تشهد هذه الأيام تصاعد حملة الدوائر اليمينية فى الغرب فى مواجهة العرب والمسلمين والتبشير بانتصار الغرب على العالمين العربي والإسلامي في صراع محتوم بينهما تعتبره تلك الدوائر من المسلمات وتروج لذلك فى إطار تصاعد لثقافة العنف التي يحاول أنصار الدوائر اليمينية إلصاقها بالعرب والمسلمين. والواقع أن أهمية حوار الحضارات والثقافات والأديان ليست مرتبطة بوقوع أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001، فالحديث عن هذا الحوار بدأ مع نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي والتي شهدت من جهة بداية الحديث عن انتهاء الصراع بين الأيديولوجيات وبداية الصراع أو الصدام بين الحضارات، ومن جهة أخرى الحديث عن نهاية التاريخ وانتصار النموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي وسيادته على الصعيد العالمي. وجاء تجسيد الاهتمام بقضية العلاقة بين الحضارات مع المقال الشهير للبروفسور الأميركي صموئيل هنتنغتون أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد، والذي أعقبه نشر ردود على المقال ثم تعقيبات من الكاتب ثم تجميع كل ذلك فى كتاب بعنوان"صدام الحضارات"عام 1996 . وقد تضمنت ردود الفعل على الكتاب على كثرتها من اتفق مع مقولة هنتغتون - سواء كلياً أو جزئياً - ومن اختلف معها أو عارضها. ثم توارى الجدل الدائر حول هذه الأطروحة لفترة وجيزة ليعود بقوة إلى الواجهة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولاياتالمتحدة. إلا أن الأممالمتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية اليونيسكو، منظمة المؤتمر الإسلامى...الخ تلقفت الموضوع فى السنوات الفاصلة بين عام 1996 و2001 وحاولت العمل على تفعيله. فقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اقتراحاً إيرانياً عام 1998 بإعلان عام 2001 عاماً للحوار بين الحضارات، فإذا بهذا العام يتحول مع أحداث سبتمبر 2001 إلى عام تعرض فيه هذا الحوار المتمدن بين الحضارات لكثير من الخسائر وعانى خلاله العديد من التراجعات. وعلى صعيد منظمة المؤتمر الإسلامي، فقد تشكلت فيها مجموعة من تسعة عشر من الخبراء في العام 1998 لدرس موضوع حوار الحضارات من منظور الدول الإسلامية ككل، وانتهت المجموعة إلى إعداد تقرير تبنته المنظمة على المستوى الحكومي ورفعته إلى الأممالمتحدة كإسهام منها فى الحوار وتصور لأنماط نتائجه. كذلك كان هناك اهتمام واضح من جانب منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو بالإشكاليات المتصلة بحوار الحضارات، وتمثل ذلك فى الندوات التى نظمتها المنظمة فى مختلف أنحاء العالم حول الموضوع بأبعاده المختلفة وبالنظر إليه كمسألة ثقافية فى الأساس. وانعكس الاهتمام العالمي بتناول موضوع حوار الحضارات من جانب هذه المنظمة فى مشاركة عدد من رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية فى ندوات ومؤتمرات اليونسكو المتصلة بهذا الموضوع بدءاً بالمائدة المستديرة التى نظمت في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2000 وشارك فيها الرئيس الإيرانى محمد خاتمي ووزير الخارجية المصري الأسبق عمرو موسى، وهى مائدة شهدت تبادلاً صريحاً و غير رسمي للافكار حول هذا الموضوع. نعود إلى هجمات 11 سبتمبر 2001 فى الولاياتالمتحدة وتأثيرها في طرح حوار الحضارات فنقول أنه نتيجة معاناة دعوة حوار الحضارات من انتكاسة موقتة عقب هذه الهجمات سواء على مستوى الحكومات أو حتى على مستوى المنظمات غير الحكومية، اذ نشأت الحاجة إلى استراتيجية جديدة للتعامل مع قضية العلاقة بين الحضارات وطرحت العشرات من المبادرات بعضها من منظمات دولية والبعض الآخر من بعض الحكومات والبعض الثالث من منظمات غير حكومية والبعض الرابع والأخير من شخصيات دولية تحظى باحترام على المستوى العالمي. ويمكن تلخيص أهم تلك المبادرات فى أربع هى: 1- مشروع حوار حضارات العالم القديم، وقد بدأ بين أربع دول هى مصر الحضارة الفرعونية وإيران الحضارة الفارسية وإيطاليا الحضارة الرومانية واليونان الحضارة الإغريقية، وقد حاول البحث عما هو مشترك بين حضارات العالم القديم وعما هو أبعد من تقسيمها بين دول مسيحية وأخرى إسلامية. وتوسع المشروع من المستوى الحكومي إلى المستوى البرلماني ومستوى الأكاديميين والباحثين مما أضفى عليه زخماً شعبياً. كما جرت محاولات لتوسيع عضوية هذا المشروع بضم دول مثل الصينواليابان والهند وحتى إسرائيل. ولم تلق هذه المحاولات قبولاً لخلاف على وضع معايير موحدة لقبول انضمام دول تضم جغرافياً حضارات من العالم القديم. 2- المبادرة الألمانية التى أطلقها الرئيس الألماني الأسبق هيرتسوغ وتبناها الرؤساء الذين جاؤوا بعده، وهي اقتصرت على الحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية الأوروبية. وضم الحوار فى بدايته ثمانية دول، أربع منها إسلامية أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي منها مصر وإيران وإندونيسيا، وأربع أوروبية غربية بقيادة ألمانيا. وقد شهدت هذه المبادرة توسعاً عقب الاجتماع الذى عقدته على مستوى رؤساء الدول والحكومات وكبار المفكرين على هامش اجتماعات المنتدى الاقتصادى العالمي في دافوس فى كانون الثاني يناير 2000 اذ شارك فى الاجتماع الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة والرئيس التشيكي السابق هافيل، وشارك فيه المفكر المصرى الدكتور أحمد كمال أبو المجد. وأدّت هذه المشاركة الواسعة إلى توسيع عضوية المبادرة إلى اثني عشرة دولة منها دولتان إسلاميتان ودولتان من أوروبا الشرقية، كما توسعت المبادرة من حيث طبيعة المشاركة لتنتقل من المستوى الحكومي فقط الى مستوى الانتليجنسيا. 3- المبادرة اليابانية للحوار بين الحضارتين الإسلامية واليابانية، وقد أطلقها وزير الخارجية الأسبق يوهاي كونو فى كانون الثاني 2000 على هامش جولة له في منطقة الخليج وتحديداً خلال محاضرة له في العاصمة القطرية الدوحة. وتميّزت هذه المبادرة عن بقية المبادرات المطروحة بأنها بدأت بجناحين: أحدهما يتحدث عن مفاهيم فكرية وأنشطة ثقافية، والآخر يتناول مشروعات تقنية محددة مثل التعاون بين اليابان والدول الإسلامية فى منطقة الخليج بشكل متعدد أطراف فى مجال تحلية مياه الخليج على نطاق واسع. وجاءت الخطوة الأولى الملموسة في سياق الحوار حول ترجمة المبادرة إلى مشروعات محددة متمثلة فى مؤتمر استضافته الخارجية البحرينية ومركز البحرين للدراسات في المنامة في ربيع 2002 حول"حوار الحضارات الياباني - الإسلامي"، وحضره مسؤولون ومفكرون وأكاديميون من عدد من الدول الإسلامية واليابان، بينهم كاتب هذه السطور. وتمثلت خصوصية هذه المبادرة في أنها تتم بين دولة تمثل حضارة واحدة قديمة تأثرت بشكل كبير في الزمن المعاصر، وهي اليابان، وبين دول عديدة بينها تباينات في السياق التاريخي والحديث لكنها تمثل الحضارة الإسلامية فى مجراها العام. كما تناولت هذه المبادرة أوجه التشابه والاختلاف بين الحضارة اليابانية والإسلامية وسبل التعاون في ما بينهما على أرضية مشتركة وكيفية تفاعل كل منهما مع الحضارة الغربية الحديثة. 4- المبادرة التي تبنتها تركيا لحوار حضارات، وهي ذات طابع مؤسسي بين الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامي، واستضافت اسطنبول منتدى وزارياً حول هذا الموضوع في ربيع 2002. وعلى رغم تسمية هذا المحفل التي توحي بطابعه الرسمي البحت إلا أنه تميز بخصائص عدة: الأولى أن جلساته كانت مفتوحة لحضور واسع، والثانية أن المتحدثين فى هذه الجلسات لم يقتصروا على الوزراء بل شملوا أكاديميين وخبراء وشخصيات من المجتمعات المدنية للدول المشاركة. فعلى سبيل المثال ضمت إحدى الجلسات وزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر السيد ووزير الخارجية الإيراني كمال خرازى والبروفيسور الأميركى برنارد لويس والمفكر المصري الدكتور حسن حنفي. أما الخصيصة الثالثة المميزة لمنتدى اسطنبول فكانت الصراحة في تناول القضايا التي تمثل مصادر الشكوك المتبادلة بين الطرفين مثل قضايا المرأة والأقليات والتطرف من جانب الغرب وقضايا النهب الاقتصادي والاستعلاء الحضاري من جانب العالم الإسلامي. وفى ضوء هذه المعطيات المتراكمة لدعوة حوار الحضارات خلال السنوات القليلة الماضية، يمكن القول بأن تحدي نجاح دعوة حوار الحضارات مرهون بحسم عدد من الإشكاليات ذات الطابع الجدلي فى تركيبها. فهناك أولاً الحاجة الى الوصول إلى حال توازن في الحوار بين حضارات مختلفة، وبين الحوار داخل الحضارة الواحدة بين أنساق فرعية حضارية وثقافية. وثانياً، توجد الحاجة الى تحقيق صيغة ما تضمن التوازن بين الطابع المقيد في المشاركة في بعض مبادرات الحوار وبين الحاجة الى مظلة عالمية للحوار، اذ نلحظ على سبيل المثال غياب الولاياتالمتحدة الأميركية، وهي القوة العظمى الوحيدة فى عالم اليوم، عن المبادرات كافة ذات العضوية المحدودة بينما تشارك في تبنى المبادرات التي تتم فى إطار الأممالمتحدة. وثالثاً، تتأكد بمرور الوقت وفي ضوء التطورات الدولية الراهنة الحاجة الى ضمان مشاركة فاعلة وذات طبيعة مترابطة فى مبادرات حوار الحضارات للأطراف المعنية كافة من حكومات ومنظمات دولية ومنظمات مجتمع مدني وقطاعات الأعمال ومراكز الأبحاث والجامعات ووسائل الإعلام. ورابعاً، أثبتت الأحداث منذ 11 سبتمبر 2001 وتداعياته أن مسألة حوار الحضارات ليست ترفاً ثقافياً ولا هي سفسطة فكرية منقطعة الصلة بأرض الواقع، بل على العكس يجب ترجمة حوار الحضارات وارتباطه بمشروعات ملموسة وأنشطة تشعر بها وتمارسها وتستفيد منها الشعوب ومبادىء وممارسات في العلاقات الدولية تؤكد مبادىء المساواة في السيادة والاعتماد المتبادل مع احترام خصوصية الآخر وعدم التدخل فى شؤونه الداخلية وإدراك أنه لا توجد حضارة بعينها، أياً كانت درجة تفوقها، قادرة بمفردها على مواجهة وتقديم الحلول للمشكلات والتحديات التي تعاني منها الإنسانية اليوم. * كاتب وباحث مصري.