اذا كانت الزرقاء قد انبتت تيارات عنفية من رحم ازمات سياسية واجتماعية عرضناها في الحلقة الثانية، فان مدينة السلط الشرق اردنية التي التحقت، متأخرة ربما، بركب السلفية الجهادية، جاء التحاقها مدوياً اكثر. فعدد القتلى من ابناء المدينة في العراق يتعدى عددهم في اي مدينة اردنية. لكن للسلط خصوصية مختلفة في علاقتها بهذا التيار، اذ لطالما اعتبرت المدينة ركن النظام وحارسة الهاشمية. من المدينة اعلنت المملكة، وخرج من عشائرها خمسة رؤساء حكومات وعشرات الوزراء والمسؤولين. كما ان لحركة الأخوان المسلمين المختلفة مع التيارات العنفية هذه وجوداً تاريخياً في المدينة. الحلقة الثالثة من سلسلة التحقيقات هذه، تتضمن لقاءات مع "مجاهدي" السلط الخارجين عن عشائرهم وعن اخوانيتهم، والمنتظرين كما اخوانهم في الزرقاء فرصة للالتحاق بأبي مصعب الزرقاوي في العراق. في الزيارة الثانية لمنزله في مدينة السلط التي تبعد نحو 23 كيلومتراً عن عمان، كان الشيخ جراح قداح يجلس امام منزله والى جانبه شيخ آخر بدا واضحاً انه من الجماعة التي ينتمي اليها جراح، اي السلفية الجهادية. انه لقمان ريالات، منظّر هذا التيار في السلط وأحد ابرز الذين يشير اليهم "جهاديو" السلط عندما يتحدثون. لكن الرجلان لم يستقبلانا على النحو الذي استقبلنا به جراح في زيارتنا الأولى!. كانا مرتبكين، ومن الواضح ان ثمة طارئاً حدث. ولم يطل الأمر ليخبرنا جراح ان الأجهزة الأمنية الأردنية استدعتهما، وهما الآن ينتظران حلول الساعة الثالثة حتى يتوجها الى مركز المخابرات. حاول جراح ان يخفف من اهمية الأمر، لكن ارباكه لم يسعفه. اما لقمان فبدا اشد تماسكاً من اخيه في "الجهاد". رأى باسل ان الأمر قد يكون روتينياً، وان عدم ارتباك لقمان مرده ادراكه ان هذا الاستدعاء اجراء لن يؤدي الى توقيفهما، وان آلية هذا النوع من الاجراءات تخضع في مدينة السلط لقواعد علاقات الدولة وأجهزتها بالعشائر السلطية، الا اذا تعلق الأمر باكتشاف مؤامرة تهدد امن الدولة مباشرة. وتوقع باسل ان تتدخل عشيرة الريالات، وهي من عشائر السلط الكبيرة، لدى الأجهزة الأمنية ويؤدي ذلك الى الافراج عن لقمان وعن جراح، مع اشعارهما بأنهما تحت المراقبة الدائمة. يسمي السلفيون الجهاديون في الأردن مدينة السلط "مدينة الشهداء". فقد قتل من ابناء المدينة الى الآن اكثر من عشرين شاباً اثناء قتالهم مع ابي مصعب الزرقاوي في العراق. وهذا الرقم هو الأكبر في الأردن، ناهيك عن ان عدد سكان مدينة السلط لا يتجاوز الثمانين الفاً. وفي حين صدر التيار السلفي الجهادي في مدينة الزرقاء عن مجتمع هجين تجاورت فيه اخلاط فلسطينية واردنية وشيشانية، وعن بيئة فقر ونزوح واضطراب، صدر هذا التيار في السلط عن مجتمع اكثر تجانساً ووضوحاً وانسجاماً. اكثر من ثمانين في المئة من سكان مدينة السلط عشائر شرق اردنية، اضافة الى عائلات فلسطينية نابلسية سبق قدومها الى المدينة عمليات النزوح الفلسطيني الى الأردن بين عامي 1948 و1967. ولكن يبدو ان "السلفية الجهادية" دخلت الى المجتمع السلطي من ابواب اخرى، وما اكثر الأبواب في هذه المجتمعات. وربما كانت الأسباب التاريخية وحدها هي وراء بقاء الزرقاء عاصمة "الجهاد"، ولولا ذلك لاستحقت السلط هذه التسمية نظراً لكثرة "الخارجين" منها الى ساحات "الجهاد" في العراق. جنود "الجهاد الجديد" من السلط، فيما قادته من الزرقاء، و"الجهاد" في الزرقاء ظاهرة اقدم واعرق، فربما كان تماسك المجتمع السلطي وانسجامه مكناه من اطالة امد مقاومته غزو المجاهدين عقول شبابه، فيما كان سهلاً على هؤلاء ان يتكاثروا في الزرقاء، فجاء الالتحاق السلطي المتأخر بركب "المجاهدين" اكثر دفقاً وسرعة بعد تحطم السدود. معادلة اخرى قد تعكس تفاوت الالتحاق ب"الجهاد" بين مدينتي الزرقاء والسلط، وتتمثل في ان وجهة خروج العدد الأكبر من"المجاهدين" الزرقاويين كانت افغانستان وتابع بعضهم الى العراق، وعدد القتلى الزرقاويين في افغانستان يفوق عددهم في العراق، فيما ارقام السلط معاكسة تماماً، ف"الخروج" منها في شكل اساس، كان وما زال وجهته العراق، باستثناء رائد خريسات ومجموعة صغيرة حوله كانت قد خرجت مع ابو مصعب الزرقاوي عام 1999 الى معسكر هيرات، ومنه انتقل رائد وجماعته عبر ايران الى جبال بيارة في شمال العراق حيث قتل هناك مع مجموعته، وقبل رائد طبعاً هناك القيادي في تنظيم "القاعدة" ابو الحارث الحياري وهو ما زال في افغانستان الى اليوم. من لم يتح لهم "الخروج" الى العراق من السلط من انصار التيار السلفي الجهادي كثيرون بحسب الشيخ جراح. انهم موجودون الآن في المدينة بحكم عدم تمكنهم من "الخروج". انها المعادلة التي تتعامل معهم بموجبها الأجهزة الأمنية الأردنية. عليها دائماً ان تتحقق من وجودهم وان تقف عند حدود تحفزاتهم، اضافة الى مراقبة مدى استعداداتهم للتفكير في أهداف داخلية. لكن ما يعلنه مجاهدو السلط يبقي على شعرة معاوية. لا اهداف في الأردن، والعراق هو الوجهة والدعوة سائرة على هذا النحو في الوقت الراهن. قبل يوم من استدعائهما لقمان ريالات وجراح قداح كانت جلسة طويلة في منزل الشيخ جراح في حي العيزرية الواقع على قمة احدى التلال الثلاثة التي تؤلف مدينة السلط. الجلسة ضمت عدداً من المنتمين الى تيارهما. لقمان لم يكن موجوداً في حينها، فالقبضة الأمنية شديدة عليه وهو اكثر افراد الجماعة خضوعاً للرقابة. وبدأ جراح حديثه عن ابو مصعب الزرقاوي قائلاً "ابو مصعب يأسر القلوب بخصاله الطيبة. نعمَ الرجل نعمَ الرجل نعمَ الرجل. لقد عرفته في السجن اولاً، اذ كنت ازوره في سجن الجفر ثم في سجن السلط ثم في سجن سويقة. وبعد الافراج عنه عام 1999 بقيت التقي به لمدة اربعة اشهر، فكانت بالنسبة لي افضل من اربعة قرون، وهاجر بعدها هو الى الباكستان ثم الى افغانستان. انا اليوم من الداعين لأفكاره ولا اختلف معه بشيء وأقول: اللهم زد وبارك". "الأخوّة" التي تجمع الشباب المتحلقين في غرفة الاستقبال في منزل جراح والمتمثلة بأفعال وادوار في الأحاديث والمجالسة، تنضح منها تراتبية خفرة يمتثل اليها الشباب من دون انتباه. عندما يتكلم جراح يسكت الجميع وعندما يباشر خالد بالكلام ينظر الى شيخه بما يشبه الاستئذان. وبنظرة استئذان من هذا النوع باشر خالد كلامه فقال "لم اخرج الى الجهاد في العراق، لأن الله اختار اخوتنا ليسبقونا الى هناك. خرجوا عندما كانت الطريق آمنة الى هناك، ولكن الآن اذا كتب الله لنا سبيلاً للخروج سنخرج. هذا الكلام نقوله جهاراً نهاراً. اذا كان هناك سبيل للخروج سنخرج والا نقع في الأثم". يعدد "مجاهدو" السلط قتلاهم في العراق من ابناء المدينة دائماً امام ضيوفهم. يفعلون ذلك وكأنهم يذكرون ابناء المدن الأخرى بتقدمهم عليهم في "الجهاد". ومن هؤلاء وبحسب الترتيب الزمني لمقتلهم، لؤي الكايد ورائد خريسات ومعتصم درابكة ومحمود النسور، وهذه المجموعة قتل افرادها في يوم واحد في بداية الحرب في جبال بيارة في شمال العراق. بعدهم قتل قتيبة ابو عبود وامجد دباس، ثم منذر الطموني وبلال الجغبير ومعاذ النسور، وهذا الأخير لم يكرس بعد "شهيداً" لأن والده ما زال يعتقد انه حي. وهناك ايضاً شحادة الكيلاني ونضال عربيات وعبد الاله الذهبي ومحمود القاضي، وآخرون ربما سقطوا من ذاكرة الشيخ. ومن المفقودين محمد الخطيب وماجد القبوع اللذان شوهدا مأسورين في مدينة البصرةجنوبالعراق. ومن الأسماء التي كشف عنها "مجاهدو" السلط لاخوة لهم ما زالوا يقاتلون في العراق، محمد قطيشات وآخرون ذهبوا الى الجهاد وعادوا، منهم محمد جميل عربيات ومعمر الجغبير ومقداد الدباس وبلال الحياري واحمد ريالات وموفق العبادي، ومعظم هؤلاء في السجن اليوم. كما حاول عشرات من ابناء السلط ان "يخرجوا" لكنهم اعيدوا عن الحدود. وجميع الذين وردت اسماؤهم هنا هم من التيار السلفي الجهادي. ثمة "خروج" آخر يؤديه هؤلاء الرجال والشباب في السلط مختلف عن "الخروج" الى العراق، اذ ان مجرد التزامهم بالتيار السلفي الجهادي يعني خروجهم من عشائرهم التي تشكل في السلط النصاب السياسي الأول والأرسخ في هذا المجتمع العشائري. فعشائر السلط لطالما كانت وحدات سياسية لا يمكن للأحزاب والأفكار تجاوزها، وهي اعتبار اول في الانتخابات البلدية والنيابية، هي التي ترشح وهي التي تختار. وأهم عشائر السلط هي العواملة والكريشات والحياصات والنسور والخريسات وعربيات والحيارات وابو رمان والقطيشات والدبابسة، وهناك عائلات شامية وفلسطينية قدمت الى المدينة منذ بدايات القرن الفائت، كما ان فيها عائلات مسيحية مثل عائلات المعشر وابو جابر والشاعر. اشارات كثيرة يطلقها الشيوخ السلفيون الجهاديون في السلط عن مأزق علاقاتهم بعشائرهم. ويقول جراح "ان ما يفرحنا اننا تمكنا من اختراق العشائر، وهذا ما يذكرنا بأيام قريش. نحن الآن نحارب العشائرية، هذه العصبية المقيتة، فما يجمعنا هو دين واحد، اما العشيرة فننسب اليها للتعارف فقط. الآن تجد من بيننا من يلتقي على اعلان الحرب على ما في عشيرته من فساد وباطل". لكن الأمر لا يقتصر على اعلان الحرب على العشائر، فثمة وقائع تؤكد التصادم، منها مثلاً ما اشار اليه خالد عن قيام الأخوة بمناصرة احد الشباب عندما وقع خلاف بينه وبين عشيرته، اذ يبدو ان زعيم هذه العشيرة لم يعجبه التزام الشاب بالسلفية الجهادية "فأعلن الحرب عليه وصادر منزله، الذي يبدو ان العشيرة هي من اسكنته به، فوقفنا الى جانبه وواجهنا عشيرته، وكنا اقرب منهم اليه، وهو الآن مجاهد في العراق وربما يعود الينا شهيداً فنزفه عريساً جديداً في السلط". صور اخرى من صور محاولات حلول "المجاهدين" محل زعماء عشائرهم في تصدر الحياة الاجتماعية في مجتمع السلط، فالشاب محمد هاني عربيات وهو ابن عم القيادي في الاخوان المسلمين عبد اللطيف عربيات، هو احد الملتزمين بالتيار السلفي الجهادي روى كيف انه تزوج من عشيرة اخرى وان الشيخ جراح هو من ذهب الى منزل عروسه وطلبها على رغم ان عشيرته من اكبر عشائر السلط، ووالده موجود ولديه 12 عماً وشيخ عشيرة. اهل العروس وافقوا لأنهم منتمون الى السلفية الجهادية وتحديداً شقيق العروس. اما اهل محمد فهو سبق وتمكن من "اهدائهم"، وبقيت عشيرته الأوسع التي يبدو ان صلتها بعائلته ليست على ما يرام. ويشير محمد الى ضغوط كبيرة يتعرض لها من ابناء عشيرته فيقول: "يحاربونني ويطلبون مني ان لا احدث ابناءهم في الشارع. قال لي احدهم انا لا اريد لأبني ان يذهب الى المسجد". ويبدو ان الشيخ جراح تحول بصفته احد ابرز الجوه السلفية الجهادية في الأردن الى شخص تفضل العائلات عدم احتكاكه بأبنائها، ويروي شاب سلطي ان ثمة مقولة محلية مفادها انه "في العيزرية غورتين تعبير محلي على الشبان تفاديها واحدة جراح قداح وثانية لأحد فتوات السلط الذي يقضي معظم ايامه في السجن". ويشبّه جراح اضطراب علاقتهم مع العشائر من ابناء المدينة ب"اضطراب علاقة الرسول بقريش في بداية دعوته"، فيقول "نحن الآن في بداية الدعوة ومن الطبيعي ان لا يقبلنا الكثيرون، تماماً كما لم تُقبل دعوة الرسول ص في بداية دعوته، فنبذته عشيرته ولكنه عاد وصار سيدها". لكن يبدو ان هناك خروجاً ثالثاً اقدم عليه "مجاهدو" السلط، اذ يبدو ان الحركة السلفية الجهادية في المدينة تمت الى الحركة الاسلامية التقليدية بقرابة متينة على رغم التكفير المتبادل الذي يطلقه كل من الطرفين على بعضهما. فوجود حركة الاخوان المسلمين في مدينة السلط وجود تاريخي، ومعظم مرشدي هذه الحركة هم من ابناء المدينة من الشيخ عبد اللطيف ابو خورم والشيخ محمد عبد الرحمن خلافة، اضافة الى قيادات اخوانية اخرى مثل عبد المجيد ذنيبات وعبد اللطيف عربيات. ولا يبدو ان منهج الاخوان المسلمين يهدف الى زعزعة التركيب العشائري، بل على العكس، فلطالما وازن هؤلاء بين افكارهم ودعاويهم وبين الحقائق العشائرية الثقيلة في المدينة، فكانوا يترشحون الى الانتخابات في قوائم العشائر. والاخوان المسلمون، وفي فترة الأولى من مرحلة الجهاد الأفغاني، انخرطوا في هذه الظاهرة غير مدركين الخطر الذي يمكن ان يشكله ناشطوهم من الأفغان العرب بعد عودتهم من افغانستان محملين بالسلفية الجهادية على نفوذهم، فسيعود هؤلاء مقتنعين ان القبول بهذا الوضع "الجاهلي" هو الكفر بعينه. ذهب بعض السلطيين الأخوان الى افغانستان في الحقبة الأولى وعادوا هذا النحو. ويبدو ايضاً ان ثمة صراع اجيال داخل الاخوان في الأردن، اذ ان خطابهم الهادىء وقبولهم الدخول في العملية السياسية لم يرض الأجيال الاخوانية الجديدة ولم يشبع حاجاتها، في ظل ازدهار الدعاوى العنفية، وانعدام الأفق السياسي. الشاب لقمان ريالات، وهو الوجه السلفي الجهادي الأبرز اليوم في السلط، ابن احد قياديي الاخوان في المدينة. اما معمر الجغبير، وهو من عائلة اخوانية واعتقل في ايران اثناء عودته من افغانستان وسُلم الى الأردن، فكلفت عائلته محامياً من الاخوان المسلمين للدفاع، بعدما رفض دفاع محام "مشرك" عنه. والشرك هو الوصف الذي يطلقه السلفيون الجهاديون على جماعة الاخوان المسلمين في الأردن بسبب قبول الاخوان الترشح الى الانتخابات النيابية، فالتشريع بحسبهم هو مهمة الهية لا يمكن التساهل مع من يتصدى لها من البشر". يبدو ان العلاقة بين الاخوان المسلمين وانصار ابي مصعب الزرقاوي من السلفيين في السلط امتن من علاقة الاخوان بهم في الزرقاء. في السلط تنصهر هذه القرابة بالأرحام وبتداخل العشائر وانسجامها. وعلى رغم ما بين هذين التيارين من تنابذ وتزاحم، تبقى القرابات والعائلات الأهلية وسيلة جذب ونبذ. لقمان ريالات يدير مدرسة ابيه التي تضم نحو خمسة آلاف طالب كما يقول، والمجاهد الذي ارسله اخوانه الى العراق لحمايته من عشيرته، طردته هذه الأخيرة من منزله حين لاحظت التزامه السلفية. انها البيئة الأهلية الأكثر تجانساً والتي يمكن ان تتيح تقاطعات عامودية في عملية هضمها الأفكار الجديدة، حتى وان اظهرت مقاومة لها. فالعشائرية يمكن ان تتفق مع الاخوان ومع السلفيين في محافظتها مثلاً، والأخيرتان يمكن ان تتفقا على الكثير من الأمور. صحيح ان هناك لحظة افتراق عنيفة، لكن ايضاً هناك لحظات انسجام وتوافق عدة. ومن الأمثلة التي يعطيها ابناء المستويات السلطية الثلاثة العشائريون والاخوان والسلفيون على طبيعة مدينتهم المحافظة، وهي ربما كانت الرواية المؤسسة في المدينة، وهي أن الأمير عبدالله الأول كان يقيم في السلط في منزل ابو جابر، واعلن الأردن مملكة من المدينة وكان من المفترض ان تكون السلط عاصمة الامارة، لكن سكانها لاحظوا ان حراس الأمير غرباء ولا يقيمون وزناً لتقاليدهم التي كانت تقضي بتخصيص يوم لا يذهب فيه الرجال الى نبعة الماء في المدينة مفسحين للنساء في ذلك اليوم. فذهب وفد من شيوخ العشائر الى الأمير وطلبوا منه تغيير مكان اقامته، وهكذا خسرت السلط فرصة ان تكون عاصمة المملكة. الا ان استقطاب السلفيين الجهاديين لم يقتصر في السلط على البيئة الاخوانية، ولكن وبما انهم حالة قصوى، شكلوا ايضاً ملاذاً لفارين من حالات قصوى ولكن في اتجاهات اخرى. فنضال عربيات، وهو احد مساعدي الزرقاوي الذين قتلوا في العراق، كان زعيم عصابة بيع مخدرات في السلط كان يطلق عليها اسم عصابة "الدعسة الفجائية"، وكذلك محمد هاني الذي تم ضمه الى الجماعة في السجن الذي دخله بسبب اعمال منافية للقانون ارتكبها في "جاهليته". علماً ان السجن كان احد اماكن التجنيد الأساسية في هذه التيارات وهذا ما يفسر صدور عدد كبير من هؤلاء عن ماضٍ اجرامي، وعلى رأس اصحاب السوابق من ناشطي التيار السلفي الجهادي ابو مصعب الزرقاوي طبعاً. لكن في الحساب العام تعتبر السلط مدينة هاشمية ومعروفة بولائها للقصر في الأردن، وربما هنا تكبر اهمية الاختراق الذي احدثه السلفيون الجهاديون في بيئتها. فاخوانية السلطيين لم تكن خروجاً عن هاشميتهم على ما يبدو وقد توجت اكثر من مرة بتحالفات بين القصر والاخوان وبمشاركة في البرلمان وفي عدد من الحكومات، اما السلفية الجهادية فقد كفرّت الدولة، وهذا ما لا يعتبر مألوفاً في اوساط سكان يعتبرون انفسهم رأس هرم الدولة. فمن السلط خرج خمسة رؤساء حكومات ونحو اربعين وزيراً وعدد كبير من قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، اضافة الى موظفين كبار في اسلاك الدولة عموماً. والغريب مثلاً ان جراح قداح، الوجه الأبرز للسلفية الجهادية في السلط والذي لطالما قضى فترات طويلة في السجن لأسباب تتعلق بانتمائه وانشطته، هو موظف ممارس في وزارة الزراعة، وكذلك الأمر بالنسبة لخالد الذي يعمل في القطاع العام ويتقاضى راتباً من دولة "طاغوتية" بحسب ما يعتبرها جهاديو الأردن. تحاول السلطات الأردنية الحد من قدرات هذه الجماعات على الانتشار، من دون ان يقتصر سعيها على الضبط الأمني، فقد غيرت الحكومة في الآونة الأخيرة قانون الوعظ والارشاد وتم حصر الخطابة والتدريس في المساجد بموظفي وزارة الأوقاف. هذا الأجراء شمل السلفيين والاخوان المسلمين، ولكن نتائجه انعكست على الاخوان اكثر من انعكاسها على هذه الجماعات لأن هؤلاء الأخيرين، وبحسب مواطن سلطي، تمكنوا من ايجاد منابر بديلة، ويشير هذا المواطن الى انه لطالما صادف جراح في المناسبات الاجتماعية في السلط يلقي مواعظ وخطباً، سواء في المقابر او في المضافات العشائرية، اضافة الى شبكة العلاقات الواسعة التي يقيمها الشيخ جراح واخوانه مع عدد من الشبان الصغار الذين يجري اليوم تجنيدهم في هذا التيار. يشرح جراح تفاصيل "العرس" الذي يقيمه السلفيون الجهاديون لمن "يستشهد" منهم في العراق. يقول "من يستشهد نقيم له عرساً لا عزاء. يشهد العرس كلمات واناشيد، ونتبادل خلاله النكت والطرف ونضحك كثيراً، ومن يشاهدنا من بعيد يعتقد اننا فعلاً في عرس، فنحن نحسب ان من يستشهد في سبيل الله يكون قد زف الى الحور العين. هنا تقام الأعراس لمن يزف الى نساء الطين في الأرض، فمن باب اولى ان نفرح اذا زف واحد منا الى الحور العين". السلط شقيقة نابلس ومدينة الأدراج تعتبر مدينة السلط من اقدم المدن الأردنية، وتبلغ مساحتها اليوم بعد ضم ثمان بلدات مجاورة اليها نحو 80 كيلومتراً مربعاً، والمدينة هي العاصمة السياسية الأولى للأردن قبل عمان، وفيها اول غرفة للتجارة والصناعة في الأردن واول مدرسة ثانوية. تقوم المدينة على ثلاثة جبال، الجدعة والقلعة والسلالم، وهي الجبال التي تزنر صحن المدينة، اي ساحتها حيث المركز التجاري والسياسي والاداري. والمدينة تطورت واتسعت عامودياً صعوداً نحو قمم الجبال، فيما المنازل بنيت على نحو متداخل فاشتركت في الجدران، وفصلت ازقة ضيقة بين الأحياء الصغيرة من دون ان يعني ذلك فوضى عمرانية، بل على العكس شكل طريقة هادئة في التجاور. وبما ان السلط مدينة جبلية ربطت بين احيائها مجموعة من الأدراج، فلم تشتهر المدينة بأحيائها وانما بأدراجها، او ما يسمى في الأردن "عقباتها"، كعقبة الفار وعقبة الحدادين. ثمة قرابة جغرافية واجتماعية بين السلط ومدينة نابلس الفلسطينية، وثمة تشابه عمراني كبير بين المدينتين، فمعظم البنائين القديمين الذين بنوا في السلط هم في الأصل من نابلس، ولعل اشهرهم عبد الرحمن العطروق. ولمنازل السلط طبيعة خاصة في الأردن، فمعظمها بني من الحجر الأصفر، وشكل تدرجها على التلال انسياباً معمارياً خاصاً. وبالعودة الى صحن المدينة فهو يضم اليوم عدداً من المقاهي القديمة التي اعيد ترميمها والتي يتجمع فيها رجال العشائر في اوقات النهار المختلفة، وتقدم فيها اقداح الشاي المجانية على الضيوف الغرباء، وفي مقابل هذه الساحة صعوداً على قمة احدى التلال منزل عائلة ابو جابر الذي اعلن منه الأمير عبدالله قيام المملكة، والذي هجره بعدها الى عمان عندما طلب منه شيوخ العشائر السلطية اخلاء المدينة من رجاله الغرباء.