Philip Robins. Turkish Foreign Policy since the Cold War. السياسة الخارجية التركية منذ الحرب الباردة. Hurst & Company, London. 2003. 402 pages. باتت السياسة الخارجية لتركيا تثير اهتماما اكبر في سنوات ما بعد انتهاء الحرب الباردة. ذلك أن ثوابت الماضي تعرضت للاهتزاز مع انتهاء صراع المعسكرين، وتبدل موازين القوى الدولية، ونشوء صراعات اثنية الطابع في مناطق محاذية لتركيا، كالبلقان والشرق الأوسط والقوقاز، ومع تبدلات لعبة السياسة الدولية الضاغطة باتجاه التأقلم على المستويين الداخلي والخارجي، ودخول العامل الاقتصادي إلى السياسة من الباب العريض في واقع الانفتاح الاقتصادي. وهذا الكتاب يعالج هذه المتغيرات، في إطار دراسة شمولية للسياسة الخارجية التركية تربط ما بين الداخلي والخارجي والتاريخي والحاضر، وضمن ثلاثة أقسام تتناول تغيرات البيئة الدولية ودينامية صنع القرار الداخلي بين اللاعبين الرئيسيين والثانويين، ومؤثرات داخلية تاريخية وايديولوجية وأمنية واقتصادية، ومن ثم تطبيقات السياسة العملية، وصولاً إلى استنتاج أن ثوابت السياسة التركية لم تتغير. وهو يناقش ثلاثة ثوابت: أن تركيا لا تزال قوة حفاظ على الوضع القائم، وأن توجهها الحازم نحو الغرب مستمر، وأن سياستها، بعد منتصف الثمانينات، أظهرت ميلا إلى الحذر اكثر من الجسارة. الملاحظ أن تطور الاهتمام بالسياسة التركية لم يواكبه، إلا بشكل بسيط، تزايد الدراسات عنها. لذلك فالكتاب يسد فجوة مهمة في هذا المجال. والكاتب, روبنز، أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة أوكسفورد، يقوم بمسح شبه شامل لتطورات السياسة الخارجية لتركيا على مدى خمسة عشر عاما، إلا أن دراسته لا تشمل مرحلة ما بعد 11 أيلول سبتمبر ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، كما يغيب عنها تحليل العلاقة التركية اليونانية وموضوع قبرص. لقد تميزت تركيا عن باقي حلفائها في الناتو، حسب المؤلف، بأن انتهاء الحرب الباردة انعكس عليها بشكل مختلف. فهي تخلفت عن الحالة العارمة في إعادة التأكيد على قيم أوروبية جوهرية كحقوق الإنسان والديموقراطية، بينما بقيت أكثر تخوفا على الصعيد الجيوستراتيجي، وبالتالي اكثر احتراما وحذرا في تعاملها مع موسكو. وعلى اعتبار أن السياسة التركية اتسمت بالمحافظة والحذر، يقدم الكاتب مثال عدم تحبيذها التورط في مشاكل شرق أوسطية كما ظهر إزاء حرب الخليج الأولى 1990-1991، إذ يعزو سرعة تحركها في دعم المقاطعة ضد العراق إلى الشخصية الدينامية للرئيس تورغوت أوزال وليس إلى البيروقراطية والرأي العام، وهي لم ترسل قوة عسكرية للمشاركة في الحرب كما فعلت دول عدة أخرى في المنطقة بالرغم من أنها شكلت قاعدة مهمة لانطلاق الغارات الجوية الاميركية. ويلفت الكتاب النظر إلى دينامية الوضع الداخلي واللاعبين المؤثرين، رغم إيجاز التحليل في هذا المجال. فيشير إلى فترة أوزال النشطة بين 1987-1991 لجهة تأثيرها على التفكير الإستراتيجي العام، ودخول جيل شاب إلى المؤسسات البيروقراطية يدعم توجهات أوزال الدينامية والإصلاحية. إلا أنه يعتبرها فترة شخصنة للسياسة أفسدت بعض الشيء الطابع المؤسساتي لصنع القرار. وقد استطاع أوزال، أيضا، أن يلعب الورقة الاقتصادية بشكل فعال، بانفتاحه مثلا على الاتحاد السوفياتي وبداية حصول تركيا على الغاز الروسي الرخيص منذ 1987 ومبادلته ببضائع مصنعة وصلت قيمتها إلى 1,2 بليون دولار عام 1991. أما الفترة التي تلت 1991-1994 فتميزت بالاستقرار والانتظام في السياسة الخارجية، بعد تغيرات أوزال، والعودة إلى القرار المؤسسي، ما ساعد تركيا على اجتياز مرحلة الانتقال الصعبة في الوضع الدولي. لكن ما لبثت أن أعقبتها فترة تشرذ سياسي داخلي بين 1994 و1999 وتقوية نفوذ الجيش. واللافت للنظر في القسم الثاني من الكتاب، حول المؤثرات الداخلية على السياسة الخارجية، كالتاريخ والإيديولوجيا والأمن والاقتصاد، أهمية الثقل الذي تحتله أوروبا. فالعلاقة التاريخية معها تمر في محطات أساسية تعكس خيبات أمل متواصلة من الجانب التركي: بدءا من معاهدة سيفرس عام 1920 التي دعت إلى تقسيم ما تبقى من الامبراطورية العثمانية، إلى اتفاقية أنقرة عام 1963 التي أنشأت اتفاق زمالة مع السوق الاوروبية كخريطة طريق لمستقبل البنية الاندماجية لكن العقبات واجهتها دائما، وأخيرا اجتماع لوكسمبورغ الأوروبي عام 1997 الذي استثنى تركيا من بين إثنتي عشرة دولة من الوعد ببدء محادثات الانضمام، وهو ما عدلته بعض الشيء قمة هلسنكي عام 1999 حين رشحت تركيا للانضمام على أساس أن تبدأ المحادثات، في 2004، في حال استوفت شروط الإصلاح السياسي. ومن الباب الأيديولوجي يضع الكاتب أوروبا في صلب الإيديولوجية "الكمالية"، ما يعكس الموقف التركي المستمر في إبداء رغبة الانضمام إلى الوحدة الأوروبية منذ البداية، ويتوقف بعض الشيء على تبدلات الموقف الإسلامي المتحول في أواخر التسعينات من رفض الوحدة الى قبولها، نظرا لما يمكن أن تشكله من دعم للديموقراطية الداخلية. ولا يغيب الثقل الاوروبي عن موضوع الاقتصاد: ذلك أن السوق الأوروبية هي منذ الثمانينات السوق التجارية الأولى لتركيا دون منازع حتى قبل توقيع الاتفاقية الجمركية في 1996. أما المؤثر الأمني فله ميزة خاصة في السياسة التركية، بحيث يعتبره العنصر الجوهري لكل أوجه السياسة العامة، والمنطق وراء وجود جيش ضخم، هو الثاني عددا في الناتو، كما أنه التبرير الأساسي لعرقلة الليبرالية السياسية والحريات. ويظل الموضوع الأمني مهماً لأن تركيا محاطة بدول غير صديقة، من روسيا المناهضة تاريخيا لها والتي تحالفت مع أرمينيا ضد أذربيجان، إلى التنافس مع إيران، والتأزم مع اليونان، والريبة من سورية، إلى مشاكل شمال العراق الكردي وانعكاسه الداخلي ومسألة حزب العمال الكردستاني، وايضا التخوف من حرب الأبخاز في جورجيا خاصة مع وجود عدد منهم ربما كان أكبر مما في تركيا نفسها، بالإضافة إلى مخاوف حروب البلقان الإثنية. وفي عرضه لعدد من حالات السياسة التركية في التطبيق، يتناول الكاتب علاقة تركيا بأقرانها في آسيا الوسطى والتي ظهرت حدودها بعد فورة حماس في 1991-1992 عندما اصطدمت بعدم رغبة تلك الدول في التقارب ضمن بوتقة الهوية التركية، فيما كانت لها حساباتها الخاصة مع موسكو وأيضا مع الغرب. كما يعالج دور تركيا في أزمة البوسنة حيث تضاءلت أهميتها مع انتهاء الصراع. والحالتان، في نظر الكاتب، تشيران إلى صعوبة قيام انقرة بدور فاعل ومؤثر بمفردها من دون تحالفات، ولو كان في إمكانها، لو أرادت، أن تلعب دورا معرقلا. وفي خصوص التحالف التركي مع دولة إسرائيل، يحلله الكاتب في إطار تطور العلاقات بين البلدين وتداعيات السياسة الداخلية التركية، على أساس أن العلاقة تطورت بعد 1991، أي بعد حرب الخليج الأولى ومؤتمر مدريد، مع عودة العلاقات الديبلوماسية الكاملة بين البلدين، وقد توطدت بأشكال تعاونية بين 1993 و1996 اثر اتفاقية أوسلو وصولا إلى التحالف في إطار اتفاقيات التعاون العسكري الثلاث التي وقعت في 1996. ويناقش دور المؤسسة العسكرية في إرساء التحالف المذكور فيصفه بإعلان تحدٍ، إقليمي وداخلي، من قبلها. أما بحلول 1999 فباتت العلاقات الاسرائيلية التركية تسيطر عليها العلاقات العسكرية، وتقودها المؤسستان العسكريتان الضخمتان لكلا البلدين. إلا أن التحدي الأمني الأعقد الذي شهدته تركيا في التسعينات فتمثل، برأي الكاتب، في مأزق شمال العراق. وفي الواقع لم تعد قراءة السياسة الخارجية لتركيا ممكنة من دون هذه الشمولية، ومن دون فهم ديناميكية التفاعل الداخلي والخارجي. وبهذا يقدم الكتاب انطلاقة مفيدة في هذا المجال. إلا أن استنتاجاته حذرة وعمومية، بالرغم من أن المعلومات والتحليلات التي يقدمها تسمح بأكثر من ذلك. فهو يخلص إلى استنتاجات تحمل درجة من المراعاة للنخبة التركية في إطار الثناء على مسلكيتها العامة، وهي جردة حساب لهذه السياسة من موقع بريطاني.