"أدونيس يقرأ أدونيس"... إنه عنوان الاسطوانة التي صدرت أخيراً حاملة عنواناً آخر: "تاريخ الغيم - قصائد للحب". الاسطوانة سي دي جاءت في غلاف جميل، يظهر فيه اللونان الأحمر والأسود، كلونين أساسيين. تضم الأسطوانة القصائد التي ترجمها فوزي الدليمي الى الإيطالية وصدرت في كتاب عنوانه "مئة قصيدة حب" وهي لم تصدر بالعربية في كتاب، وإن لم يرد في الاسطوانة تاريخ الصدور أو الانتاج، إلا أن تاريخ القصائد التي كتبها أدونيس وألقاها بصوته مدوّن على الغلاف مع المكان أيضاً: باريس - برلين 1999 - 2000. إنها نقلة غنية في عالم الشعر تتمثل في دخوله عالم الصوتيات وتقنياتها، وأدونيس الذي يمتاز بقراءته المدهشة للشعر بصوته يُساهم في إدخال القصيدة لتنافس سواها من النماذج ذات الأرضية الجماهيرية الواسعة كالأغنية أو المسرح الغنائي. لكن السؤال الذي يتبدّى حال سماع الشعر هو: هل يمكن نقل كل مزايا القصيدة الحديثة من خلال الصوت؟ ثم ألا يمكن أن يساهم الصوتي بإخفاء البصري أو حتى الذهني؟ أغلب الظن ان مثل هذه الاشكالية تجد حلاً أكيداً في قراءة أدونيس لشعره من خلال سببين أولهما أن أدونيس يتمتع بمزية الإلقاء في طبقة الصوت وتقطيع الحروف، وتحديداً تحريك عين الإسم أو عين الفعل. يقرأ أدونيس هاتين العينين بأسلوبية خاصة ينفرد بها تماماً. السبب الثاني يكمن في طبيعة قصيدة أدونيس التي لا تجانب البلاغي، والشاعر يعتمد الملفوظية والمنطوق كأساس جمالي. هذا يسَّر لأدونيس مسألة الدخول في هذه التقنية الحديثة الصوتية حيث يتم التطابق بين أساسَيْ هذين النمطين وهما الصوت المتمثل في ال"سي دي"، والجانب البلاغي الجمالي الذي يعطي اللفظ والمنطوق حيِّزاً واسعاً وهو المتمثل في قصائد أدونيس التي قرأها وسجلها. من المُلاحظ أن أدونيس يواصل مشروعه الشعري الطويل في هذا ال"سي دي"، بدءاً من العنوان الأساسي الثاني له: "قصائد للحب". فهو لم يقل "قصائد حب"، بل للحب، ومن هنا تترسّخ الدلالة في كون الحب يجسِّد لدى أدونيس عالماً مستقلاً منفرداً، على عكس ما يُعرف في أن الحب يُولد بعد علاقة طرفية ثنائية أو أكثر. وهذا ينتمي بالنسبة الى الشاعر الى منظوره الأصلي للحب فهو لا يعتبره حكراً على المعنى المتداول بل يربطه بالكون والعالم والأشياء الى درجة أن نفى معناه الشيئي، العادي أو اليومي كما في قصيدة "إسماعيل" عندما يقول: "والحبُّ لا أحدٌ وموتي لا أحد". وهنا في الاسطوانة يعزّز منظوره الى الحب الذي يتساوى لديه مع رؤيته الى الشعر بقوله: "لا أريد لحبّي وضوحاً"، حيث تضاف حياة الشاعر الى الحب والشعر عندما يعتبر أنها تستهدف غايتيهما معاً: "أن تكون حياتي طريقاً الى لا قرار" ويعزز هذه الرؤية البينية للحقيقة ان لم نقل البرزخية في قوله: أعطني أن أسافر في الوهم" حتى انه يقول: "واثق" فيرفضها: "هذه لفظة لم أقلها". "قصائد للحب" إشارة من الشاعر الى رؤيته الجامعة لموضوعة الفن، فالشعر الذي يعتبر أدونيس أن حداثته لا تتم إلا من خلال "علاقة جديدة بين الكائن والأشياء" هو نفسه الحب الذي يشبه الموت لجهة ولادته جديداً في كل مرة، غريباً وآسراً ولا يخضع للتعوّد والالفة. وبما أن الحداثة مشروع تغيير علاقة فإن هويتها هي الحب الذي يتخذ شكل الموت لأنه مصير التغيّر. وعندما يتّحد الشعر بالحب والموت فإن النقلة واحدة في كل منهما، وما يعتبر يأساً وتشاؤماً يصير استشرافاً: "يدها في يدي وكلانا غريب، وكلانا غداً ميت في فراش بعيد" وما يمكن أن ينتمي الى الرؤيا العبثية للمصير يصبح قبولاً للشعر كخلفية لقبول الحداثة في الشعر التي طريقها الهدم المولّد للتغيّر وبالتالي يصبح التجديد توأماً للموت، أو الموت وجهاً للولادة. من الضروري - بل الأكثر ضرورة - للتجربة الشعرية امتيازها بمنطق خاص يعطي أكثر من ميزة إذا توفّر، فهو يوفّر العالم الشعري الذي يميِّز شاعراً عن آخر، ويوفّر تماسكاً في التجربة لأنها مؤسسة على نظام معرفي واضح ومتلائم. والمنطق، هنا، لا يعني الخضوع لمجموعة أفكار صنمية، بل يعني نظاماً في التفكير سمته التلاؤم. هذا يتضح في التجربة الأدونيسية، ويتوج هذا المنطق في قصائد الاسطوانة المشار إليها. فمن جهة الأساس النظري فإن أدونيس تابع كتابة قصيدة الحب ضمن مفهومه الذي يُعلي مفهومية الحالة على تجريبيتها، وله في ذلك باع طويل، حيث لا تغدو الكتابة حدسيّة بل عن الحدس، كما في الحب كتب للحب، هذا المستوى الأبولوني المناقض للوجه الديونيسيسي الذي تجلى عربياً في شعر أبي نواس وامرئ القيس وسواهم. في كتابة أدونيس الأبولونية عن الحب يتمثل الامتداد المنطقي لفكرته الأساسية المعتبرة التصوّف، في جانبه الشعري الجمالي، حداثة في التاريخ الشعري العربي. فكما أن رؤيا التصوّف تعتمد العلاقة الذاتية بين الخالق والمخلوق كعلاقة جديدة بين الانسان والكون باعتماد الانخطاف والإشراق والوجد سبيلاً، كذلك فإن الحب الأدونيسي هو هذا التوحّد المتعالي التعالي الفلسفي بين الجزء والكل، بين الروح والكون، ليصير الحب في شعر أدونيس بمثابة امتداد لإشارته الى الرؤيا الصوفية التي اعتبرها في كتابه الشهير "الثابت والمتحوّل" تمثل التغيير والتجديد والوعي المواجه للثقافة الجمعية. الامتداد - لنقل التواصل - الثاني، في هذه الاسطوانة، في شعر أدونيس، يتمثل في متابعته استحضار مفردات الطبيعة وأشيائها. وهذا يرد في معظم قصائد الشاعر منذ قصيدته الأولى وكتابه الأول "قالت الأرض" وهو نوع من الرومنطيقية التي أثّرت في معظم أبناء جيله، من الرواد تحديداً كأنسي الحاج. لهذا نلاحظ في الاسطوانة أن معظم المقاطع تحمل مفردات الطبيعة كالغيم والموج واللجة والفجر والغصن والقصب والفضاء والليل والطين والغسق والثلج والغبار والشجر وسواها. كذلك فإن استدعاء مفردات الطبيعة من شأنه التذكير بالمنطق الشعري الخاص بأدونيس لجهة العلاقة بين الكائن والأشياء، لتغدو الطبيعة المعنى الأكثر انسانية من الشيء نفسه بسبب سمة التغيّر التي تحملها قياساً بالشيء. لكن التناقض ذا الأرضية الفلسفية هو كيفية اتفاق دمج الطبيعة بمقولة التغيير، لسبب كلاسيكي في الفلسفة العالمية ألا وهو انتماء الطبيعة للثبات والتكرار وانتماء التاريخ للتغيير، فالأخير سمته التعاقب والتراكم والاختلاف، على عكس الطبيعة ذات السمة الثابتة كما يعبّر رشبنغلر في كتابه "انحلال الحضارة الغربية". إذا كانت الاسطوانة حفلت بلغة أدونيس التي يعرفها، القراء والنقاد على حدّ السواء، فإن الأمر يعزّز من أسبقية المفهوم على التجربة: "نحو أغوار ما لا أراه" "اللغة الغسقية" "يتنفس من رئة الشيء كالشيء" "هكذا صرتُ أسكن في ما تخيلته" "وعشنا بلا حكمة وسكنا قصيدة" "دمي نقيضي يبنيني وأهدمه"... وهناك الكثير من المقاطع التي يؤكد فيها الشاعر نظرته الى التحول كطريق للحداثة والعلاقة الجديدة بين الإنسان والعالم.