كشف البنك الدولي في نيويورك أن الرشى التي يتم دفعها في العالم سنوياً تقدر بأكثر من ألف بليون دولار. وذكرت هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي ان ذلك يأتي في الوقت الذي يشهد العالم احتفالاً بيوم مقاومة الفساد، وهو الأول من نوعه الذي تنظمه الأممالمتحدة لمحاربة أوجه الفساد. وأوضحت الوكالة أن"منظمة الشفافية العالمية"، ومقرها برلين ستكشف في هذه المناسبة عن نتائج دراسة أجرتها حول خبايا الرشى، والجهات التي تحصل عليها في 64 دولة. منذ نصف قرن، كانت الرشوة محدودة وقليلة، وبالتالي كان القانون يعتبرها مخالفة ويعاقب عليها بالغرامة. ومع انقضاء العقود ترعرعت الرشوة ونمت وازدهرت فأصبحت في التوصيف القانوني جنحة، بعد كثرتها تحولت في القانون الى جناية، وعلى رغم تغليظ العقوبة عليها لم يمنع هذا من زيادة نموها وازدهارها، حتى صارت نظاماً خفياً الى جانب النظام العلني القائم، وأصبحت لها تقاليد متأصلة. وهناك من يرى أن الظروف الاقتصادية هي المسؤولة عن زيادة الرشوة، وقد يكون هذا أحد العوامل الضعيفة، الى جوار خراب الذمم، ولكن العامل الرئيس في زيادتها ونموها هو النظام البيروقراطي في مصر. ان الموظف محدود الدخل ومرتبه معروف لا يزيد ولا ينقص، ولكن هذا الموظف نفسه لو وضع توقيعه على ورقة لمستثمر فسيقبض هذا المستثمر ملايين الجنيهات، هنا يكفي ان يؤجل الموظف توقيعه أياماً أو أسابيع أو شهوراً حتى يفهم المستثمر ويفتح مخه ويعرف أن الموظف يريد نصيبه من الرشوة. وهذه صورة من صور الرشوة... وهناك صور أخرى. صور وصلت الى محاكم الجنايات ووقف فيها اعضاء من مجلس النواب وراء القضبان، وكانت التهمة الموجهة اليهم أنهم خدعوا المصارف واقترضوا منها بلايين ثم توقفوا عن السداد فكيف منحهم المصرف كل هذه الأموال. هنا تفوح رائحة الرشوة، وليس المرء في حاجة الى ذكاء ليعرف من الذي ارتشى، انه الموظف أو الموظفون المسؤولون عن الاقراض، وهؤلاء لا يجدون مشقة في تبرير الإقراض وتبرير عدم السداد وتحميل تقلبات السوق مغبة ما حدث. لماذا يلجأ الناس إلى الرشوة؟ تقول الامثال العامية المصرية:"البرطيل"شيخ كبير، و"البرطيل"هو الرشوة، ومعنى أنها شيخ كبير أنها قادرة على تحقيق المصالح والكسب الهائل من دون عمل. أيضاً تقول الأمثال الشعبية: ارشوا تشفوا... أي أن الشفاء السريع مرهون بالرشوة، على رغم ان الرشوة في حقيقتها أكل لأموال الشعب بالباطل، وهي خطيئة دينية الى جوار إفسادها للحياة الاقتصادية والاجتماعية، على رغم أنها محرمة دينياً إلا أنها استفحلت الى الحد الذي وصلت فيه الى ألف بليون دولار، وهذا رقم فلكي يستطيع حل مشاكل افريقيا كلها. حكى لنا صديق كانت بينه وبين الحكومة معاملات مالية، وكان له شيك مضى الموظف يؤجل فيه، وذهب صاحبنا الى شيخ جليل من علماء الدين وقال له القصة وسأله - أنني لن آخذ حقي إلا إذا رشوت الموظف، ماذا أفعل.. قال له الشيخ العالم - أنت في موقف المضطر، أعطه شيئاً بنيّة الهدية، وأعلم أن الرشوة حرام. حملت هذه القصة لاستاذ أكاديمي يساري، استمع للقصة وقال هذه ليست رشوة، إنما هي إعادة توزيع للدخل القومي. هذا الرد المرير الساخر يعبر عن النظرة التي نتعامل بها مع الرشوة. وقعت هذه القصة لرجل أعمال، ووصلت الى القضاء، وربح القضية وعلى رغم ذلك لم يسلم من عناكب البيروقراطية. اشترى صاحبنا أرضاً في الصحراء، واستصلحها فصارت أرضاً خضراء، راح يبيعها للراغبين في الجو النقي الذي يخلو من التلوث والذي صار علماً على العاصمة. كانت هناك أوراق كثيرة من بينها ورقة لم يوقع عليها الموظف، كان يريد رشوة قدرها مليونا جنيه، ذهب رجل الاعمال الى السلطات الرسمية، وتم تصوير واقعة الرشوة وقدم الموظف للمحكمة وحُكم عليه بالسجن، على رغم هذا كله لم يحصل رجل الاعمال على عقد نقل الملكية واتحدت البيروقراطية كما اتحد الفساد ضده، ووجد رجل الاعمال من بين اصدقائه مَنْ يقول له - لماذا لم تدفع الرشوة وتريح بالك وتحصل على حقك.