ذكرتنا مشاهد الصراع الليبيري في الأسابيع الأخيرة بمشاهد مماثلة في أنحاء عدة من القارة الأفريقية. لقد شاهدنا جثث القتلى من المدنيين في القتال بين الفئات المتصارعة ملقاة في الشوارع وأفراد هذه الفئات يعتقلون ويضطهدون النساء والأطفال والشيوخ من دون رحمة. هل كان ذلك أمراً فريداً مقصوراً على ليبيريا فقط؟ بالقطع لا. لقد شاهدناه في أنغولا وسيراليون وموزمبيق والصومال... إلخ. إذ أصبح الانطباع عن أفريقيا أنها قارة لا تحترم حقوق مواطنيها وأن هذه الحقوق في مهب الريح تعصف بها أهواء الحكام - أو من يملك البندقية - أو العسكر الذين يستولون على الحكم بانقلاب أو قبيلة تسيطر على مقاليد الأمور وتضطهد أفراد القبائل الأخرى. ولم تعد أنباء الصراعات الأفريقية وما تخلفه من بؤس وإنكار لحقوق الأفراد تلقى اهتماماً كافياً خارج أفريقيا بدعوى أن ذلك أمر اعتدناه وليس فيه أمر جديد، على رغم أنه لا يمكن تعميم هذه الصورة عن قارة بأكملها إذ توجد دول ومجتمعات ذات توجه ديموقراطي ويزدهر فيها احترام حقوق الإنسان. ويرى البعض في الوقت نفسه أن موضوع حقوق الإنسان أصبح يستغل من قوى كبرى للضغط على دول أخرى وأنه في الواقع "مقولة حق يراد بها باطل" أحياناً. ومع ذلك لم تحظَ قضية في مسيرة العمل الأفريقي خلال العقود الماضية منذ حصول الدول الأفريقية على استقلالها على قدر كبير من الاهتمام، مثل قضية حقوق الإنسان. بطبيعة الحال فإنه عند إقامة منظمة الوحدة الأفريقية في أيار مايو 1963 فإن قادة أفريقيا أكدوا في ميثاقها استنادهم على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان كأساس للتعاون السلمي بين الدول. ولكن ذلك التأكيد لم يتبلور إلى خطوات عملية لإقامة ميثاق أفريقي لحقوق الإنسان نظراً الى خشية بعض الدول من أن يستغل هذا الميثاق للتدخل في شؤونها تحت دعوى حماية حقوق الإنسان أو التشهير بأنظمة الحكم فيها. ولكن بمرور الوقت تبنى عدد من القادة الأفارقة المتنورين موضوع حقوق الإنسان وضرورة انشغال منظمة الوحدة الأفريقية به، ولذلك صدرت في القمة الأفريقية في مونروفيا العام 1979 - للمفارقة وهي العاصمة التي شهدت انتهاكاً لحقوق الإنسان - دعوة لعقد اجتماع للخبراء الأفارقة لبلورة ميثاق أفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. وعقدت هذه اللجنة اجتماعات عدة حتى وافق القادة الأفارقة في قمتهم في نيروبي العام 1981 على هذا الميثاق، والذي لم يدخل حيز التنفيذ إلا في العام 1986. وعند مقارنة هذا الميثاق بالمواثيق الإقليمية الأخرى لحقوق الإنسان في عدد من مناطق العالم مثل أوروبا وأميركا اللاتينية لا يوجد حتى الآن ميثاق آسيوي نجد أن الميثاق الأفريقي يتضمن بعض الجوانب الإيجابية ولكنه يعاني أيضاً من بعض القصور من ناحية أخرى، وهو ما يجعل من عمل اللجنة التي انبثقت من الميثاق تعاني من عقبات عدة تقف أمام أداء عملها. عندما ننظر إلى الحقوق التي يشملها الميثاق الأفريقي - نظرياً على الأقل - نجد أنها أكثر شمولية وتفصيلاً من أي ميثاق دولي آخر يتعلق بحقوق الإنسان. فالميثاق الأفريقي يضم في وثيقة واحدة الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والأهم من ذلك حقوق الشعوب وهو أمر ينفرد به عن المواثيق المشابهة. ويذكر هنا منتقدو الميثاق الأفريقي، على سبيل المثال، موضوع العمل الإجباري أو القسري المنتشر في أنحاء عدة من القارة، وحماية حق الفرد في الخصوصية احترام حياة العائلة، والمسكن، والمراسلات، الخ... أو ضمان عدم طرد أي فرد من وطنه أو حقه في الاشتراك في انتخابات حرة ونزيهة وسرية. كما أغفل حق الفرد في الزواج بمن يريد والمساواة بين الزوجين في الحقوق سواء خلال فترة الزواج أو بعد الانفصال. كما أن الميثاق الأفريقي لم يتعرض إلى حظر عقوبة الإعدام كما فعلت مواثيق أخرى على أن أهم نقطة يثيرها هؤلاء بالنسبة الى الميثاق الأفريقي تتعلق بإجراءات محاكمة الأفراد وحقهم في محاكمة عادلة، إذ أنه في كثير من الأحوال لا يتم إعلام المتهم بالتهم الموجهة إليه أو أسباب اعتقاله. وتناولت اللجنة الأفريقية المنبثقة من الميثاق الأفريقي والمكونة من أحد عشر عضواً تم انتخابهم لكفاءاتهم الشخصية، هذه الانتقادات في أولى اجتماعاتها فأصدرت قراراً العام 1992 ينص على حق أي متهم في محاكمة عادلة وطبقاً لإجراءات محددة سلفاً، وكانت هذه هي المرة الاولى التي تمارس اللجنة صلاحياتها طبقاً للمادة 45 من الميثاق والتي خولتها حق وضع المبادئ التي تتمكن بموجبها من حل المشاكل القانونية التي تواجه الحكومات الأفريقية والتي بموجبها تستطيع تعديل قوانينها لكي تتمشى مع الميثاق الذي أصبح بمجرد التصديق عليه جزءاً من التشريع الوطني لأي دولة. وينادي البعض في هذا الصدد بأهمية إصدار بروتوكول إضافي للميثاق يكمل الحقوق التي لم يتعرض لها خشية أن تستغل بعض الدول ما جاء في الميثاق في شأن واجبات الفرد من أجل الإقلال من أهمية الحقوق التي يتمتع بها وبخاصة عند إعلان أحوال الطوارئ وما يتبعه ذلك من تجميد بعض الحقوق. ويتمتع الميثاق الأفريقي بميزة مهمة غير موجودة في المواثيق الإقليمية الأخرى، ففي الوقت الذي تطالب فيه اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان مثلاً بوجوب وجود إعلان مسبق حول أهليتها لتلقي شكاوى الأفراد يوجد ذلك النص أيضاً في الميثاق الاميركي فإن الميثاق الأفريقي لا يضع أي قيود على تلقي أي شكاوى، سواء من الدول أو الأفراد أو المنظمات غير الحكومية. كما لا يضع الميثاق الأفريقي أي قيد زمني على تقديم هذه الشكاوى في حين أن المواثيق الأخرى تنص على ضرورة مرور ستة أشهر على استنفاد الوسائل القانونية الوطنية قبل تقديم أية شكوى. وفي مقابل هذه الميزة المهمة فإن إجراءات فحص الشكاوى تستغرق فترة طويلة نظراً الى أن اللجنة الأفريقية لا تجتمع إلا مرتين كل عام، كما أنه لا توجد سكرتارية قوية تساعد أعضاء اللجنة في عملهم وهو أمر يرجع إلى تواضع الموارد المالية والبشرية المخصصة لها. وإذا كانت اللجنة الأفريقية لم تلجأ إلى أسلوب العلانية في نشر تقاريرها في السنوات الأولى من عملها إذ أنها كانت تعد بمثابة تقارير سرية يتم عرضها فقط على مؤتمر رؤساء الدول والحكومات، إلا أن الوضع تبدل في السنوات العشر الأخيرة إذ أصبح موضوع تقارير اللجنة بنداً رئيسياً في اجتماعات القمم الأفريقية ويتم نشرها وتوزع على الصحافيين. وموضوع العلانية مهم جداً في عمل أي لجنة إذ أنه يزيد من ثقة المتقدم بالشكوى في حيادية اللجنة وشفافيتها، كما أنه يساعد على كبح جماح بعض الحكومات التي تقوم بانتهاكات لحقوق الإنسان إذ أنها لا ترغب في أن يرد اسمها ضمن تقارير اللجنة المعلنة. وقد لمست تأثير ذلك بقوة عندما كنت أشرف على عمل اللجنة خلال عملي كأمين عام مساعد لمنظمة الوحدة الأفريقية، إذ لاحظت ازدياد اهتمام الرؤساء الأفارقة بعملها بدلاً من إجراء مناقشة إجرائية مختصرة لنشاطها. وينص الميثاق الأفريقي على ضرورة قيام كل دولة أفريقية المادة 62 بتقديم تقارير دورية عن "الإجراءات التشريعية وغيرها من أجل إنفاذ الحقوق المتعلقة بالحريات التي ينص عليها الميثاق". ولكن لوحظ عدم انتظام عدد كبير من الدول في تقديم هذه التقارير الدورية التي تتم مناقشتها في جلسات خاصة مع وفد يمثل حكومة الدولة المقدمة للتقرير. ويرجع ذلك الى عدم المتابعة من جهة، والى عدم وجود كوادر قانونية في عدد من الدول يمكنها من إعداد هذه التقارير من جهة أخرى. وعملت اللجنة في تقاريرها الأخيرة إلى إبراز هذه النقطة، ولكنها لم تصل مثلاً إلى أسلوب بعض اللجان المشابهة التي لها الحق في زيارة الدول الأعضاء نفسها وعقد جلسات تستمع فيها إلى الشهود حول مدى تطبيق حقوق الإنسان في هذه الدولة. ومن أهم السلطات التي خولها الميثاق للجنة الأفريقية موضوع تنمية الوعي بحقوق الإنسان مثل عقد المؤتمرات والندوات وتشجيع اللجان الوطنية لحقوق الإنسان وإصدار المطبوعات... الخ، بل إن هذه السلطات أكبر من مثيلاتها في اللجنة الأوروبية أو الأميركية مثلاً. ولكن هذه السلطات تحتاج إلى دعم مادي قوي وهو ما لا يتوافر حالياً بدرجة كافية إذ أن موازنة اللجنة تنبع أساساً من منظمة الوحدة الأفريقية الاتحاد الأفريقي الآن والذي لا يقدم عادة الموازنة المطلوبة من اللجنة، وهو ما دفع الأخيرة إلى قبول مساعدات خارجية من الأممالمتحدة وبعض المنظمات الدولية المهتمة بمواضيع حقوق الإنسان. ويدعو البعض الآن اللجنة الأفريقية إلى القيام بدور نشط في مجال نشر الديموقراطية في أفريقيا كما فعلت اللجنة الأميركية على سبيل المثال في المساعدة على عودة الحكم المدني إلى بعض دول أميركا اللاتينية التي كانت تخضع للحكم العسكري. وقد يكون هنا بعض الدور للجنة الأفريقية وخصوصاً في المشاركة في مراقبة الانتخابات في أفريقيا ضماناً لنزاهتها وشفافيتها، وكذلك في تدعيم مؤسسات الحكم المدني في أفريقيا وخصوصاً في مواضيع حقوق الإنسان. وبدأت اللجنة في السنوات الأولى بدعوة بعض هذه المؤسسات إلى اجتماعات منفصلة تسبق اجتماعاتها الرسمية لكي تتعرف على نشاطها والصعوبات التي تواجهها، وساهمت اللجنة أيضا في محاولات إنهاء الصراع المسلح في بعض الدول الأفريقية والسعي إلى احترام الأطراف المتنازعة لحقوق الأفراد والمدنيين واللاجئين، الخ. * مشروع إنشاء محكمة أفريقية لحقوق الإنسان والشعوب: خطت أفريقيا خطوة كبيرة بالموافقة على مبدأ إقامة محكمة أفريقية لحقوق الإنسان والشعوب والتي لا يوجد مثيل لها سوى في المحكمة الأوروبية في ستراسبورغ. وقد بدأت أولى الخطوات في القمة الأفريقية في تونس العام 1994 حينما طالب القادة الأفارقة اللجنة الأفريقية ببحث إمكان إنشاء هذه المحكمة. وبعد اجتماعات عدة للخبراء في كيب تاون ونواكشوط وأديس أبابا، تم وضع مشروع المحكمة الذي وافقت عليه قمة منظمة الوحدة الأفريقية في بوركينا فاسو في حزيران يونيو 1998. ومن أهم ملامح المحكمة المقترحة: 1 أنها ستكمل عمل اللجنة الأفريقية وتمتد صلاحيتها لكي تشمل كل الحالات والنزاعات المتعلقة بتغيير وتطبيق الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب وغيرها من المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، ولها الحق في تقديم الرأي الاستشاري حول أي موضوع قانوني متعلق بحقوق الإنسان. 2 يحق للفئات الآتية التقدم للمحكمة: اللجنة الأفريقية - الدول الأعضاء - المنظمات الحكومية . ومن حق المحكمة السماح للمنظمات غير الحكومية التي تتمتع بصفة مراقب في اللجنة الأفريقية أن تتقدم مباشرة إلى المحكمة المادة 5. 3 للمحكمة الحق في التوصل إلى حل ودي بالنسبة الى أي قضية معروضة أمامها طبقاً لما جاء في مواد الميثاق الأفريقي. 4 تتكون المحكمة من أحد عشر قاضياً من مواطني الدول الأعضاء، ويراعى تمثيل النساء بينهم، ويتم انتخابهم في انتخابات سرية من قبل الرؤساء مع مراعاة تمثيل المناطق الجغرافية المختلفة في أفريقيا وذلك لمدة ست سنوات ولمرة واحدة فقط، ولهم الاستقلالية الكاملة طبقاً لقواعد القانون الدولي. 5 للمحكمة الحق في أن تتلقى شهادات شفوية أو مكتوبة ولها الحق في اتخاذ إجراءات محددة لمعالجة الانتهاكات. وقد نص الميثاق التأسيسي للاتحاد الأفريقي على إنشاء محكمة عدل أفريقية وهو أمر قد يتعارض - ولو جزئياً - مع اختصاصات المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب وهو ما تتم معالجته حالياً. وينص البروتوكول المنشئ لهذه المحكمة على أن يدخل حيز التنفيذ بعد إيداع خمسة عشر دولة لوثائق التصديق. وعلى رغم أن 37 دولة وقعت عليه حتى الآن، فلم تصدق عليه إلا تسع دول فقط. وتسعى جهات عدة لحث الدول الأفريقية على المسارعة بالتوقيع والتصديق حتى يمكن إنشاء هذه المحكمة الأفريقية. وإلى جانب الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، هناك عدة مواثيق أخرى تتعلق بوجه أو بآخر بحقوق الإنسان، مثل قانون حقوق الطفل الذي أقر بالفعل ودخل حيز التنفيذ واتفاقية اللاجئ الأفريقي واتفاقية حقوق المرأة وهي عبارة عن بروتوكول خاص ملحق بالميثاق الأفريقي، وقد أقرت هذه الاتفاقية ولكن لم يتم التوقيع والتصديق عليها بعد. هذا وقد عُقد مؤتمران حول حقوق الإنسان في أفريقيا على مستوى الوزراء، وذلك للمرة الاولى منذ إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية التي أصبحت الآن الاتحاد الأفريقي. عقد المؤتمر الأول في موريشيوس العام 1999 أسفر عما يسمى إعلان "غراندباي" وخطة العمل للتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان في أفريقيا. وتضمنت خطة العمل إجراءات محددة يجب أن تلتزم بها الحكومات وأخرى لسكرتارية المنظمة خصوصاً في ما يتعلق بتقوية اللجنة الأفريقية ومدها بالموارد اللازمة لعملها والعمل على إنشاء لجان وطنية لحقوق الإنسان في مختلف الدول الأفريقية. ونلاحظ أن هناك أكثر من 22 لجنة وطنية في أفريقيا يجمعها اتحاد مقره جنوب أفريقيا. أما المؤتمر الوزاري الثاني فقد عقد في كيغالي عاصمة رواندا في أيار مايو 2003 وكان اختيار رواندا مقراً لعقد هذا المؤتمر له مغزى خاص باعتبار أنها شهدت أكبر انتهاكات لحقوق الإنسان في القارة والتي أسفرت عن مصرع مليون شخص. وأصدر المؤتمر بياناً مهماً دعا فيه الدول الأعضاء إلى احترام القضاء وبسط سيطرة القانون وإلى تطبيق كل المواثيق الأفريقية والدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. كما دعا البيان أعضاء الاتحاد الأفريقي إلى سرعة إنشاء المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في موعد لا يتجاوز 2006، وإلى أن تتضمن تشريعاتها الوطنية ما جاء في الميثاق الأفريقي والاتفاقات الدولية، وإلى زيادة دور منظمات المجتمع المدني في التوعية بمواضيع حقوق الإنسان. كما رحب البيان بقرار القمة الأفريقية في ديربان بإنشاء إدارة خاصة في سكرتارية الاتحاد تتناول مواضيع الديموقراطية وحقوق الإنسان وأسلوب الحكم والمجتمع المدني. * الأمين العام للجمعية الأفريقية في القاهرة