يتضح من الآيات القرآنية التي نزلت قبل سورة براءة وبعدها، ان الموضوع كان تحديد الهوية الإسلامية الجديدة، وجلاء عناصرها، في مواجهة "المشركين" الذين كانوا بمكة، والذين بقوا بالجزيرة العربية بعد فتح مكة. وبعد عام الوفود الذي عنى انتصار الإسلام بالجزيرة تراجعت هذه الثنائية، ليبقى جانب "الولاء"، اي الدعوة الى التضامن والموالاة بين المسلمين والمؤمنين. وقد كان الدليل على ذلك ليس تضاؤل حضور الثنائية وحسب، بل وإلغاء فرضية الهجرة الى دار الإسلام المدينة بعد الفتح لا هجرة بعد الفتح، لأن مكة والجزيرة صارتا دار إسلام، ولأن امة الإجابة صارت هي المؤتمنة على الدعوة التي لا بد من ان تتجه الى الخارج بالموعظة الحسنة، إذ لا إكراه في الدين. لكن، كما ان صحابة مجتهدين رأوا استمرار الهجرة اذا توافرت ظروف مشابهة للظروف قبل فتح مكة، فكذلك كان هناك من ذهب الى ان البراءة من المشركين يمكن إعمالها إذا ظهرت دواعٍ لذلك. واستجدت وقائع فعلاً اقتضت لدى البعض العودة لإعمال الثنائية، لكن بأفكار وآليات اخرى زمن الفتنة بعد مقتل امير المؤمنين عثمان. فقد ترامى المتقاتلون بالبراءة والتكفير، وبذلك صار المشهد داخلياً، وأكثر خطورة، على رغم وقوف الإمام علي ضد ذاك الأمر المدمّر في القول والعمل. فهو لم يتبرأ من الذين صارعوه على السلطة، ولا من أولئك الذين تمردوا عليه حتى قُتل. وقد صار معروفاً منذ الحرب الداخلية الأولى، ان كل الخلافات السياسية والاجتماعية سرعان ما تتخذ لبوساً دينياً، فتعود المقايسة والمماثلة مع مشركي مكة، ويعمل كل فريق على إثبات صفاء عقيدته وسلفيتها، بالبراءة من خصومه وتكفيرهم. وكانت حقبة التكون العقدي للأحزاب والفرق في القرنين الثاني والثالث للهجرة بيئة "خصبة" لاستتباب مسألة "الولاء والبراء" باعتبارها محدّداً للفرقة الناجية. صراعات القرن الأول تغطية دينية للصراعات السياسية، اما صراعات القرنين الثاني والثالث فمن اجل تحديد العقيدة الصحيحة المنجّية في اليوم الآخِر. ومنذ القرن الثالث عصر الإمام احمد بن حنبل، ومروراً بالأشعري والباقلاّني والغزالي، وحتى عصر ابن تيمية وابن القيّم، حاول اهل السنة الخروج على عقلية البراءة والتكفير والفرقة الناجية المختارة، وبنجاح متفاوت. وعندما اراد ابن تيمية في مطلع القرن الثامن الهجري، إعادة قراءة المسألة وسط متغيرات الغزوات الصليبية والمغولية، والانقسامات الداخلية، استوعب تراث اهل السنّة والجماعة، كما استوعب التجربة التاريخية، ليصل الى مفهوم آخر للمشكلة لا يقفل الدائرة المتوسّعة، ولا يتخلّى في الوقت نفسه عن تحديد من نوع ما لحدود العقيدة الصحيحة او "عقيدة اهل السلف". ووسط الطمأنينة النسبية إلى رد الهجمات الصليبية، وتدجين المغول والتتار، وقيام امبراطوريات اسلامية كبرى، والانتشار الواسع للمذاهب الفقهية الفروعية غير العقائدية، وسواد الطرق الصوفية ذات الحيوات الروحية الغنية، تفجّر اولاً الصراع العثماني الصفوي، الذي اعاد مقولة الولاء والبراء بداخل الإسلام. ثم انفجرت قضية الاستعمار الأوروبي للأقطار الكبرى في العالم الإسلامي. وقد جمعت الميول والتيارات السَلَفية الجديدة بين البعدين الداخلي والخارجي أو انها رمت منذ القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي الى إحداث تمايُزين: التمايز بين التوحيد والشِركْ او مظاهره داخل جماعة المسلمين باسم الإصلاح والتمايز عن الكفّار الذين كانوا يغزون ديار الإسلام، ويطرحون إشكاليات السيادة والسواد والهوية السياسية والشرعية للجماعة الإسلامية تحت سيطرتهم ديناً وأعرافاً وتنظيمات. في المجال الأول، مجال التمايز والمفاصلة الداخليين، تمثّل الإصلاح في الحملة كل "مظاهر الشرك" من مثل الاعتقاد بكرامات الأولياء، وزيارات القبور، والمواريث الصوفية والشعبية، من اجل العودة لصفاء العقيدة وسلامة السلوك. وفي المجال الثاني اعتبرت الحركات الإحيائية الجديدة ان سيطرة غير المسلمين على الديار التاريخية للمسلمين، تغيّر هوية الدار، وتقتضي البراءة والهجرة الى دار الإسلام. هكذا بدأت حركات هجرة من الهند التي دخلها البريطانيون الى افغانستان، ومن الجزائر التي دخلها الفرنسيون الى المغرب... وصولاً الى ليبيا التي دخلها الطليان اخيراً عام 1911. وكان المنتظَرُ ان يتضاءل النزوع لإعمال البراءة في الداخل انصرافاً لمصارعة الأجانب، لولا ان رأى الإحيائيون والسلفيون في المتغيرات الاجتماعية والسياسية بالداخل الإسلامي نتيجة "للتدخل الغربي" مجالاً جديداً من مجالات الاستمرار في استخدام الثنائية المزدوجة، اي تجاه الخارج، وبعض الفئات الجديد بالداخل. فقد جرى استخدام الثنائية او أحد طرفيها للنفي والاستبعاد من جهة، وللمراقبة وضبط المشروعية في عمليات التنافس على النفوذ والمواقع، من جهة ثانية. وما عادت هذه الاستخدامات مفيدة حتى في مجال مكافحة النفوذ الأجنبي، لأنها صارت تُتخذ مسوّغاً لتعطيل وتجميد الحراك الاجتماعي والثقافي بحجة صون الطهورية، والمفاصلة مع "اهل الأهواء والبدع". وإذا كانت الوظائف الجديدة لمقولتي التوحيد والشرك، والولاء والبراء، تستدعي تفحصاً نقدياً، فإن استخدامات ظواهر النصوص، والقياسات المتنافية، تطرح اسئلة كثيرة على علائق النص بالواقع في وعي الإسلاميين، وفي وعي خصومهم. ويدخل كلا المجالين: المجال العقدي، والمجال الرمزي، في قلب الصراعات على هوية المجتمع والدولة، والصراع على الإسلام في السياسات الدولية.