دخل يوم 29 تشرين الأول أكتوبر تاريخ العالم، بعدما شهد توقيع الدستور الاول للاتحاد الأوروبي في مجمع "كامبيدو جليو" الذي صممه الفنان مايكل انجلو خلال عصر النهضة، في مبنى الكابيتول في مقر بلدية روما امام تمثال البابا "اينوسنتي" العاشر، وهو المبنى نفسه الذي كان شهد قبل 47 سنة توقيع ست دول هي: ايطالياوفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ على ميثاق تأسيس السوق الأوروبية. المشهد السوريالي الأوروبي على أهميته كان اللافت فيه توقيع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ووزير خارجيته عبدالله غُل على مشروع الدستور الذي يحمل من المعايير معايير كوبنهاغن ما لا قدرة لأنقرة على تحمله في المرحلة المقبلة وبرغم اجتهاد اردوغان منذ وصوله الى الحكم قبل سنتين على تنفيذ بعض الاصلاحات، وهو ما اعتبرته المفوضية الأوروبية دليلاً على "جاهزية" تركيا لبدء مفاوضات العضوية في الاتحاد، غير ان الواقع هو ان المسألة تتجاوز نطاق مدى مناسبة تركيا، من حيث الاصلاحات والمعايير الغربية، لدخول النادي الأوروبي، الى الذهاب ان هناك اهدافاً استراتيجية تقف وراء حسم اشكالية ملائمة تركيا ام لا، فأنقرة بموقعها الجيوستراتيجي وافكارها او ميولها السياسية تحظى باهتمام كبير في الدوائر الأوروبية يتجاوز الانضمام للاتحاد بحسب وفائها بالالتزامات المطلوبة منها، ولأن التقدير النهائي لحل ألغاز هذه المسألة وفك شفراتها السياسية لم يصدر بعد، فقد رؤي من المناسب ان تكون مفاصل الحسم معلقة حتى اشعار آخر، وفي اعتقاد المراقبين ان اوروبا في حاجة الى تركيا اكثر من حاجة انقرة إليها. فالأولى تسعى لتنشيط دورها في الشرق الاوسط وقنواتها مسدودة، بسبب تحفظات اسرائيل او ممانعات الولاياتالمتحدة او الاثنين معاً، وهي تحتاج الى دولة تمتلك ميراثاً كما ان قبول تركيا يمثل اختباراً لصدق اوروبا في شأن الاصلاحات وتشجيع القائمين عليها في اطار مشروع الشرق الأوسط الموسع، الذي أكدته مجموعة عمل من الخبراء التي أوكل اليها الاتحاد الأوروبي مهمة تحليل الموقف بعد احتلال العراق وتصور استراتيجية للاتحاد يعمل على تنفيذها. وجاء في توصيات مجموعة العمل في ما يتعلق بتركيا: ان الحرب على العراق خلقت اوضاعاً جيوغرافية وجيواقتصادية جديدة لأوروبا في منطقة الشرق الاوسط، تحبذ ضم تركيا الى الاتحاد. فعندما تكون تلك الدولة بحجمها وعمقها في الشرق الاوسط ضمن الاتحاد، سيكون لأوروبا وللمرة الأولى عمق استراتيجي في الشرق الاوسط وستمثل تركيا الجبهة الجنوبية الشرقية للاتحاد، وستتاخم العراق وسورية وايران، وهي من الدول التي تجاور تركيا التي ستقوم بدور الوسيط مثلاً عن أوروبا في التعاملات الاقتصادية والتجارية مع العراق من دون ان تتورط دول أوروبية في مستنقع بلاد ما بين النهرين كما هو يحدث مع الولاياتالمتحدة حالياً. ووفق هذه الاستراتيجية للاتحاد لن يكون غريباً ان تصبح "المسألة التركية" احد عناصر استراتيجية الأمن القومي لألمانيا، بعيداً من مناورات انتخابية تستجدي اصوات الاتراك المتجنسين بالألمانية، وايضاً لأن ترحب برلين بأن تكون حائط الصد لمحاولات رفض عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي سواء كان ذلك من احزاب معارضة داخلية او من فرنسا الشريك الأوروبي المتحالف مع المانيا، ولو طال الزمن واستمرت مفاوضات الانضمام عشرة او خمسة عشر عاماً كما حددها المستشار شرودر. فأحد اهداف الضم كما أعلن "تحقيق قدر عال من الاستقرار في الشرق الاوسط وأوروبا ايضاً اذا ما أمكن جمع صيغة من الاسلام غير المتطرف جنباً الى جنب مع قيم التنوير الأوروبية"، وأكد اردوغان من ان انتماء تركيا للاتحاد من شأنه ان يرد اطروحة صراع الحضارات، وان الثقافات المختلفة يمكن ان تتعايش في تناغم على أساس المبادئ الكونية المتعارف عليها كالتعددية الديموقراطية واحترام حقوق الانسان، لذلك يطالب الزعيم التركي اردوغان القادة السياسيين في أوروبا ب"تغيير عقلياتهم" استقبالاً للشرق المتغير معلناً على مسؤوليته ان تركيا تعتبر نفسها جزءاً من مجموعة القيم الأوروبية، معتبراً ان الثورة الفرنسية كانت مرشداً لتركيا في مسائل حقوق الانسان والحريات وسيادة القانون، والاتحاد الأوروبي الديموقراطي العلماني شكل مصدر إلهام في تطور تركيا التي ستغني الاتحاد الأوروبي بموقعها في العالم الإسلامي، ما سيسهم في مصالحة أوروبا والعالم الاسلامي بدل اثارة صدام الحضارات، لذلك يشعر أردوغان بالحيرة ازاء العدائية الفرنسية تجاه انضمام أنقرة، وتساءل: "لماذا يخشى الناس تركيا الى هذه الدرجة؟". هذا التلخيص التركي ل"الحيرة" والتذكير بأهمية تركيا في "حوار الحضارات" في زمن "صراع الحضارات" بل "احترابها" قد يبدو ساذجاً للوهلة الأولى، غير ان زعيم حزب العدالة والتنمية، أردوغان يدرك جيداً الاسباب الحقيقية للتحفظات الأوروبية، ويدرك في المقابل نقاط قوة أنقرة في هذه المرحلة بالذات التي تضعف هذه التحفظات. وتجعل الكثير من دول الاتحاد الأوروبي إما متحمسة لبدء محادثات العضوية او تفكر مرات عدة قبل اعلان رفضها لضم أنقرة. * كاتب سوري.