تقيم غاليري أتاسي المعرض الأول في دمشق للرسام المصري عادل السيوي وعنوان "وجوه". وهي المرة الأولى التي تعلق "وجوه" هذا المعرض على جدار غاليري. فهي لم تعرض من قبل في مصر ولا في أي مكان آخر. ومعظمها من نتاج النصف الثاني من العام 2003 وبدايات 2004. كثيراً ما سمعنا وقرأنا عن "وجوه" عادل السيوي ورأينا بعضها بالابيض والاسود في صفحات الجرائد، ولم نكن نتوقع زيارة الجديد منها في دمشق لتستقر بحكمة والتباس وشبه استقرار على جدران دمشقية ولتألف في غضون ساعات المكان والوجوه. تنظر إليها فيتحول ماء الذهب في "وجه" ما إلى مجرد ضوء، والضوء إلى مجرد نظرة! وتحيلنا النظرة إلى إحساس باللون يحوكه المتلقي بحسب شعوره. ويحيلنا اللون الأزرق في "وجه" آخر إلى حاسة اللمس، كمن يتحسس بأصابعه جسد "جوهرة" ذاكرتها من حجر كريم. والأحمر في "وجه" فاضح الخبث والأعماق المركبة وهي تنعكس على السطح باستعراضية وحزم فتبحث العين طويلاً فيه لعلها تستطيع التوازن مع مساحات وتقاطعات خطوطه أو خيوطه. تحاول العين إبرام هدنة مع العين أو الفم أو الخلفية الشديدة التطلب وكأنما تقف اللوحة في مفصل القلق بين لحظة التحول، تحول العين مثلاً إلى فم أو لون أو إحساس من دون مصالحة أو مهادنة مع المشاهد. وجوه تصيب ببعض الإحراج وكأن إطالة النظر إليها تعزز في مضمونها حالاً من التحدي أو المنافسة، فيكتشف المتفرج أنها بدورها تصيبه بحرج التحديق، فيتلبس الوجه والوجه الآخر أدواراً ووجوهاً متواترة يدور فيها الصمت. وعلى رغم أن الفنان يعتبر الأنف أكثر صرامة في الوجه وهو: "الذي يحدد الصيغة المنطقية والبحث عن التوازن" إلا أن الأنف يمكن أن يمثل هذا الحضور المحوري ربما فقط لأنه يدل بقوة على العين أو يساهم في إبراز الفم! ويمكن العين أن تختزن فماً أو أنفاً أو ابتسامة أو ذاكرة. ذاكرة حسية لسلالات من الألوان تراها العين حية أو ترنو إليها على جدار. يعتبر الفنان منذ 1994 وحتى 2004 أن هاجس الوجه هو: "ورطة". ورطة دعاه إليها لقاء تمّ بينه وبين بورتريه أخناتون في المتحف المصري وما يحمله هذا البورتريه من تلخيص غريب لفكرة البعدين الرئيسيين: "وهما العقل والحسّ، الأنف والفم. فلا يوجد رأس شُغل بهذه الطريقة ويحمل جسداً لامرأة ورجل". وعلى رغم أن كمال خليفة ومروان قصاب باشي وفرانسيس بيكون وموديلياني وفناني الحضارات القديمة والنحت الأفريقي والقناع مرّوا جميعاً عبر "الوجوه" في رحلة الفن، إلا أن لقاء عادل السيوي مع "بورتريه أخناتون" جعله يدخل الوجوه لا البورتريه من بابه الشخصي الذاتي والثقافي الجمالي ولمدة عشر سنوات من دون انقطاع، وكأن مقولة "الوجه" الحسية الجمالية لم تتعرَّ بعد على حقيقة حريتها الكاملة. "الظهر صحراء والوجه مدينة وعمارة". يقول الفنان. والاثنتان بالتأكيد غير قابلتين للاكتمال. الدهشة في الوجه وليست في العين ولكن في قدرته "على أن يَظهر كوحدة على رغم أن أجزاءه تتنافر في علاقتها. وربما يكون هذا التنافر الذي يقصده الفنان هو تنافس أزلي بين أجزاء الوجه لإثبات مركزية أو لامركزية أو هيمنة جزء على آخر من دون إمكانية أن يُحسم هذا التنافر لمصلحة طرف دون آخر. فالأنف ينظم العلاقة بين العين والفم والخلفية واللون والابتسامة والنظرة. والنظرة ليست بالضرورة هي نظرة العين، كما أن العين ليست بالضرورة هي النظرة. فبعد أن يتملك المشاهد انطباع النظرة، يذهب محملاً بها إلى الفم أو اللون، وقد يخيل له أنهما معاً مبعث الابتسام والنظر. وقد يعود ذلك إلى اللوحة قبل اكتمالها تبعث برسائلها لنفسها بعد الاكتمال. وهي علاقة مع الذاكرة ربما، ذاكرة اللوحة لذاتها التي تصيب بحيرة داخلية هادئة وعنيدة وكأن مونولوغاً عميقاً يستمرّ ولا يستقرّ يحاول فكّ رموز الوجه بسيكولوجياً". ليس بالوجه الفرعوني ما نرى، ليس أفريقيا أو أوروبيا أو قناعاً. هو تواتر وجوه وصظظظلت في حركتها ودأبها باتجاه السطح إلى اللحظة التي نرى وترى هي. أحيانا تكون العين مقطعاً بصرياً قديماً يتماهى ضوؤها في مائها، فتغرق النظرة في تأمل طازج بغية المتعة التي تحرّض على تحدي التحليل من دون محاولة إيجاد المعاني أو حتى المعادلات. وقد يعود هذا الانعتاق من المشاهدة التقليدية إلى جرأة الفنان نفسه في عمله التي تبثّ الجرأة في عين المشاهد، وتجعل هذه العين تبحث عن جرأتها في التحرر من الشكل والمعنى المسبق من أجل لحظة اللوحة. "الابتسامة هي أكبر شيء. والوجه الذي يحمل الابتسامة هو الذي يأتيك من الآخر. عندما يكون لك وجه يعني أنك تريد أن تكون لي وليس فقط لك. الوجه هو التخاطب، هو رحلة الآخر إلى الآخر. لذلك فعندما ينزع أحد ابتسامته منا فهو يسحب ذاته منا أيضاً". وفي موقف الفنان هذا من التواصل، فاصل دقيق بين اليقين والشك والخطأ والصواب، فاصل يجعل المشاهد المحاور يعبث بمساحات اليقين والشك وكأنها امتداد للمساحة نفسها ذهاباً وإياباً بمقدار عين أو نظرة أو التباس ابتسامة. التباس يأخذ باتجاه غواية اللون والضوء في الأحجار الكريمة، وفي الذهب والفضة حيث يتدحرج اللون على صفحة الضوء في غفلة من الذاكرة، لنرى الجمال وكأنه ذاكرة آتية من الآتي أو الماضي من دون أن نسعى إلى أي وضوح. تلعب لوحة عادل السيوي لعبة التحدي مع العين! من سيطرق بنظره أولاً؟ العين أم العين في الطرف الآخر؟ من سيبتسم لاحقاً؟ من سيصاب بالملل أو بالإجهاد أو ببزوغ عاطفة مكنونة ما؟ ليس باستطاعة وجه استعراضي احتمال انكساراتها وتشققاتها في وحدة وجهه لئلا تكسر قناع التماسك أو معيار الانتباه المطلوب. ويحاول في ذلك معايرة عدم المصالحة مع المشاهد و"الوجوه"، وعدم خسارة المُشاهد في آن واحد. فيضيف في كل لوحة نظرة فوق أخرى، لمعاناً فوق غيبوبة، شبقاً فوق اكتفاء، وصرامة في التقنية والحرفة وأداء اللوحة. فتحدث فرصة عدم المصالحة كما عدم الخسارة وكأن الوجه لا ينتهي. وفي هذا جرأة على التوازن واحترام لكل العناصر، السطح والداخل كما لو كان الأول هو الثاني والثاني ليس على حساب الأول. يبتعد الفنان عن المباشرة والإيديولوجيا لتقف "الوجوه" في مساحة هي المكان والزمان معاً. مساحة ربما كانت هي الذاكرة أو الروح التي لا يستطيع الفن لمسها فيبقى على مقربة من شجنها محترماً ابتعادها المستقل عنه وقابلاً بالمساواة بين ما يملك وما لا يملك منها. "السطح أساس العمق" وبهذا المعنى يطور الفنان البحث عن الشكل والبحث عن العمق. الأذن في هذه "الوجوه" ليست للسمع أو الإصغاء. هي كومبارس للوجه أو رابط بين الخلفية والوجه أو بين اللون واللون: "لم أستطع أن أجد للأذن وظيفة، فهي تكون أحياناً وأحياناً لا تكون". تقف اللوحة في تحرر من أي انتماء سوى الجمالي والكوني، كوجه أليف يعبرك ويترك في بصرك بعض علاماته، لا نقترب منه ولا يتيح سوى التأمل فيعبر كهبة هواء.