عند النظر الى الانتخابات البرلمانية في مصر في خريف 2000 بدا انها تنهي مرحلة الغاء الانفتاح السياسي وبالتالي نخر الحريات السياسية والمدنية التي كانت وسمت معظم التسعينات. هذه المرة لم يذهب سوى 87 في المئة من المقاعد الى اعضاء الحزب الديموقراطي الوطني بزعامة الرئيس حسني مبارك، بالمقارنة مع اكثر من 94 في المئة في المجلس الذي انتخب في 1995، وتبعاً لذلك، كان 55 مقعداً في المجلس الذي يضم 454 مقعداً من نصيب ممثلي احزاب معارضة ومرشحين لا ينتمون الى احزاب، بالمقارنة مع 27 مقعداً فقط في السابق. والملفت اكثر ان 17 مقعداً حصل عليها اسلاميون معروفون، يرتبط معظمهم بصلات وثيقة بجماعة الاخوان المسلمين التي كانت ما تزال محظورة. بالمقارنة مع ذلك، لم يتمكن سوى اسلامي معارض واحد من دخول المجلس السابق قبل ان يجرّد من حصانته البرلمانية. وفي الوقت ذاته تقريباً اصبح جمال، نجل مبارك، الذي كان ينظر اليه ويروج له اعلامياً كداعية تحديث دينامي شاب، نشطاً في الحزب الديموقراطي الوطني وقدم نفسه كمؤيد للاصلاح الاقتصادي والسياسي، وترك لدى مراقبين كثيرين الانطباع بأن النظام قد يكون قابلاً للتغيير برغم كل شيء. وبدت هذه التوقعات مؤكدة اكثر عندما اصبح امين السياسات في الحزب وبدأ يدعو الى الغاء بعض المحاكم الخاصة للبلاد والغاء عقوبات الاشغال الشاقة من قانون العقوبات وانشاء مجلس وطني لحقوق الانسان. واذا وضعنا جانباً الاحتمال المزعج ولكن المتراجع حالياً لتوارث السلطة، لاح ان مصر عادت على السكة في اتجاه انفتاح سياسي ودمقرطة بدا انها تخلت عنهما في مطلع التسعينات. وبدا ان الحجة التقليدية او بالاحرى الاعتقاد الذي طوره او تبناه المتحمسون للعولمة قد اعيد تأهيله بما يعني ان انتشار نماذج الممارسة والحكم السليم، ودعم المجتمع المدني، وتشجيع الديموقراطية، بالأخص الاصلاح الاقتصادي بمعنى الانفتاح الاقتصادي، سيبرهن في النهاية انه لا يقاوم وانه يؤدي، على رغم تعطيلات موقتة، الى عمليات انتقال من حكم استبدادي في "العالم الثالث". في الوقت نفسه، كان يمكن رؤية الزيادة في عدد النواب الاسلاميين بعد انتخابات 2000 باعتبارها مؤشراً الى صعود متجدد لما يطلق عليه على نحو شائع لكنه غير مناسب في احيان كثيرة "الاسلام السياسي". بمعنى آخر، بدا ان المسألة الرئيسية الاخرى، بعد الديموقراطية التي استأثرت باهتمام مراقبي مصر في السابق، عاودت الظهور باعتبارها نقطة التلاشي البديلة الى حد كبير للتغيير السياسي في البلاد. واخذاً في الاعتبار ان مشجعي الديموقراطية الاوروبيين والاميركيين لا يضمرون تعاطفاً مع الاسلاميين، فان هناك ما يدعوهم ليس الى الابتهاج فحسب بل الى القلق ايضاً الادعاءات الاخيرة من جانب ممثلي الادارة الاميركية الحالية بأن الاسلام منسجم مع الديموقراطية لا يقصد بها اطلاقاً انها تنطبق على الاسلاميين. ويمكن لتعزيز فرص المشاركة السياسية ان تفيد القوى الاسلامية التي تعتبر في احيان كثيرة اعداء للديموقراطية. وهو ما يمكن ان يجعل موضع تساؤل الترابط الايجابي المفترض على نطاق واسع بين الاصلاح الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة والديموقراطية وترسيخها عبر ما يقترن بذلك من زوال القوى الاسلامية التي تزدهر في ظل الفقر. وتخالف المساهمة الحالية الافتراضات الاولى وتجادل بأن التطورات في مصر لا تعكس انتقالاً الى الديموقراطية او الانتقال الى نظام اسلامي او، اذا كنا اكثر حذراً، الى نظام اكثر اسلامية من النظام الحالي. كما انها تجادل بأن الصعود النسبي للقوى الاسلامية ليس بالضرورة منسجماً مع الديموقراطية. في الوقت نفسه، تشكك المساهمة بالصلات التبسيطية التي تقام في احيان كثيرة بين الاصلاح الاقتصادي والاصلاح السياسي والنزعة الاسلاموية. وسيتم تعريف الديموقراطية باعتبارها امكان ان يستبدل المحكومون الحكام بصورة سلمية وفي فترات منتظمة وفقاً لترتيبات اجرائية مثبتة بوضوح. وسيعرّف الاسلاميون بأنهم لاعبون يسعون، سواء في الحكومة او في المعارضة، الى اعادة تنظيم الحياة العامة والخاصة وفقاً لقيم ومعايير يعتبرونها هم انفسهم اسلامية. عودة الى الانتقال الى ديموقراطية لم تكن اصلاً موجودة يؤيد اولئك الذين يلمسون مؤشرات الى اشاعة الديموقراطية، وإن فعلوا ذلك كارهين على الارجح، الرواية الرسمية لتاريخ البلاد القريب الذي كانت مصر وفقاً له في انتقال الى الديموقراطية منذ ان حلّ الرئيس السابق انور السادات في 1977 الحزب الواحد القديم، الاتحاد الاشتراكي العربي، واجرى في 1979 اول انتخابات تعددية منذ سقوط الملكية. بالنسبة اليهم تؤكد انتخابات 2000 وعناصر اخرى من ضمنها البرنامج الاصلاحي لجمال مبارك ان سنوات التسعينات لم تكن سوى نكسة موقتة ناجمة عن ظروف غير مواتية. وهم مقتنعون، تبعاً لما اذا كانوا يؤكدون دور اللاعبين او دور البنى، بأن القناعات الديموقراطية للحكام او مسيرة التاريخ، التي يمكن حتى ان تفتح فرصاً جديدة للاعبين من القاعدة الشعبية، ستحوّل حتماً وفي النهاية البلاد الى ديموقراطية حقيقية. وبالاستناد الى عمليات تغيير الانظمة في "موجات" الدمقرطة المتعاقبة، التي ضربت اولاً اوروبا الجنوبية واميركا اللاتينية في السبعينات والثمانينات وبعدها اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق في الثمانينات والتسعينات، لا تترك رؤى التاريخ التي تتبنى مذهب التطور والغائية خياراً يذكر عندما يتعلق الامر بمحاولة فهم التحول السياسي في مصر. فهذه الرؤى تجد بالأحرى دعماً لها في كتابات ال"ترانسيتولوجي" البحث في عملية الانتقال من نظام استبدادي الى حكم ديموقراطي التي تقدم تحليلاً لآخر موجات الدمقرطة، على رغم ان ذلك لم يكن دائماً هدفها. صحيح بالتأكيد ان انور السادات اعاد بناء النظام السياسي لمصر الى حد كبير عندما الغى نظام الحزب الواحد، وسمح بتشكيل احزاب اخرى عدة، ودعا الى اول انتخابات تعددية منذ ثورة 1952 التي جاءت الى السلطة ب"الضباط الاحرار" الملتفين حول جمال عبد الناصر. وبدا السادات، الذي كان بالذات احد الضباط الاحرار، مستعداً لصلاح، وحتى تفكيك، النظام السياسي الذي سمح له ان يصعد الى المرتبة العليا. وفي الانتخابات العامة في 1979 حصل حزب النظام الجديد، الحزب الوطني الديموقراطي، على 88 في المئة من المقاعد، لكن الانتقال من حزب واحد الى نظام حزب مهيمن اعتبر بداية الانتقال الى الديموقراطية. ويمكن ان يعزز هذا الانطباع بعض التطورات المصاحبة والمتزامنة. فقد جرى تخفيف قمع الاخوان المسلمين لموازنة ثقل المعارضة اليسارية، وساهم الحق في اصدار الصحف، الذي ترافق مع منح الشرعية لاحزاب جديدة، في تحقيق تعددية اكبر لوسائل الاعلام. وبدا ان انشاء المحكمة الدستورية العليا، في 1979 ايضاً، يعزز حكم القانون، وهو ما حققه فعلاُ في النهاية. لكن السادات كان حريصاً على تفادي المصير المحزن للساحر الذي سقط ضحية الصبي الذي كان يدرّبه. فلم يكن الحزب الوطني الديموقراطي وحده الذي انشئ من الحزب الواحد السابق بل نشأ حزبان سياسيان آخران في اواخر السبعينات. كان يفترض ان يمثل احدهما اليمين والآخر اليسار فيما يمثل الحزب الوطني الديموقراطي، وعلى رأسه السادات نفسه، الوسط. وجرى اختيار زعيمي الحزبين السابقين بشكل مباشر تقريباً من قبل السادات نفسه. وبقي انشاء احزاب جديدة كلياً مرهوناً بموافقة النظام. وباستثناء صحف هذه الاحزاب والعدد التافه الى حد كبير الذي كان يطبع منها آنذاك، فان وسائل الاعلام بقيت تحت السيطرة المباشرة للنظام، خصوصاً الاذاعة والتلفزيون. وبقيت حال الطوارئ مطبقة وسمحت للنظام باعتقال اشخاص كما يشاء ومحاكمتهم في محاكم خاصة وتقييد معظم الحريات الشخصية والسياسية. لكن ما كان اكثر مدعاة للقلق هو ان قانونين قمعيين جديدين شرّعا قبل وقت قصير من انتخابات 1979 وبعدها. وحظر القانون الصادر في 1978 في شأن "حماية الجبهة الداخلية والسلم الاجتماعي" اشخاصاً غير مرغوب بهم من الترشيح الى الانتخابات واستبعدهم من المناصب الرسمية الاخرى. وانشأ "قانون العيب" للعام 1980 سلطات قضائية موازية لمحاكمة اولئك الذين لم يلتزموا المعايير الاخلاقية للدولة وفقاً لتعريف النظام في فقرة مصممة لتشمل كل الاحتمالات وعرضة لشتى الانتهاكات. واستعاد السادات بدهاء بيد ما منحه باليد الاخرى. وما بدا ظاهرياً انه عملية انفتاح ساسي ودمقرطة كان بالفعل محاولة اكثر تعقيداً بكثير لتعزيز الحريات على نحو معتدل بأشكال لا يمكن ان تؤذي النظام. ولم تكن التغييرات مجرد لغو خطابي، بل كانت حقيقية بمعنى ان بعض الاشخاص الجدد تمكنوا من دخول البرلمان وفتحت منابر جديدة للنقاش. لكن آليات انشئت بشكل متزامن احتوت الحريات الجديدة. وضمنت سيطرة النظام على معظم وسائل الاعلام، والدور الفاعل في انشاء احزاب معارضة ضعيفة اصلاً وتتبادل الشكوك، واساليب اكثر فظاظة في تزييف الاقتراع، للحزب الوطني الديموقراطي الحصول على غالبية الثلثين الضرورية للتأثير على نحو غير عادل في الانتخابات الرئاسية وتعديل الدستور. بالتالي، لم يكن بقاء النظام في السلطة مهدداً اطلاقاً. على العكس تماماً، يمكن للمرء ان يجادل بأنه كما هي الحال في بلدان اخرى كثيرة اعطى الانفتاح السياسي والمعارضة المقيّدة دعماً اضافياً للنظام الاستبدادي. فالانفتاح المقيد وفّر ما يشبه ملعباً لسكان، شبّههم السادات بلباقة بأولاده، يشككون على نحو متزايد، بسبب سياسة تحرير انتقائي للاقتصاد تعرف ب"الانفتاح"، بالاجماع الناصري السابق الذي كان اشتراكياً من جانب واشتراكية دولة من جانب آخر وجسّد مصالح متناقضة. كما اعطى الانفتاح المقيّد الفرصة لمكونات اجتماعية جديدة، بشكل خاص الرأسماليين الطفيليين الذين انتجهم الانفتاح، لتدمج نفسها مع النظام الذي كان تواقاً للعثور على حلفاء جدد في محاولة لاعادة تحديد قاعدته الاجتماعية. وتبيّن بجلاء في ايلولسبتمبر 1981 مدى ضآلة الانفتاح الفعلي للنظام ومدى بقائه استبدادياً. كان السخط المتزايد بشأن تفسير اسرائيل لمعاهدة لسلام، وتداعيات سوء ادارة الاقتصاد والاصلاح، بالاضافة الى ممارسة السلطة على نحو اوتوقراطي متزايد، دفع الى المعارضة الكثير من الاسلاميين الذين ايدوا السادات في السابق والذين لقوا دعماً منه بأشكال مختلفة. وغذّت السياسات الخارجية والاقتصادية للسادات الانقسامات المحلية الناجمة عنها نزاعاً دينياً واشتباكات عنفية بين مسلمين واقباط، ما ادى الى وقوع اصابات كثيرة. وبالفعل، لم تتجاهل اتفاقات كمب ديفيد الموقعة في 1978 ومعاهدة السلام التي اعقبتها في 1979 مخاوف الفلسطينيين فحسب، بل اثارت ايضاً الشكوك بشأن عقود من السياسة الخارجية المصرية وجوانب اساسية من الهوية الجمعية المصرية التي اسست على نحو متزايد منذ منتصف الخمسينات على مناهضة الصهيونية ومناهضة الامبريالية والنزعة القومية. وخدمت سياسة تحرير الاقتصاد بشكل انتقائي، بما تضمنته من اعانات مالية لاستيراد سلع استهلاكية للاثرياء، مصالح حفنة ضئيلة وادت الى اختلالات خطيرة في التجارة الخارجية والموازنة. وكان جرى منذ 1977 تبني سياسات تقشف ادت الى تفجر "اضطرابات الخبز" الشهيرة في السنة نفسها. وبعد صيف متوتر وفي اعقاب تجدد الاشتباكات، أمر السادات فجأةً في ايلول 1981 باعتقال حوالي 1500 من السياسيين والصحافيين والمثقفين والزعماء الدينيين، أي بشكل اساسي كل الذين كانوا تحدوا نظامه او يمكن توقع ان يفعلوا ذلك. وبعد ذلك بوقت قصير، اطلق اسلاميون كانوا اخترقوا القوات المسلحة النار عليه واردوه قتيلاً خلال عرض عسكري لاحياء ذكرى حرب تشرين الاول 1973، وفي محاولة لتهدئة التوتر الداخلي ولمصالحة المصريين مع نظامهم اطلق مبارك، خليفة السادات، المعتقلين ال 1500 وحاول ان يطوّر سياسة اكثر تماسكاً للانفتاح السياسي يدعمها النظام. وكان الحدث الاستعراضي هو الانتخابات البرلمانية في 1984، على رغم ان الحزب الحاكم فاز ب87 في المئة من المقاعد، أي اقل بنسبة واحد في المئة فقط بالمقارنة مع النتيجة التي حصل عليها في 1979، واخذا في الاعتبار حملة الدعاية الكبيرة داخل البلاد وخارجها التي سبقت الانتخابات، ومراقبتها عن كثب من الصحافة العالمية التي تمكنت من تغطيتها من دون قيود، فانها اعتبرت عموماً وبحسب التقارير حرة ونزيهة. مع ذلك، في الوقت الذي كانت فيه عمليات التحايل والتزييف السافرة محدودة ومحصورة في اجزاء بعيدة عن الاضواء من العملية الانتخابية، استمرت مجموعة من العوامل التي يمكن ان تسمى التفوق البنيوي للنظام في إجبار منافسي الحزب الوطني الديموقرطي على خوض صراع بالغ الصعوبة وشاق في ظروف غير متكافئة. فقد وقفت وسائل الاعلام المهيمنة الى جانب الحزب الوطني الديمقراطي، الذي تزعمه الرئيس نفسه وكان في امكانه ان يستند في حملته الانتخابية على موارد الحكومة والقطاع العام مثل شاحنات النقل الخفيفة واستخدام عمال المصانع لنشر الملصقات، وهلم جراً. وما يزال التفاوت في الموارد المالية للاحزاب المختلفة ماثلاً الى يومنا هذا، كما يبيّن حجم مقراتها: منزل تافه متهدم في حي السيدة زينب لحزب العمل، وفيلا تبرع بها لحزب الوفد احد شخصياته البارزة، فيما يشغل الحزب الوطني الديموقرطي عمارة من طوابق عدة، بحجم مبنى وزارة، مجاورة تماماً لفندق الهيلتون على كورنيش النيل. وادى مثل هذا التفوق البنيوي، الى تمكين مبارك من التسامح مع معارضة ظلّت بسبب موقعها المتدني البنيوي بالضبط عاجزة عن تحدي النظام بجدية وتجاوز الخطوط الحمراء التي كانت رسمت لأنشطتها. قمع متزايد لكن النظام لم يبق من دون تحد في 1987 و1990 ومرة اخرى في وقت لاحق، في 2000 اعتبرت المحكمة الدستورية العليا القانون الذي كان يتحكم بالانتخابات البرلمانية السابقة غير دستوري. وبالتالي، كان يتعيّن في كل مرة حل البرلمان واجراء انتخابات جديدة بموجب قانون معدّل حدّ تدريجاً من تحكم الدولة بعملية الانتخابات وبالنتائج في النهاية. وبالفعل، لم يتمكن مبارك او السادات او حتى جمال عبد الناصر ذو الشخصية الكاريزمية من ان يهمّش على نحو فاعل ودائم القضاء الذي اعتبره المصريون في شكل متزايد منذ بدايات الدولة المصرية الحديثة في القرن التاسع عشر عنصراً شرعياً وضرورياً في النظام السياسي. وربما ابتكر السادات المحكمة الدستورية العليا لتكون أداة لتمرير سياساته من دون نقاش، لكنها فرضت على مدى السنين استقلالها وتحولت الى قوة يحسب لها حساب. لكن النظام لم يواجه تهديداً فحسب من المحاكم التي حدّت تدريجاً من تفوقه البنيوي. فقد واجه ايضاً - وعلى نحو اكثر مباشرة بكثير - تهديداً من الاسلاميين المعارضين الذين، وفقاً للخطاب الذي تبنوه، تحدوا النظام القائم او قاوموا محاولات النظام لاعادة فتح الاراضي، جغرافياً ومجازياً، التي كان خسرها او تركها لهم في وقت سابق. ومنذ الثمانينات، فاز الاسلاميون المعارضون في الانتخابات الى مجالس ادارة نقابات مهنية مختلفة، وهي هيئات اتحادية تنظم المهن المختلفة مثل الاطباء والمحامين والمهندسين والصيادلة، وتسمح لهم ان ينظموا بعض شؤونهم الخاصة وتقدم خدمات اجتماعية لاعضائها. بعد ذلك، منذ التسعينات، لجأت جماعات سرية على نحو متزايد الى عمليات الاغتيال واشكال اخرى من العنف الجسدي ضد ممثلي النظام والدولة، والاقباط والاجانب. ولفترة من الوقت في مطلع التسعينات، سيطرت هذه الجماعات على جزء كبير من امبابة، أفقر احياء القاهرة، كما فعلوا في وقت سابق في مناطق مختلفة من وسط مصر وشمالها. وبخلاف الاعتقاد الشائع، لم يشكل الاسلاميون خطراً على النظام لانهم كانوا اسلاميين بل لانهم كانوا في المعارضة. ولم يكن النزاع يدور حول الايديولوجيا بقدر ما كان يتعلق بالسلطة والغنائم المرتبطة بها. وبالفعل، كان يمكن العثور بسهولة على الاسلاميين في النظام وفي صفوف مؤيديه، اذا كان المرء يعني بالاسلاميين لاعبين سياسيين يسعون الى اعادة تنظيم الحياة العامة والخاصة وفقاً لمعايير يعتبرونها هم بالذات اسلامية. على سبيل المثال، كانت صحيفة دينية يحررها الحزب الوطني الديموقراطي هي اول من اتهم نصر حامد ابو زيد في 1993 بالارتداد عن الدين وبدء الحملة التي فرضت طلاقه قسراً من زوجته إبتهال يونس. بالاضافة الى ذلك، شهدت التسعينات اصلاحات اقتصادية هددت، في المدى القصير على الاقل، مستوى معيشة الكثير من المصريين والحقت خسائر مادية بكثيرين منهم. وفي مقابل مشاركة النظام المصري في حرب 1990 لطرد القوات العراقية من الكويت المحتل كان يفترض ان يكافأ باعفاء جزئي من دينه الخارجي المرهق الذي كان ارتفع الى حوالي 50 بليون دولار. ولتجنب حدوث نكسة، فرض الدائنون ان يكون خفض الدين مشروطاً باصلاحات في السياسة الاقتصادية. وهو ما اضفي عليه صفة رسمية في اتفاقات 1991 مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي وضعت موضع التطبيق برامج لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتكييف البنيوي الذي كان مستلهماً في ذلك الحين مما كان يعرف باجماع واشنطن. وعلى غرار حالات مماثلة، كان الهدف هو خفض الاختلالات المتزايدة على صعيد التبادل الخارجي والموازنة عبر اجراءات تقشفية ونقدية، خصوصاً باجراء خفوضات في الدعم المالي وزيادة عائدات الضرائب. وعلى المدى البعيد، كان يفترض تشجيع النمو عبر زيادة الانتاجية والقدرة التنافسية بالاستناد الى رفع الضوابط القانونية، بما في ذلك التحرير التدريجي للتجارة الخارجية، وخصخصة شركات القطاع العام وزيادة حصة الاسواق في تخصيص الموارد. وعلى المستوى الاجتماعي، كان خفض عدد الموظفين ومستويات الاجور او حتى اغلاق شركات هو النتيجة المحتملة والفعلية حقاً. وادى النزاع بين النظام والاسلاميين المعارضين، وتداعيات الاصلاحات الاقتصادية والازمة التي سبقتها، ومحاولات النظام لابطال تعديلات اكثر ليبرالية وتؤمن مشاركة اكبر فرضتها المحكمة الدستورية العليا على القانون الانتخابي، الى عملية ارتداد عن الانفتاح السياسي بدأت في 1991 ووسمت معظم عقد التسعينات. وجرى تعديل قانون العقوبات بشكل اساسي وفرضت احكام اقسى بالمقارنة مع فترات سابقة للجرائم السياسية. وعلى نحو متزايد، احيلت حالات حساسة الى محاكم خاصة، ومثل مدنيون امام محاكم عسكرية، وصدرت احكام لا تحصى بالاعدام ونفّذت، وجرى تعميم نهج الاحتجاز الاداري من دون محاكمة بموجب قانون طوارئ، ووضعت النقابات المهنية تحت وصاية النظام، ولجمت الحقوق النقابية وقمعت الاضرابات من الشرطة. * مستشرق ألماني.