تشهد الجزائر ظاهرة إيجابية وغريبة في آن، أثارت حرباً كلامية هادئة لم ينتج منها إراقة دماء هذه المرة، وان لم تبد نهايتها قريبة. طرفاها من جهة شباب عاطلون من العمل، غير مولعين بالقراءة ومستواهم الدراسي محدود، لكنهم يستقطبون يومياً عشرات القراء والفضوليين الذين يتوافدون على عدد من الشوارع والأرصفة، التي تحولت إلى رفوف تصطف فوقها مئات الكتب النادرة والقيمة أحياناً، والتي تباع بأسعار زهيدة. وفي الجبهة المقابلة، يقف اصحاب مكتبات حيارى، ينفقون أموالاً طائلة ويعرضون كتباً جديدة ومستوردة، لكنهم يشكون هجرة القارئ وغياب سياسة للكتاب، في بلد تقول الإحصاءات إن شعبه يتحدث أكثر مما يقرأ. وليست فكرة بيع الكتب القديمة فوق الأرصفة، جديدة بالنسبة الى الجزائريين الذين امتهنوها منذ عهد الاستعمار، لكنها لم تشهد أبداً ازدهاراً كالذي تعرفه منذ ثماني سنوات، بعد أن تحولت بعض الأرصفة، لا سيما في شارع البريد المركزي وشارع خليفة بوخالفة وسط العاصمة، إلى رفوف مكتبية، يؤمها الطلاب والمثقفون، وعدد كبير من الفضوليين. معظم الجزائريين يعتبرون الظاهرة حالاً صحية، وباتت لدى البعض مفخرة، تذكرهم بشارع المتنبي في بغداد. ومعظم الباعة شباب دفعتهم الظروف الاجتماعية والبطالة للوقوف ساعات طويلة تحت أشعة شمس محرقة وتحمل البرد القارس في الشتاء، مقابل دراهم قليلة. ويتردد بعضهم على منازل الأثرياء والأدباء والسياسيين ليحصلوا منهم على آثاث وكتب قديمة يبيعونها لهم ويحصلون على"بقشيش"، بدلاً من أن يضطر أصحاب الكتب للقيام بذلك. بدا محمد 25 عاماً منهمكاً في ترتيب كتبه في ساعة مبكرة في شارع البريد المركزي. يقول محمد إنه اختار هذه المهنة بعدما فشل في اجتياز عقبة البكالوريا، ولم يحصل على عمل آخر، على رغم حيازته على شهادة مهنية في التصوير. ووافق محمد أن يتحدث إلينا، فيما امتنع زملاؤه. ويبرر موقفهم بقوله:"هؤلاء الشباب أصبحوا يرفضون الحديث مع الصحافيين، لأن كتاباتهم لا تغير من ظروف عملنا شيئاً، فنحن نطالب باستمرار أن يتم تنظيمنا، وأن تمنح لنا طاولات أو تبنى لنا دكاكين تحفظ الكتب من التلف والأمطار، وألا يتم خلطنا مع من يبيعون الملابس وبقية الآثاث، لكن لا حياة لمن تنادي". ويضيف:"أنا هنا منذ سنتين، وهناك من زملائي من يمارس هذه المهنة منذ ثماني سنوات. اخترنا هذا العمل لأننا عانينا البطالة، كما أن بيع الكتب القديمة على الأرصفة لا يتطلب تحضير ملف إداري، أو الانتظار سنة كاملة لننطلق في العمل، إذ يكفي أن تدفع مبلغاً رمزياً لمسؤولي البلدية نظير الحصول على الترخيص، ثم تحصل على كتب لتقوم ببيعها". ويقول عامر 30 عاماً، أحد الباعة القدامى للكتب، الذي تسرب من المدرسة باكراً لينفق على عائلته:"مدخولنا ليس كبيراً، لكن كما يقول المثل اكسب الدينار وحاسب البطال. والجيد في الأمر ان رجال الأمن لا يطاردوننا باستمرار كما يفعلون مع بقية الشباب الذين يبيعون سلعاً أخرى، فنحن نبيع العلم. ويحدث بين الحين والآخر أن يطلب منا مغادرة المكان ليومين أو ثلاثة لظروف أمنية، كما حصل عندما استضافت الجزائر ملتقى إفريقيا". ويستطرد:"نحن نتفهم الأمر، فالمسؤولون لا يريدون أن تبدو العاصمة سوقاً فوضوية، لكننا نطلب منهم أن يخصصوا لنا مكاناً منظماً، فبيع الكتب موجود في فرنسا وسورية والعراق أيضاً كما قال لي أحد الزبائن". وعن مصدر الكتب، يجيب محمد:"الحصول عليها يكون صعباً في الأيام الأولى، لكن مع مرور الوقت، يعرفنا زبائننا ويثقون بنا، فيأتون إلينا بأكياس وعلب كبيرة تحوي كتبهم القديمة، فنبيعها لهم ويعودون بعد أيام لتسلم أموالهم". أما الأسعار، فتثير الاهتمام احياناً، ذلك أن المستوى الثقافي والتعليمي المحدود لغالبية الباعة اليافعين، يجعلهم أحياناً يبيعون كتباً قيمة ونادرة بأسعار رمزية جداً، من دون أن يدركوا ذلك. ويلجأ بعضهم إلى الاستفسار عن قيمة الكتاب لدى أصدقائه من الطلبة الجامعيين قبل عرضه للبيع على الرصيف. ويذكر عدد من الزبائن، أنهم لاحظوا الباعة وهم يحددون سعر الكتاب بناء على حجمه، ونوعية غلافه! ويقول علي رحايلية 34 عاماً:"اعتدت أن أشتري من هؤلاء الباعة، فلديك فرصة المساومة على سعر الكتاب، والحصول عليه بسعر قد يصل إلى نصف ما هو معروض في المكتبات. ومع مرور الوقت أصبحت أطلب من الباعة أن يبحثوا لي عن عناوين معينة للكتب وأعود لاحقاً لاقتنائها". وعلى الجانب الآخر، يقف أصحاب المكتبات في حيرة من أمرهم، فهم ينفقون أموالاً طائلة لاستيراد الكتب من دول عربية، خصوصاً سورية ولبنان ومصر، ويدفعون رسوماً جمركية وضرائب تصل إلى 25 في المئة من دون أن يشهدوا إقبالاً كبيراً عليها. وتصر الحكومة على رفض تخفيض الرسوم على الورق لتشجيع طباعة الكتاب والصحف، كما تراجعت عن سياسية دعم استيراد الكتب. ويقول عبدالرحمن علي باي، مدير مكتبة"العالم الثالث"التي يتردد عليها أشهر الكتاب والأدباء الجزائريين:"ليس لدينا للأسف ثقافة الكتاب والتردد على المكتبات، وأنا لست ضد هؤلاء الشباب، الذين يلجأ بعضهم الى سرقة ما يعرضه من كتب. وإذا استمرينا على هذه الحال سيتخلى الناس عن المكتبات، ونجبر نحن على الاقفال". ويعتقد محدثنا أنه ليس للشباب ميول للقراءة، ومعظم الذين يترددون على مكتبته هم من الطلبة الذين يقتنون كتباً طلبها منهم أساتذتهم لإنجاز بحث معين. لكنهم لا يقرأون في مجالات أخرى، بهدف المتعة وتطوير الرصيد المعرفي، وهناك من الشباب من يدخل المكتبة ويقرأ صفحة أو صفحتين من الكتاب موضوع بحثه، ويفعل كذلك في مكتبات أخرى، إلى أن يحصل على المعلومات المطلوبة، لعجزه مادياً عن اقتناء الكتاب أو عدم رغبته فيه. ويرى الروائي الطاهر وطار رئيس"جميعة الجاحظية"، إن"المدرسة الجزائرية مسؤولة عن عزوف الشباب عن القراءة، لأنها لا تنمي عند الطفل ملكة المطالعة، إلى جانب كثافة البرامج التي لا تترك وقتاً للقراءة". وتقول نور الهدى 23 عاماً المتخرجة في معهد الإعلام:"الشباب لا يقرأ لأن المكتبات المدرسية والجامعية تكاد تكون شبه فارغة، كتبها أكل عليها الدهر وشرب، وكل ما أقرأه من كتب أقوم إمّا اشتريه على حساب مستلزمات أخرى، أو أستلفه إلى حين انتهي منه". وكشفت دراسة أعدها الديوان الجزائري للإحصائيات العام 2002، بالتعاون مع جامعة الدول العربية، وطاولت 3268 عازباً بين سن 15 و29 عاماً في الوسط الحضري والريفي، أن عدم التمدرس في هذا السن بلغ 71.6 في المئة، و8.8 في المئة أميون، و3.6 في المئة فقط وصلوا الى المستوى الجامعي. ويقول المتتبعون للساحة الإعلامية الجزائرية، إن الصحف اليومية بلغت 52 جريدة، إلى جانب الأسبوعيات وعدد ضئيل من المجلات، ومعظم قراء الجرائد هم من"المعرّبين"، بينما يميل الناطقون بالفرنسية إلى قراءة الكتب باللغة الفرنسية الأكثر مبيعاً في السوق. وتساهم مقاهي الانترنت في شكل ضعيف في توسيع معارف الشباب الجزائريين، بسبب ارتفاع أسعار الخدمات من جهة، وميل الشباب لاستخدام الانترنت بهدف دخول مواقع الدردشة، أو ما يسمى بنوادي التعارف في معظم الحالات، بينما لا تملك الجزائر سوى عدد ضئيل من المواقع على الشبكة ، ويراهن المسؤولون على ربط 40 إلى 50 في المئة من الجزائريين بشبكة الانترنت العام 2010.