وفجأة خطف "الفيلم" الأميركي الأضواء وحطم الأرقام القياسية بتسمّر الملايين أمام الشاشات الصغيرة ومتابعة أحداثه لحظة بلحظة، مثبتاً أن الصناعة السينمائية الأميركية تبقى الأكثر جاذبية... حتى في الشهر الفضيل. ليل الثلاثاء - الأربعاء، فيلم أميركي طويل اظهر هشاشة الانتاج العربي وحطم مجهود سنة كاملة وعشرات المسلسلات التي غرقت فيها الفضائيات العربية حينما توحدت الشاشات وتوجهت الانظار نحو برنامج واحد أكد ان تلفزيون الواقع لا يزال الخيار الأفضل. ابطاله هذه المرة اثنان لا غير: الاول جورج دبليو بوش والثاني جون كيري. في تلك الليلة توقفت المنافسة الرمضانية "الساخنة" بين نادية الجندي ويسرا ويحيي الفخراني ونور الشريف وبرامج الألعاب والسهرات التلفزيونية، واتجهت الأنظار كلها نحو البطلين الاثنين اللذين شغلا الشاشات الفضائية وحيّرا الجمهور. المنافسة المتقاربة زادت في الاثارة والتشويق. بوش أم كيري؟ تلك هي كل المسألة! شبح المتنافسين خيّم على مجمل البرامج المعروضة على الشاشة الصغيرة. طوني بارود فكر طويلاً بمن سيحتل القلعة. المايسترو بالإذن من نيشان للسنوات المقبلة شغل بال الملايين، أوليس هو من يدير دفة العالم؟ في "ستّ الحبايب" حلم زاهي وهبي باستضافة امهات المتسابقين الى البيت الأبيض، وحلم بذرف المزيد من الدموع. الدموع موجودة ايضاًَ بوفرة في برنامج جورج قرداحي. لم لا يفتح المرشحان قلبيهما ويتصالحان مباشرة على الهواء؟ الجارة ام سعيد غيرت عادتها ليلتها، هي التي غالباً ما تتصل بطوني خليفة في محاولة لربح الملايين، قررت حصر اتصالاتها اقتراعاً لكيري - وان كان صوتها غير محسوب - من طريق الاتصال ببرنامج "الحدث" مع شدا عمر. وكالعادة لم تنجح محاولاتها، لا لكثافة الاتصالات والضغط على الخطوط هذه المرة، لكن بكل بساطة لان البرنامج لا يستقبل اتصالات المشاهدين. لعنت ام سعيد الرئيس بوش. تمنت فوز كيري حتى لو كانت تجهل سياسته، فهو كما تقول يبقى "اهون الشرين" مقتنعة بالاجماع الحاصل من حول المرشح اليموقراطي من قبل جهابذة محللي السياسة في عالمنا العربي. أم سعيد التي تبلغ السبعين من عمرها وقفت مبهورة أمام هذه الصناعة الآتية من عالم آخر، هي التي لم تشاهد طوال عمرها أياً من الأفلام الأميركية، أدركت اليوم ولو "متأخرة"، كما تعترف، "تفاهة الانتاج العربي وعظمة السينما الأميركية"، وقررت منذ تلك اللحظة الانصراف عن الدراما العربية الى الاعمال الهوليودية لا بل لم تتوان عن اعلان القطيعة مع انتاج بلادها لتكون منذ تلك اللحظة مشاهدة وفية للسينما الأميركية. عجقة لا تطاق تتوقف الانتخابات. يبدأ فرز الاصوات. تعلن النتائج. وتعود أم سعيد الى يومياتها المعهودة في الشهر الفضيل، تحمل بيدها "الريموت كونترول" وتقلب بين المحطات، متنقلة من جديد من برنامج رمضاني الى آخر، واضعة خلف ظهرها كل ما قالته بالامس عن "تفاهة الانتاج العربي". عجقة المسلسلات الرمضانية لا تطاق كما تقول. اعتبرت نفسها مقصّرة بعض الشيء. جارتها ام فؤاد تغلبت عليها بمتابعة ما يقارب عشرة مسلسلات في اليوم الواحد. لكن ألا يحدث لها أحياناً أن تضيع في الشخصيات والوجوه فتتشابك الاسماء والادوار في رأسها؟ تساءلت صاحبتنا والحيرة تملأ وجهها. "صحيح أم فؤاد اصغر سنا، تقول ام سعيد في سرها، لكنني ما زلت في كامل نشاطي أيضاً"، وتتابع: "راحت عليكي يا ام سعيد، راحت عليكي، بلشتي تضيعي"، تقول هذا بصوت خافت كي لا يسمعها أحد، وتتذكر كيف تتداخل الشخصيات في رأسها. تذكرت كيف تضيع في كل مرة تطل مادلين طبر على الشاشة خلال الشهر الفضيل، وكيف يلزمها دقائق حتى تستطيع التفريق بين دورها في "مشوار امرأة" وفي "أصحاب المقام الرفيع" و"محمود المصري". ميّ عز الدين الممثلة الشابة التي تعرفت اليها في رمضان الماضي من خلال مسلسل "أين قلبي" مع يسرا، حاضرة أيضاً هذه السنة وفي ثلاثة مسلسلات. هي بدورها سببت أزمة لصاحبتنا. عندما تشاهدها ام سعيد في "لقاء على الهوا"، تظنها الفتاة الهادئة الرومنسية التي تذوب في الحب والهيام كما هو دورها في مسلسل "يا ورد مين يشتريك"، ثم تقول: لا انها الفتاة الاوروبية الشرقية وصاحبة المبادئ السياسية الشيوعية كما في "محمود المصري" قبل أن تستقر أخيراً على دورها الفعلي في المسلسل، هي الفتاة المتمردة والانتهازية التي سرعان ما تتحول الى انسانة جديدة تساعد يسرا في مشوارها المهني. ولا تقف احتجاجات أم سعيد عند مادلين وميّ، ذلك أن السبحة طويلة ولا مجال لعدّها كلها، حتى أن الذاكرة لا تستطيع ان تحمل كل تلك الاسماء والشخصيات مهما كان المرء في "كامل نشاطه ووعيه". ارتاحت حينما سمعت ابنتها تشكو الامر نفسه. "اذاً المشكلة ليست فيّ بل في الفنانين انفسهم وسعيهم للتواجد على كل الشاشات"، قالت هذا بلهجة مشرقة. شكرت ربها على نعمتها وتابعت جولتها الرمضانية. على "كل" الشاشات لزاهي وهبة حصة في امتعاض أم سعيد. ظهوره على أكثر من شاشة عربية جعل الامر يختلط عليها بعض الشيء. هي تتابعه كل ليلة في "ست الحبايب" منذ بداية شهر رمضان، وقبلها كانت تنتظره بفارغ الشوق مساء كل ثلثاء لتتابع الحوارات الشيقة معه عبر شاشة "المستقبل". لكن ما الذي يفعله على قناة "الشاشة" وفي البرنامج نفسه خليك بالبيت؟ تساءلت باستغراب. للوهلة الاولى ظنت ان عينيها تخونانها. أمعنت في النظر. دققت اكثر، وقبل أن تسوء حالها دخل أبو سعيد على الخط شارحاً لها الوضع، ما اراحها وطمأنها على صحة ادراكها. غضبت من "الضرب" الذي وقعت فيه وكأن في الامر كله مؤامرة حيكت من حولها. غضبت من زاهي وهبي. اعتبرت أن موافقته على اعادة عرض الحلقات القديمة لم يكن بالقرار الصائب. غضب أم سعيد لن يطول كثيراً، خصوصاً مع استضافة زاهي لعملاق لبنان المطرب وديع الصافي. عندما سمعت الاعلان لم تستطع المقاومة، وقررت مشاهدة الحلقة. عندها فقط غفرت لصاحب البرنامج كل ذنوبه وهل من ذنب أعظم من جعلها تشك بنفسها وبقدراتها الذهنية؟. شاهدت الحلقة حتى النهاية. لم تفوت كلمة من الحوار. دموع غزيرة ذرفتها. وفي لحظة انسجام صرخت بأعلى صوتها: "ألله يطوّل بعمرك"، رداً على ما سمعته حين توجه الصافي الى والدته الراحلة بالقول: "قربنا اللقاء يا حنونة". دموع بلبل لبنان حزّت في نفسها. راحت تتضرع الى الله ليحميه ويمنع عنه أولاد الحرام والأهم طلبت من الله أن يؤمن له شيخوخة لائقة. لا تعرف ماذا حدث لها. بدأت تستعيد أسماء فنانين كبار عانوا الأمرين في شيخوختهم ولم يلقوا أي اهتمام من جانب الدولة بعد كل عطاءاتهم في سبيل الفن والوطن. شعرت برغبة في الكتابة. أخذت ورقة وقلماً. سجلت ما خطر في بالها. بعثت القصة الى تلفزيون "المرأة العربية" لتصل الى يد "الحكواتي" جوليا قصار، وانتظرت دورها!