قد يكون الشعب الفلسطيني من اكثر شعوب العالم التي اكتوت بآلام الابعاد عن الوطن. وقد يكون الفلسطينيون من اكثر الشعوب التي تعرضت، كشعب وقيادات، لعمليات ترانسفير والترحيل الجماعي وابعاد الكوادر والقيادات منذ ما قبل النكبة، وتحديداً عندما ابعدت سلطات الانتداب البريطاني وعلى دفعات متتابعة جل قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية الى جزر سيشل النائية في المحيط البريطاني، فيما لوحق الراحل الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس اللجنة العربية العليا من اجل ابعاده ايضاً. وتوجت حملات الابعاد بالتطهير العرقي الجماعي للفلسطينيين على يد الغزو الاستيطاني عام 1948. لذلك فان القرار "المبدئي" الاسرائيلي الاخير بابعاد الرئيس ياسر عرفات خارج الاراضي الفلسطينيةالمحتلة لم يأت من فراغ، بل كان متوقعاً، ومختزناً كسهم احتياطي في جعبة الساحر ارييل شارون منذ مدة طويلة في ظل التهديدات والضغوط الاسرائيلية التي لم تتوقف طوال الفترة الماضية على السلطة الفلسطينية بعد كل عملية فدائية تقع داخل حدود الخط الاخضر في فلسطينالمحتلة عام 1948، فضلاً عن كونه خطوة استباقية لوضع المصاعب في وجه احمد قريع المكلف تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، واعادة انتاج ازمة اسماء ومناصب وأزمة تشكيل حكومة جديدة، في اطار عمليات استقطاب متبادلة بين اطراف من السلطة الفلسطينية وحركة فتح على ضوء امكان احداث شرخ آخر من التباين في التعاطي السياسي مع المسائل المطروحة بين كل من عرفات وقريع، والدخول الاسرائيلي القوي على خط التدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية، خصوصاً في شأن الاجهزة الامنية والأذرع القيادية المسؤولة عنها، فضلاً عن مرجعيتها: هل تتبع وتنفذ توجيهات رئيس السلطة ام رئيس وزرائه، وفي ظل الانهيار السياسي التفاوضي مع سقوط "الهدنة الموقتة". وعلى الاغلب، وفي المتابعة للسياقات الذاتية الاسرائيلية والموضوعية المحيطة التي حكمت اتخاذ القرار، فإن القرار مناورة مدروسة تم التحضير لها اسرائيلياً منذ مدة، وليس بعد عودة شارون من زيارته الرسمية المجزوءة للهند، وهدف المناورة اياها سكب المزيد من الضغوط وبقالب آخر أشد وطأة على السلطة اولاً وعلى حركة فتح وكتائب الاقصى ثانياً. ويتعدى ذلك نحو توسيع الهوة بين التيار العام في السلطة وحركة فتح الملتف حول قيادة عرفات، والتيار المتواضع الحضور والمحصور في اطار صف ضيق من الانتلجنسيا الفلسطينية الوزارية والمؤسساتية من وزراء سابقين ومديرين عامين ومسؤولي مؤسسات حكومية وغير حكومية خاضعة للتمويل الخارجي، خصوصاً بعد الكلمة الجريئة التي ألقاها محمود عباس في الاجتماع الاخير المشترك للجنة المركزية لحركة فتح والمجلس الثوري في مدينة رام الله، وهي الكلمة التي اظهرت حقيقة التباين وحدوده داخل اطر حركة فتح والسلطة من دون تضخيم او تقزيم من جهة، ووحدة الجسم الفتحاوي من جهة ثانية تحت قيادة عرفات. وبالمحصلة فإن القرار في حال اقدام حكومة شارون وسلطات الاحتلال على تنفيذه، سيجر خلفه سلسلة لن تتوقف من التداعيات السلبية، ولا يمكن التنبؤ بما ستؤول اليه الامور. وعلى الاقل يمكن الجزم مسبقاً بأن الابعاد في حال تنفيذه سيكون بمثابة المسمار الاخير في نعش عملية التسوية المأزومة اصلاً، والتي ستنهار عندئذ انهيار مربعات الدومينو ليس في فلسطين فقط بل وفي عموم المنطقة. ومن هنا يمكن تفسير التحفظ الاميركي عن القرار الاسرائيلي خوفاً من استتباعات قرار احمق كهذا في وقت تغرق فيه واشنطن في الملف العراقي وافرازاته المتقيحة. ولكن كيف يمكن تفسير الحماقة الاسرائيلية - الشارونية بالتلويح لتنفيذ القرار؟ التفسير المنطقي الأبعد للقرار الاسرائيلي يندرج على سكة الفشل الذريع لسياسة حكومة شارون منذ صعوده الى موقع القرار الاول في الدولة العبرية في شباط فبراير 2001 في التعاطي مع متطلبات العملية السياسية في الشرق الاوسط، ويشير الى: مدى التخبط الذي تعانيه مصادر القرار في الدولة العبرية على المستوى السياسي، وعدم امتلاكها الرؤية الشاملة لمصير العملية التفاوضية مع الطرف الفلسطيني في عالم متغير، وما يرافقها من حراك على الارض بفعل سياسات وقمع الاحتلال والمقاومة المشروعة المقابلة. فشل حلول القوة في تطويع الفلسطينيين او في تدمير ارادتهم وفشل جرهم ودفعهم نحو آتون الحروب الاهلية الداخلية. استخدام اسلوب الابعاد لاضعاف عرفات او التقليل من سطوته على مواقع القرار الفلسطيني بعد العجز الاسرائيلي عن تحقيق هذا الامر، على رغم ان الاسرائيليين يعلمون اكثر من غيرهم بأن مفتاح العملية أو اللعبة السياسية في الطرف الفلسطيني يبقى في يد عرفات شاء شارون أم لم يشأ. وفي اعتقادهم فإن إبعاده أو مجرد التهديد بذلك سيوفر لهم مساحة أفعل وأوسع للضغط على الفلسطينيين، ويكرس وضع عرفات خارج إطار الحل باعتباره "جزءاً من المشكلة". وأظهرت الفاعليات الواسعة التي امتلأت بها الأراضي الفلسطينية ليلة صدور القرار الإسرائيلي في 11 الشهر الجاري المخزون الهائل من طاقات الوطنية الفلسطينية التي تستنفر عند لحظات الحسم، وعندما يدق نفير الدفاع عن مكتسبات النضال الفلسطيني بما في ذلك مكتسب التواجد القيادي والكادري داخل فلسطين، وهو المكتسب الذي تحقق بفعل نضال شاق ودؤوب لأكثر من عقدين من الزمن انطلاقاً من الشتات الفلسطيني. الهبة الأخيرة للشعب الفلسطيني لم تأت للدفاع عن شخص عرفات بقدر ما جاءت بمثابة الدفاع عن الشرعية الفلسطينية الديموقراطية/ الدستورية المنتخبة في الداخل وفي إطار المجلس الوطني الفلسطيني الذي يمثل كل الفلسطينيين في الداخل والشتات، فضلاً عن الدفاع عن الشرعية الوطنية التاريخية. واستعادت حركة فتح التي يتزعمها عرفات في الأزمة الجديدة حيويتها وفعلها المؤثر باعتبارها الفصيل الأساسي في حركة المقاومة الفلسطينية، كما أظهرت حشود كوادر فتح وكتائب الأقصى في رام الله وعموم الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات الشتات مدى "العصبوية الوطنية" التي تلف الجسم العريض لها. ومن جهة أخرى، أكدت وقائع أزمة الإبعاد أن عرفات ما زال يحمل المفتاح السحري الذي يوحد حركة فتح بكل تياراتها وأجنحتها لحظة الأزمات المستعصية، ولا يفرقها. فهو الأب الروحي لها والزعيم التاريخي الذي أدمن الحصارات عبر مسيرة حركة فتح والثورة الفلسطينية في أكثر من خمسة حصارات طويلة وصعبة، من أحراش جرش وعجلون في الأردن عام 1971 الى حصارات الحرب الأهلية اللبنانية ومن حصار بيروت عام 1982 الى حصار طرابلس عام 1983 وأخيراً في حصار منطقة المقاطعة. وعلى الضفة المقابلة من نقاش المسألة، من المؤسف في مشهد الدراما الفلسطينية أن تضيع الأمور بين صراع أساسي مع الاحتلال يتفق الجميع على أولويته، مع خلاف سياسي داخلي وبين خلال كيدي بين هذا الطرف أو ذاك، حتى تكاد البوصلة تعجز عن التقاط الاتجاه الحقيقي لحركة الجدل الفلسطيني الدائر في ظل تنامي الخلافات "المفتعلة" و"غير المفتعلة" في الساحة الفلسطينية، ليصبح عندها ابعاد عرفات عملية تنضج على نار هادئة بين مطرقة الاحتلال وسندان الانقسام الداخلي. وأكثر من ذلك فإن الممارسات الكيدية الضارة والقاتلة أمست جزءاً من التاريخ العملي لقوى منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، خصوصاً عند التنظيم الأكبر والأوسع، والمقصود بالطبع عند حركة فتح، اذ تحولت الممارسات إياها الى شيء من الفولكلور الفلسطيني الخاص - إن جاز التعبير - الذي لا يعمل من دون التواءات داخلية مؤلمة ومقيتة، تعبّر احياناً عن حال من العبث والدمار الداخلي، وأحياناً عن حال من اللاوعي بالمصلحة العليا للشعب الفلسطيني في وقت يسير فيه الطرفان الأميركي والإسرائيلي نحو درجة عالية من تعميق التفاهم المشترك في النظرة العدائية ليس ل"حماس" وقوى التيار الإسلامي فقط بل وللسلطة الفلسطينية، وفي المساس المدروس بشخص عرفات وتهميشه في وقت يمثل فيه شخص عرفات - بكل مثالبه وسلبياته والمتحرر من اثقال الشعارات - عند غالبية الفلسطينيين "رمزاً للوطنية الفلسطينية" الذي "قد يختلفون معه لكن لا يختلفون عليه". وعليه، ومن دون تجميل للواقع، يبرز ابعاد عرفات او حتى التلويح بالإقدام عليه، مشكلة داخلية فلسطينية ستبقى مستعصية على الحل طالما بقيت مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وعلى تواضعها مؤسسات هامشية محكومة بقبضة الفرد الواحد، ولا علاقة لها بصوغ السياسات والبرامج والاستراتيجية الوطنية والكفاحية للشعب الفلسطيني. فعملية المأسسة في فلسطين ما زالت حتى هذه اللحظة عملية "مطموسة ومقبورة" تحت وطأة السلوك القيادي القائم على مبدأ سطوة الفرد الواحد في الوزارة او الدائرة الواحدة وحتى في الحزب الواحد، وطغيان الاستحواذ الفردي والشخصي، وتالياً في تعويم جوهر الخلاف حول بناء المؤسسات بين "عقلية لا تريد للشعب الفلسطيني ان يؤطر بناه ومجتمعه المدني على اساس من مأسسة الحياة الداخلية وإحلال وسيادة القانون" وبين "عقلية تريد ان تحافظ على الإرث السلبي الذي ما زال يعشعش ويفعل فعله في الساحة الفلسطينية" داخل السلطة والقوى والأحزاب والفصائل وعلى درجة من التفاوت. ومن هنا القول ان المسائل المثارة يفترض بها ان تكون اكبر من جبريل الرجوب وتعيينه مستشاراً للأمن القومي، وأكبر من محمد دحلان ودوره الأمني المرتجى، وأكبر من اسلوب النهج الاستخدامي الاستهلاكي للكادر، حيث ينظر إليه احياناً باعتباره معطى ثابتاً لا يتطور، وأحياناً معطى متحولاً تبعاً لظروف عابرة او لخلافات سياسية يجري تنفيسها. في هذا السياق من حق الفلسطينيين ان يشعروا بالقلق والخوف من المجهول القادم في فلسطين، ومن حقهم ان يطلقوا العنان دفاعاً عن الحد الأدنى الموجود من الشرعية الدستورية والتاريخية التي يمثلها عرفات من موقع الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات وطنية توحيدية للشعب الفلسطيني على رغم كل المثالب التي تحكمها وتلفها. وفي المقابل من حق الشعب الفلسطيني ايضاً ان يلوم من هم في موقع القرار الذين همشوا منظمة التحرير الائتلافية ودورها كحاضنة وكمرجعية جامعة وموحدة للشعب الفلسطيني وقراره الوطني المعبر عن البرنامج المشترك لجميع قوى الخريطة السياسية الفلسطينية، ومن حقه ان يوجه اللوم والانتقاد ايضاً الى اصحاب النفس القصير إن لم نقل "الفريسين" الذين يتمتعون بقرون استشعار المصالح والأنف الراداري "المبشرين" دوماً بلغة الخلافات وبلغة الصراع على قيادة مراكز النفوذ، آملين منهم ان يضعوا امام اعينهم ضرورة الحفاظ على كل من حمل راية المقاومة في فلسطين والشتات الفلسطيني، حتى لا تصبح مسيرة الشعب الفلسطيني ثورة "مغدورة تأكل ابناءها" مثلما انهارت احزاب وقوى وأنظمة اكلت ابناءها ولم تستطع ان تحتضنهم عند وقوع الخطأ وفي المد والجزر. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.