"... ثم عرض لي أن أدرس حياة أبي العلاء، ذلك الذي أبغضته ونفرت منه، ولست أدري لم حبب إليّ البحث عن هذا الرجل؟ ولم كَلفت به الكلف كله؟ مع ان كتبه قد ضاع أكثرها، فقد خيل إليّ أني أستطيع أن أجد في ما بقي منها ما يشفي الغليل. وقد سمعت الناس يتحدثون عن اللزوميات فلا يتفقون فيها على رأي. وسمعتهم يصفون أبا العلاء بالإسلام مرة وبالكفر مرة. ورأيت الفرنج قد عنوا بالرجل عناية تامة، فترجموا لزومياته شعراً الى الألمانية، وترجمة "رسالة الغفران" وغيرها من رسائله الى الانكليزية، وتخيروا من اللزوميات والرسائل مختارات نقلوها الى الفرنسية، وأكثروا من القول في فلسفته ونبوغه. ورأيت بيني وبين الرجل تشابهاً في هذه الآفة المحتومة، لحقت كلينا في أول صباه، فأثرت في حياته تأثيراً غير قليل. كل ذلك أغراني بدرس أبي العلاء. وأنا أحمد هذا الاغراء واغتبط به، فقد انتهى بي الى نتيجة طريفة، ما كنت أنتظر ولا كان ينتظر الناس أن يصل اليها باحث. وهذه النتيجة هي فلسفة أبي العلاء وردّها الى مصادرها رداً مجملاً. ثم فهم الروح الأدبي لهذا الحكيم. وقد كان من قبل ذلك شخصاً مبهماً لا يعرف الناس منه إلا اسمه تحيط به الشكوك والأوهام...". بهذه العبارات، قدم الشاب الذي كانه طه حسين في العام 1914 لأول كتاب صدر له، بعد تخرجه في الجامعة المصرية. وكان هذا الكتاب في الأصل أطروحته لنيل "شهادة العالمية ولقب دكتور في الأدب"، الأطروحة التي قدمها العام 1914 نفسه ونوقشت في ربيع ذلك العام، ليكون طه حسين بها، أول من ينال الدكتوراه من هذه الجامعة في تاريخها. أما العنوان الذي وضعه للكتاب فهو "تجديد ذكرى أبي العلاء". والحقيقة ان هذا الكتاب/ الأطروحة، سيكون الحلقة الأولى في سلسلة كتب ودراسات عدة وضعها طه حسين عن شاعر المعرَّة وفيلسوفها، تؤكد الكثير من الروابط بينهما، ومن هذه الحلقات: "مع أبي العلاء في سجنه" و"صوت أبي العلاء". قسم طه حسين الأطروحة الى خمسة مقالات، تلي التمهيد العام الذي وضعه له، وهذه المقالات هي تباعاً: "زمان أبي العلاء ومكانه" و"حياة أبي العلاء" و"أدب أبي العلاء" و"علم أبي العلاء" و"فلسفة أبي العلاء". والحقيقة أن كل هذه الأمور تبدو لنا معروفة وذات شهرة طوال القرن العشرين الذي أعاد الاهتمام بصاحب "اللزوميات" وبوأه مكانة أساسية في تاريخ الشعر والفكر العربيين، ولكن من المؤكد ان أبا العلاء كان معروفاً أقل ومستساغاً أقل أوائل القرن العشرين، حين اختاره طه حسين موضوعاً لأطروحته، تماماً كما ستكون حال ابن خلدون، الذي سيكون طه حسين من أوائل مجددي الاهتمام به، حين اختاره واختار فلسفته موضوعاً لدراسته اللاحقة في جامعة السوربون. ولعل أهمية اضافية يمكن هنا أن نسبغها على دراسة طه حسين الأولى لأبي العلاء، هي التي تكمن في أن طه جرب على دراسته تلك، فلسفة الشك، وإن في شكل بدائي، تلك الفلسفة التي ستطبع لاحقاً دراساته كلها وإن يكن بمضامين أكثر وضوحاً وعمقاً في الوقت نفسه. وطه حسين، يوضح لنا منذ تمهيده للكتاب انه جعل "درس أبي العلاء درساً لعصره" مضيفاً انه استنبط "حياته مما أحاط به من المؤثرات، ولم أعتمد على هذه المؤثرات الأجنبية وحدها. بل اتخذت شخصية أبي العلاء مصدراً من مصادر البحث، بعد أن وصلت الى تعيينها وتحقيقها، وعلى ذلك فلست في هذا الكتاب طبعياً فحسب، بل أنا طبعيٌّ نفسيٌّ أعتمد فيه ما تنتج المباحث الطبيعية ومباحث علم النفس معاً". والحقيقة أننا لإدراك أهمية هذا الكلام يتوجب علينا أن نتذكر أنه كتب أوائل القرن العشرين، في وقت كانت أوروبا لا تزال عند أول اكتشافها، مع فرويد، دور علم النفس والتحليل النفسي في دراسة الأدب وعلاقته بحياة الأديب. وانطلاقاً من هنا يصبح من الأسهل على القارئ فهم تلك الصورة التي إذ أثرت عن أبي العلاء، واستخدمت إما لمدحه وإما لذمه، إما لتكفيره وإما لحمايته، صارت لدى طه حسين اطاراً للفهم، فهم العصر وفهم الرجل أيضاً. وهكذا يؤكد لنا طه حسين، في التمهيد، ثم بتفصيل مسهب خلال فصول الكتاب ان أبا العلاء "ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل في انضاجها الزمان والمكان والحال السياسية والاجتماعية والحال الاقتصادية. ولسنا نحتاج الى أن نتذكر الدين، فإنه أظهر أثراً من أن نشير اليه، ولو ان الدليل المنطقي لم ينته بنا الى هذه النتيجة لكانت حال أبي العلاء نفسه منتهية بنا اليها، فإن الرجل لم يترك طائفة من الطوائف في عصره، إلا أعطاها وأخذ منها... فقد هاج اليهود والنصارى، وناظر البوذيين والمجوس، واعترض على المسلمين، وجادل الفلاسفة والمتكلمين، وذمّ الصوفية، ونص على الباطنية، وقدح في الأمراء والملوك، وشنّع على الفقهاء وأصحاب النسك، ولم يعف التجار والصناع من العذل واللوم، ولم يُخل الأعراب وأهل البادية من التفنيد والتثريب. وهو في كل ذلك يرضى قليلاً ويسخط كثيراً، ويظهر من الملل والضيق، ومن السأم وحرج الصدر، ما يمثل الحياة العامة في أيامه، بشعة شديدة الإظلام". وإذ يؤكد طه حسين، في المقالة حول فلسفة أبي العلاء، أن هذا الأخير كان فيلسوفاً حقاً، نراه يدلل على ذلك بقوله ان الفيلسوف، في تعاريفه الأصلية هو الرجل الذي درس العلوم الطبيعية والإلهية والخلقية درساً علمياً متقناً، وبسط سلطاتها على حياته العملية وسيرته الخاصة، فلم يكن تناقض بين هذه العلوم وأعماله. أما إذا اتقن الرجل هذه العلوم لكن حياته ناقضتها "إذ يعرف الفضيلة ويناضل عنها ولكنه لا يصطنعها في سيرته" فإنه لا يكون فيلسوفاً، وانما هو عالم بالفلسفة... وإذ يحدد طه حسين هذا يقول "فإذ صح هذا، فإن ما قدمنا في المقالة الثانية من سيرة أبي العلاء وأخلاقه وحياته في منزله وبين الناس، ومن درسه الفلسفة في أنطاكية وطرابلس وبغداد، يدلنا على أنه كان فيلسوفاً حقاً، كما سيدلنا على ذلك درس اللزوميات...". ولعل من المفيد أن نلتفت هنا الى ان طه حسين، نفسه، حين نفدت الطبعة الأولى من الكتاب عند صدوره للمرة الأولى، بعد نجاحه الجامعي، وإذ كان عائداً لتوِّه من أوروبا في العام 1919، نشر الكتاب نفسه في طبعة ثانية، صحيح أنه لم يحدث فيه أي تعديل، على رغم انتقادات عدة وجهت اليه، غير انه وضع مقدمة لتلك الطبعة الجديدة، أبدى فيها من النقد لعمله ما لم يتجرأ آخرون على ايراده بمثل ذلك الوضوح، موضحاً ان في الكتاب "فصولاً وأقساماً تحتاج الى التغيير" وأعطى مثالاً على ذلك المقالة الخامسة التي رآها "شديدة الايجاز تحتاج الى أن يفصل القول فيها تفصيلاً يفي بما بينها وبين حكمة الهند وفلسفة ابيقور من صلة"، والمقالة الثالثة التي لا تخلو كذلك من "ايجاز في وصف الآثار الأدبية لأبي العلاء". ويستطرد طه حسين هنا آخذاً على معظم منتقدي كتابه انه لم يجد "في ما كتبوه إلا شتماً وسباً، والا طرقاً في الفهم معوجة، ومناهج في التفكير عتيقة" خاتماً: "وما زلت أنتظر نقد الناقد المخلص لا يدعوه الى نقده إلا حب العلم والرغبة في الاصلاح...". حين انجز طه حسين أطروحته هذه، كان في الخامسة والعشرين من عمره، إذ انه من مواليد العام 1889 الذي شاءت المصادفة أن يولد فيه أيضاً بعض أقطاب العصر الليبرالي الكبير في الفكر العربي مثل العقاد والمازني وعبدالرحمن الرافعي وميخائيل نعيمة. وطه طاهر حسين، ولد فقيراً قرب مدينة مضاغة، ثم أصيب صغيراً برمد أفقده بصره - وهو لاحقاً سيكتب سيرته كلها في كتابه الرائد "الأيام" -، وانتقل في العام 1902 ليدرس في الأزهر حيث أظهر ذكاء ونجابة كبيرين، كما أظهر تمرداً ومشاكسة كبيرين... وكل هذا لن يفارقه طوال حياته التالية التي مرت بالجامعة المصرية ثم بالدراسة في فرنسا والعودة الى مصر... وبدء رحلة قادته الى أعلى المراتب الجامعية ثم الوزارية وانزرعت في كتب مهمة ألفها، منها ما أثار زوابع، ومنها ما علم أجيالاً، منها ما ألفه ومنها ما ترجمه... كل هذا جعله عميداً للأدب العربي عن حق، وعلامة أساسية من علامات الفكر العقلاني العربي طوال القرن العشرين، هو الذي توفي في العام 1973.