من المؤكد أن ممثلي التيارات العقلانية - وكان منهم حسن العطار وتلامذته - وجدوا في التفوق الفرنسي ما يؤكد ما تعلموه عن أسلافهم من فلاسفة العرب ومتكلِّميهم، خصوصاً ما يتصل بأهمية إعمال العقل، واستبدال الابتداع بالاتِّباع، والإفادة من التجريب الذي لا يخلو من معنى ارتحال العقل بين الظواهر والأفكار ارتحاله بين البلدان والأقطار. وكان ذلك يعني - في أكثر من اتجاه - أن ازدياد الرغبة في التعرف على أسرار الآخر لم يكن يكفي في إشباعها هذه اللقاءات العابرة أو المشاهدات العارضة التي نرى نماذجها عند أمثال عبدالرحمن الجبرتي أو حسن العطار، خصوصاً بعد أن تدافعت رغبة معرفة الآخر وتزايدت، وأصبحت الرغبة الفردية قرينة الرغبة القومية في حلم التقدم الذي أصبح السبيل إليه هو النموذج الأوروبي بوجه عام والفرنسي بوجه خاص. ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن يصدر كتاب التلميذ - رفاعة الطهطاوي - حاملاً تقريظ الأستاذ - الشيخ حسن العطار - الذي يصل معنى الارتحال في المكان بالارتحال بين الأفكار، في مدى إعمال العقل، ومدى توسيع الوعي بعلم ما لم يكن يعلم من أحوال المعمورة الإنسانية، فيقول الشيخ الذي كان أصبح شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت: "سبحان من أظهر عجائب مصنوعاته في اختلاف أوضاع مخلوقاته، وتباين أنواع العالم واختلاف هيئاته. يرى ذلك بعين الاستبصار من ولج البحار واقتحم القفار، فإن السفر مرآة الأعاجيب، وقسطاس التجاريب. وقد أودع في هذه الرحلة مؤلفها الأديب الأريب، والفاضل الذكي اللبيب، ما شاهده من عجائب تلك البلاد، وأحوال هؤلاء العباد، ما يحرِّض العاقل على الأسفار، والتنقل في الأمصار، حتى يزداد بذلك علماً يقيناً، ويفوق بالإحاطة بأحوال عباده في الزمن اليسير بما لا يدركه القاطن بداره ولو عاش من السنين مئينا". والواقع أن دلالة "عين الاستبصار" لا تنفصل - في هذا السياق - عن دلالة إعمال العقل في أحوال المشاهدة والمعاينة، أو تجارب القراءة والتحصيل، وذلك في المدى الذي يجعل من السَّفَر - كالمعرفة المتجددة - مرآة الأعاجيب وقسطاس التجاريب. والإشارة إلى تحريض "العاقل" على الأسفار إشارة إلى تخصيص الإنسان بالعقل الذي ميّز به الله خلقه، وجعله أداة لإدراكهم، وحجَّة عليهم، في التزود بمعارف الكون. ولا فارق بين الأسفار بمعنى التنقل والأسفار بمعنى الكتب في تجاوب الدلالة التي لا تفارق الحض على توسيع أفق المعرفة في الزمان والمكان. وهي المعرفة التي تتدافع بتدافع الرغبة إلى اكتسابها، والارتحال في سبيلها إلى الآخر الذي أصبح فضاء لأسفار هذه المعرفة التي تتيح لمن يسعى وراءها ما لا يتاح للقاطن بداره أو القانع بجهله. وكان من نتيجة ذلك التشكل الحديث لما يمكن أن نسميه "أدب التعرف على الآخر". وهو الأدب الذي يبدأ من مقامة العطار أو مقاماته!؟ ولا ينتهي مع سرديات على مبارك 1823 - 1893 في "علم الدين" وإنما يتواصل إلى آخر القرن، ومنه إلى القرن العشرين، جنباً إلى جنب أدب الرحلة الذي جذب الأقلام إليه أكثر في القرن التاسع عشر، وذلك لكونه نوعاً أدبياً يجمع بين أنواع عدة، جعلت منه الشكل الأدبي الأكثر مواءمة لتسجيل صدمات الاكتشاف الشعورية، والتعبير عن تحولات الأنا المعرفية للكاتب عبر متغيرات المكان والزمان والمدركات، والأداة المرنة لاستيعاب الوصف الجغرافي والمعلومات التاريخية والملاحظات الاجتماعية والمشاهدات الغنية وألوان المعارف العلمية المختلفة، فضلاً عن تداعيات الذاكرة التي تصل الحاضر بالماضي، ولا تتوقف عن المقارنة بين ما تراه وما تسترجعه أو تتذكره. وأتصور أنه لا يمكن اكتمال دراسة "أدب التعرف على الآخر" إلا بدراسة الترجمات المتعاقبة خلال القرن التاسع عشر، أولاً لأن هذه الترجمات انطوت على بعد تفسيري أو تأويلي ارتبط بوعي المترجم الذي يستقبل ويعيد إنتاج ما يستقبل من لغة الآخر في لغته هو بحسب منظوره، ومنظور ثقافته المتجسّدة في لغته التي هي فكره. وثانياً لأن اختيار المترجم علامة على فكره كما قال القدماء الذين علَّمونا أن اختيار الرجل قطعة من عقله. وثالثاً لأن المراوحة بين الترجمة والتعريب وما صحبهما من تمصير أو اقتباس، كان عملاً موازياً من فاعلية رغبة معرفة الآخر، لكن بواسطة تحويله إلى ما يشبه الأنا التي أرادت أن ترى الآخر في مرآتها، أو أن ترى الآخر على صورتها. ولولا ذلك ما جعل محمد عثمان جلال 1829 - 1898 - تلميذ رفاعة في مدرسة الألسن - من "تارتوف" موليير 1622 - 1673 "الشيخ متلوف" في تجاوب العلاقات، ومن "بول وفرجيني" برناردين دي سان بيير 1737 - 1814 "قبول وورد جنة"، ومن "حكايات لافونتين" 1621 - 1695 "العيون اليواقط في الأمثال والمواعظ" لتكون على شاكلة "الصادح والباغم" و"فاكهة الخلفاء". وكان ذلك يعني أن الرغبة في معرفة الآخر بواسطة ترجمته كانت تعني الارتحال اللساني إليه، والارتحال اللساني له في الوقت نفسه، فالأنا الراغبة في معرفة الآخر لم يكن توترها إزاءه يخلو من محاولة تدجينه، أو تطبيعه... ومهما يكن من أمر، فما بين مقامات أمثال العطار وسرديات علي مبارك من ناحية، وكتب الرحلات من ناحية مقابلة، كانت الترجمة عن اللغات الأوروبية - وبخاصة الفرنسية - إلى اللغة العربية الجهد الإكمالي في معرفة "الآخر" بواسطة مرآة أخرى، بدأت آثارها في الاتساع مع إنشاء مدرسة الألسن على يدي رفاعة رافع الطهطاوي 1801 - 1873 في عهد محمد علي الذي تولى حكم مصر ما بين سنتي 1805 - 1849، وأتاح لإشباع رغبة معرفة "الآخر" درجة واسعة من التحقق بواسطة البعثات التي أرسلها، والتي عاد طلابها ليسهموا في حركة الترجمة التي أسهمت بدورها في التعريف بعلوم الآخر وفنونه وآدابه. واستبدلت رحلة الكتاب برحلة المكان، فأكملت دائرة معرفة "الآخر" بوسائلها وتقنياتها النوعية المخصوصة في مجالات عدة وعلى مستويات كثيرة. ولكن بما أن هذه الورقة لا تحتمل الإشارة إلى كل شيء، أو التفصيل فيه، فسأقتصر في ما يلي على كتابات الرحلة إلى الآخر في القرن التاسع عشر، وذلك لأن هذه الكتابات اتسمت بمرونة النوع الذي يجمع لكاتبه كل شيء بالمعنى القديم للأدب الذي هو أخذ من كل شيء بطرف، ولكن في القالب السردي الذي يدنو من تقنيات القص، سواء من منظور تعاقب الأحداث والأماكن عبر الزمن، أو منظور الراوي الذي يقص علينا كل ما رآه أو عاينه. ويرجع الاقتصار على القرن التاسع عشر لأنه قرن تأسيس المعرفة الحديثة بالآخر وتأصيلها، ولأنه البداية التي لا تزال تمارس حضورها إلى يومنا هذا بأكثر من معنى. ولا غرابة في أن يشهد القرن التاسع عشر الذي بدأ بعد سنوات ثلاث من الحملة الفرنسية على مصر عدداً كبيراً من الرحلات إلى أوروبا بوجه عام، وإلى فرنسا بوجه خاص، بصفتهما نموذج التقدم الذي وصل إليه العالم المتحضر، ومستقر العلوم الواعدة التي لا بد من معرفة أسرارها لتحقيق الحلم الذي خايل العقول. وكما كان فن الرحلة العربي في القديم وسيلة لمعرفة أركان المعمورة الإنسانية، واكتشافاً لأسرار العلوم في كل مكان للإفادة منها، وإغناء للتجربة الإنسانية بإضافة التجارب التي تشمل العجائب والغرائب، كان فن الرحلة في القرن التاسع عشر إحياء للفن القديم بلوازمه المعروفة، وإضافة إليه بما فرضته متغيرات التاريخ وتحولات الأوضاع السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية. وتلفت الانتباه - في هذا الصدد - كثرة كتب الرحلات في هذا القرن، منذ العقد الرابع على وجه التخصيص، أي بعد أن تفاعلت الحملة الفرنسية حضارياً وثقافياً واجتماعياً مع الأوضاع السائدة، وبعد أن غاب وجودها العسكري عن مصر منذ سنة 1801، مفسحاً المجال لحضور آثارها الثقافية التي تولَّدت من نتائجها رغبة متزايدة في معرفة ذلك "الآخر" في موطنه، وفي داخل حدوده بعد اكتساب لغته التي تفتح الأبواب المغلقة من أسرار علومه. وقد فرض التاريخ أن تكون البداية في مصر التي سبقت غيرها من الدول العربية في معاناة الاحتلال الأجنبي وصدمة التجربة المعرفية المصاحبة لهذه المعاناة منذ مجيء الحملة الفرنسية سنة 1798. وكان ذلك قبل سنوات عدة من احتلال الجزائر سنة 1830، وتحول تونس إلى محمية فرنسية سنة 1881، قبل عام واحد من الاحتلال لمصر، وقبل عقود من استيلاء إيطاليا على طرابلس الغرب سنة 1911 وفرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912. وقد قام المنصف الشنوفي في الدراسة المفيدة التي صَدَّر بها تقديمه لتحقيقه كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" الذي كتبه خير الدين التونسي 1822 - 1890 بحصر كتب الرحلة إلى أوروبا في القرن التاسع عشر في المشرق والمغرب، وذلك في قائمة لها دلالاتها التي لا تخفى على دارس القرن التاسع عشر. وتقترن الدلالة الأولى بالأثر الثقافي الفرنسي الذي جعل رفاعة الطهطاوي المصري 1801 - 1873 هو الرائد في هذا الفن، وذلك بما كتبه في "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي طبع في القاهرة سنة 1834. وهي السنة التي توفي فيها أستاذه حسن العطار. واللافت للانتباه في دوافع تأليف هذا الكتاب أن صاحبه قد ذهب إماماً للبعثة التي أرسلها محمد علي إلى باريس للمرة الأولى، بعد أن جرّب إرسال البعثات إلى إيطاليا التي تعلّم فيها أبناء مصر فنون الطباعة، وعادوا منها لإنشاء المطبعة الأميرية التي طبعت كتاب رفاعة الطهطاوي نفسه. وبقدر ما كان كتاب الطهطاوي علامة على التوجّه المعرفي إلى أوروبا بوجه عام، وفرنسا بوجه خاص، كان الكتاب بداية لغيره من كتب الرحلات التي اقترن أغلبها بالسفر إلى فرنسا. ولم يكن من الغريب، والأمر كذلك، أن يكون الكتاب التالي لكتاب رفاعة الطهطاوي المصري كتاب ابن أبي الضياف التونسي "إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وملوك أهل الأمان" بأجزائه التي شملت الجزء الخاص برحلته إلى فرنسا سنة 1846، وذلك في السياق التاريخي الذي أدى إلى أن يطبع أحمد فارس الشدياق 1804 - 1888 كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق"، أو "أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام" سنة 1855 في مدينة باريس على وجه التحديد، وعلى نفقة العبد الفقير إلى ربه رافائيل كحلا الدمشقي. ويأتي بعده سليم بطرس البستاني بكتاب "النزهة الشهية في الرحلة السليمية" المطبوع في بيروت سنة 1856، وهي الرحلة التي أصدر بعدها أحمد فارس الشدياق كتابه "كشف المخبَّا عن فنون أوروبا" سنة 1863، وفيه مقارنته الشهيرة بين بلاد الفرنسيس وبلاد الإنكليز. وفي سنة 1867 تصدر ثلاثة كتب مهمة في سلسلة أدب الرحلات. أولها كتاب فرنسيس فتح الله المرّاش عن رحلته إلى باريس الذي طبع في بيروت، وثانيها كتاب خير الدين التونسي "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" الذي يتحدث فيه عن مملكة فرنسا وإنكلترا ومملكة النمسا والمملكة الروسية والمملكة البروسية ومملكة جرمانيا وإيطاليا واسبانيا والسويد والنروج وهولندا والدانمرك والبرتغال وبلجيكا وسويسرا وغيرها من الدول الأوروبية. وثالثها كتاب سليمان الحرائري الذي كتبه بمناسبة زيارة المعرض العالمي في باريس سنة 1866، وقد طبع الكتاب في السنة اللاحقة في باريس نفسها. وتتوالى الكتب بعد ذلك، ابتداء من "الرحلة النحلية" التي كتبها لويس صابونجي ونشرها في الأستانة سنة 1874، ورحلة نخلة صالح "الكنز المخبأ للسياحة في أوروبا" المطبوع سنة 1867، مروراً بمحمد السنوسي التونسي "الرحلة الحجازية" المطبوع في تونس 1883، وبيرم الخامس "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" المطبوع في القاهرة سنة 1884، وعلي الورداني "الرحلة الأندلسية" المطبوع في تونس 1888 في العام نفسه الذي شهد طبع كتاب محمد شريف سالم "رحلة أوروبا" في القاهرة. وتمضي السلسلة ليشهد عام 1891 أكثر من رحلة، تشمل دمتري خيلاط "سفر السفور إلى معرض الحضور" وحسن توفيق "رسائل البُشْرَى في السياحة بألمانيا وسويسرا" وكلاهما مطبوع في القاهرة. أما كتاب محمد السنوسي "الاستطلاعات الباريسية" فقد طبع في تونس. وتأتي سنة 1892 بكتاب أمين فكري "إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا" المطبوع في القاهرة" وبعده "السفر إلى المؤتمر" لأحمد زكي المطبوع في القاهرة سنة 1893. ويأتي مختتم القرن التاسع عشر 1900 بكتب ثلاثة هي: "سياحة مصري في أوروبا" لعلي أبو الفتوح، و"الدنيا في باريس" لأحمد زكي. وكلاهما مطبوع في القاهرة. أما كتاب محمد بلخوجة "سلوك الإبريز في مسالك باريز" الذي يذكِّرنا عنوانه بكتاب رفاعة الذي استهل هذا الفن فقد طبع في تونس.