في"حكايات من كانتربري"لتشوسر: "ما كلّ الأواني في قصر الأمير/ مصنوعٌ من الذّهب أو الفضّة". بهذا البيت كنت أجيب بعض من لم يرض من قراء مقالاتي عن ذكري للمحاسن والعيوب معاً في الشخصيات التي حاولت رسم صور قلمية لها، بملامحها وغضونها. فالظاهر اننا في العالم العربي لا نزال نرفض من النقد، ومن الصور القلمية، ما لم يكن مدحاً خالصاً يرفع الممدوح الى السماء، أو ذمّاً مريراً يخسف بالمهجوّ الأرض... كل شيء عندنا هو اما أبيض أو أسود، خلقه الله من نار أو من طين. وهو أمر لا أسيغه من الغير، ولا أقبل صدوره عن نفسي... أما اليوم فأجدني حيال امرئ اقلّب النظر حتى أجد فيه عيباً أذكره، فيعييني البحث. وإذا بي أمام انسان هو أقرب من قابلتهم في حياتي الى شخصية غاندي، تتبادر الى ذهنك على الفور عند رؤيته صيحة نابليون حين رأى الشاعر الألماني غوته للمرة الأولى: Voilˆ un homme! * * * هو السيد الحصور الذي وهب حياته بأسرها للعمل الأهلي في مصر، لا يستوقف نظره، أو يتصل بعلمه، مسلك شائن يضر بالصالح العام، أو يخالف اللوائح والقوانين، أو يهدد البيئة، أو يتناقض تناقضاً فاضحاً مع الجماليات، أو يمس حقوق المرأة أو الأقليات الدينية أو حرية الفكر، أو ينطوي على تمييز لطائفة أو طبقة عن سائر طوائف الشعب وطبقاته، إلا ثار وانتفض وهبّ لمقاومته واشهار الحرب عليه... وهو دائماً محق في غضبته، غير أنه غالباً ما يعجز عن تغيير الواقع القبيح وازالة الظلم المقيم... وهذا بالضبط ما دفع الكثيرين الى تشبيهه بدون كيشوت خصوصاً لنحافته وتوافق مظهريهما الخارجيين، والى وصف حملاته على ما يستنكره في ساحات القضاء، وصفحات الجرائد في بريدها ومقالاتها، ومقابلاته مع المسؤولين، ومحاضراته وندواته، بأنها كحملات دون كيشوت على طواحين الهواء. وقد حدث مرة أنه عَصَفَ به ذراع احدى تلك الطواحين ثم طرحه أرضاً كما طرح شبيهه الاسباني من قبل، وظل عادل من وقتها الى يوم وفاته يؤمن بأن ذلك هو الحادث الذي عجّل بنهاية حياته. * * * كان أحد العشرة الذين اختارتهم الأممالمتحدة من دول العالم كافة لمنحهم جائزة"خير من مارسوا العمل الأهلي في بلادهم". وكان الكثير مما تناوله بالنقد العنيف في مقالاته ورسائله الى الصحف خاصاً بما يلمسه من تجاوزات في الاسكندرية التي اختارها منذ سنوات طويلة مقاماً له، فإذا محافظها يتجاوب أحياناً مع ذلك النقد، وأحياناً يضطره رجال الأعمال فيها وغيرهم، الى تجاهله، لأن التجاوب هنا يضرّ بمصالحهم المادية... غير ان معظم نقده كان موجّهاً إلى شؤون عامة تهمّ الجميع ولا يقتصر على الاسكندرية وحدها. وبمرور الأيام، بتزايد مساهمات عادل أبو زهرة في مجال الكتابة الصحافية والندوات والمحاضرات، وجذبه لانتباه القرّاء والسامعين، وتنامي تأثيره في نفوسهم، أصبح الرجل عند أمثالي بمثابة ضمير الأمة، شأنه شأن تولستوي أو غاندي من قبل، لا بدّ من انصياع الكافة لحكمه وإلا شهر عدم الانصياع على مدى تحكم العناصر الفاسدة في حياتنا، وغلبتها على أمرنا. غير أنه - كغاندي وفتحي رضوان - كان عُنف الجهاد عنده مقروناً بدماثة خلق ووداعة وطيبة قلب ورقة إحساس لا حدود لها... ربما لأنه كان نباتياً، أو لأنه كان شديد الغرام بالموسيقى الكلاسيكية. غير أن تولستوي كان نباتياً هو الآخر، عظيم الولع بالموسيقى، ولم يكن بالرقيق الرفيق في تعامله. وقد حدث في تشرين الأول أكتوبر من عام 2002 أن اتصل بي هاتفياً من الاسكندرية وأنا راقد في مستشفى المقاولين العرب. فما لمس الضعف الشديد في صوتي حتى أجهش بالبكاء شفقة عليّ، ظنّاً منه أنني على شفا الموت. فما مرّ عام بالضبط على هذه الواقعة حتى كان هو الذي قد مات. أو كما يقول شوقي في قصيدته"مصائر الأيام": وقد ذَهَب المُمتلي صحةً/ وصحّ السقيمُ فلم يذهبِ! * * * لم يكن ليقرب المشروبات الروحية، أو السجائر. غير أن عداءه للدّخان كان أشدَّ من استنكاره تناول الخمر، لا يكفّ عن نُصح المدخنين بالإقلاع عن تلك العادة السيئة. وقد جالسته عشرات المرات على مائدة الطعام، فما كانت الوجبة التي يتناولها لتزيد عن طبق حساء، أو ملعقة من الرز، وحبةٍ من الطماطم وورقةٍ من الخس. أما الحلوى الشامية والكعك وما شابه ذلك فطعام مرفوض أصلاً. * * * وقد شهد ذلك العام الأخير من حياته تشرين الأول - أكتوبر 2002 - تشرين الأول 2003 تدهوراً مطرداً وسريعاً في صحته. فما كنت وزوجتي نقابله في ندوة أو مناسبة في الاسكندرية أو القاهرة أو بور سعيد إلا أصابتنا عند رؤيته الصدمة ازاء ما حلّ به من هزال وضعف... ولسبب ما أطلق في خلال العام لحيته، واختار زيّاً له قبعة سوداء وملابس سود ربما كما فعلت الأخت الوسطى ماشا في مسرحية تشيخوف"الشقيقات الثلاث"، حداداً على حياتها!. غير أننا كنا نكتم عنه إحساسنا بالصدمة، ونحاول الابتسام وأن نبشّ في وجهه، حتى حين توجهنا لزيارته في احد المستشفيات الفاخرة خارج القاهرة يوم 4 تشرين الأول قبل بضعة أيام من وفاته، فإذا بنا نراه، حين فتح أخوه مصطفى لنا الباب، راقداً على فراشه كالهيكل العظمي، وان كانت حدقتا العينين منه متّقدتين كجمرتين من نار... وكان حديثه الينا - كمقالاته ورسائله الى الصحف - يفيض بالنقد اللاذع لإدارة المستشفى، ولممرضاتها المهملات، ومادية الأطباء وجشعهم وخلوّ قلوب ملائكة الرحمة من الرحمة وقد باتوا يتاجرون بها، ولانقطاع الماء الساخن في صنبور الحمام حين خلع عنه ملابسه للاستحمام... الى آخره. ثم لكأنما أحسّ فجأة بأنه أفرط من دون مبرّر في الشكوى آمام زائرين له بريئين مما يشكو منه، فغيّر الحديث، وقال لي وهو يبتسم في سرور: - أتعلم أن أسامة الباز حين زارنا في الشهر الماضي لإلقاء محاضرة عندنا في مكتبة الاسكندرية أثنى عليك ثناء عظيماً؟ غير ان الدموع هذه المرة كانت في عينيّ أنا... لم يكن في القلب موقع لسرور - وأنا أرقب هزاله وضعفه - لمديح كاله انسان لي. وكان الدمع مبعثه محاولة انسان يحتضر، ويتألم أشدّ الألم في ساعات احتضاره - أن يُدخِل السرور على قلب زائرٍ له! * * * كان دائماً شديد الانكار لكل ما حوله ومن حوله... يؤلمه أن يجد حديث الكافة وشغلهم الشاغل قد انحصرا في وسائل الكسب، والكسب السريع ان أمكن... فما من أحد قد عاد يطيق الصبر أو التدرّج، أو يؤمن بجدواهما. الكادحون يلهثون وراء القرش، ومن توافر له القرش أراده قرشين... فكيف يمكن أن يكون للموسيقى وسائر الفنون أو للجمال بوجه عام موقع عندهم وقد استغرقت فكر الأغنياء والفقراء على سواء سبل تحصيل المال... الجميع إذاً فقراء بالمعنى اللغوي لكلمة الفقر"وهو الحاجة، والكل مرهق يلهث، ساخط يتأفّف. قد كان ثمة في مجتمع صباه وشبابه تجار، غير ان الناس كانوا وقتها فريقين: تجاراً وغير تجار. أما الآن فقد أضحت الكافة - ومن دون استثناء تقريباً - تجاراً، لا فارق بين بائع الشاورما على قارعة الطريق، وبين الطبيب الذي جاءه في المستشفى الفاخرة يساومه على أجر الجراحة، أو أستاذ الجامعة أو المدرّس أو الصحافي أو الديبلوماسي أو من شئت... الكلّ بات القرش رمزه، والثراء غايته. وربما كان بائع الشاورما أعفّهم يداً، وأقلّهم طمعاً... كان أنقى وأطهر وأعف انسان عرفته في حياتي، فلا عجب إن كان شديد الانزعاج طوال الوقت، إذ يرى أعراض الجميع قد انتُهكت، ويرى من الظلم أن تُوصم المومس وحدها بأنها بائعة العرض... ذلك ان ما فعلته لا يتجاوز ما يقترفه الكل الآن في حق أنفسهم، ولنفس الرافع، وربما بصورة أدنأ. فإن هو نظر الى من اعتزل الدنيا وتدروش، فإنما ينظر الى الوجه الآخر من العملة نفسها: أناس عجزوا عن المدافعة والمزاحمة، وكانوا أضعف من أن يطأوا غيرهم تحت أقدامهم، فاختاروا ادانة المجتمع بأسره على أساسٍ من الدين، لئلا يفقدوا احترامهم لأنفسهم. أما عادل أبو زهرة فلم يختر أن يدين مجتمعه على أساس من الدّين، بل هو دان الجماعات الدينية المتطرّفة على أساس من علم الاجتماع والعلوم السلوكية التي كان أستاذاً لها. وكان يرشد من اتّصل به من الشباب سواء في الجامعة، أو في منتدى الحوار في مكتبة الاسكندرية الذي كان يترأسه، أو في الجمعية المصرية لأصدقاء المكتبة التي كان مؤسسها وأمينها العام، أو جمعية أصدقاء البيئة، أو جمعية محبّي الموسيقى الكلاسيكية... الى آخره، الى مخارج شتى من المأزق الذي يمرّون به: الانغماس في العمل التطوعي الذي كان هو أعظم رمز له، أو القراءات الجادّة، أو الفنون الجميلة بخاصة الموسيقى، أو التصدّي للمنكر بالمقاومة، أو الاهتمام بالدخول مع أصحاب الآراء المخالفة في حوارٍ جاد ينشد الحقيقة لا الانتصار على الخصم. * * * كان يأبى الاتجار بعلمه الغزير ومعارفه الجمّة، ويأبى أن يبيع ضميره أو قلمه، أو أن يصبح متعلّقاً بأطايب الحياة ومباهجها تعلّقاً يُفقده استقلاله الروحي وبراءته. وكان شعاره قولة سُفيان الثوري:"ان دعاك الأمراء لتقرأ عليهم قل هو الله أحد فلا تمضِ ولا تقرأها!". رحمه الله رحمة واسعة. * كاتب مصري.