس أميركا ذاتها؟ أو أن نعمل على تثبيت التماهي اللامبرر واللامنطقي بين قلة من الأنظمة الغربية التي تعمل على تعميم أو عولمة نموذجها الخاص والمتميز، وبين كثرة من النخب والشعوب التي ترى في محاولات كهذه محاولة لنحر "الخصوصيات" و"العموميات" الثقافية والحضارية في ضربة واحدة؟ لا يحاول كتاب سعد البازعي، ولا يدّعي، التصدي لمسائل سياسية شائكة يعانيها عالم اليوم في "شرقه" و"الغرب". ولكنه يطلق العنان للتساؤلات "القلقة": وهل من واحد منا لا يعيش القلق بكل أبعاده؟ ولكنني أستغرب أن يبلغ قلقنا درجة تجعلنا نتحفظ حتى على "الاستفادة من الجهود العالمية في اللسانيات"، أو نتشدد في تفحص "النوافذ" التي يمكن أن تفتح والأخرى التي يجب أن تبقى مغلقة، أو نعيش هوس الحفاظ على طهرية ثقافية كاملة لم تعد ممكنة في عالم اليوم، بل أن نمحض هويتنا وثقافتنا وعقولنا الثقة الحقيقية، لئلا نغفل في غمرة ريبتنا من اشكالات استقبال "الآخر"، عن ناقد كبير مثل شكري عياد يصرّح: "كنت على رغم وطنيتي المصرية الضيقة أعشق شعر المتنبي"، فنستشهد به من دون تعليق.