تأسست الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية بقيادة الجنرال مصطفى كمال وبمساندة فاعلة من معظم مكونات المجتمع الأناضولي ومن بينهم الكرد، لأنه قاد حرب التحرير ضد الاحتلال الأجنبي لبلاده من قلب الأناضول. ولدى افتتاح "المجلس الوطني الكبير" في مدينة أنقرة، كان عدد النواب الكرد فيه يتجاوز السبعين. ووعد الجنرال مصطفى كمال، وهو من سالونيك وليس من أصل تركي، القادة الكرد بمنح بلادهم حكماً ذاتياً واسعاً مقابل مساندتهم له في الانتصار على أعداء البلاد. ويشكل الكرد قرابة ثلث عدد السكان في تركيا، وهم القومية الثانية التي تقطن مناطق خاصة بهم في جنوب شرقي تركيا. ان الرسائل المتبادلة بين مصطفى كمال والقادة الكرد قبل عام 1923 بالاضافة الى الوثائق الرسمية الأخرى بشأن الاعتراف بالحكم الذاتي للمنطقة الكردية محفوظة في الأرشيف السري للدولة التركية. وقد كشف النقاب عنها في بداية الثمانينات بعض الباحثين وبينهم باحث تركماني من العراق هو الدكتور ابراهيم الداقوقي الذي ترجمها الى العربية. لكن الجنرال مصطفى كمال تخلى عن وعوده بمجرد هيمنته على السلطة الجديدة. ولما طولب بتنفيذ تلك الوعود، واجه الكرد بشن حرب شرسة ضدهم انتهت بتدمير قراهم واعدام معظم قادتهم في مدينة ديار بكر آمد، ومن بينهم الشيخ سعيد بيران والدكتور فؤاد ديار بكري وآخرون تجاوز عددهم الأربعين. وأجبر النظام الكمالي عشرات الألوف من القرويين الكرد على الرحيل والاستيطان في المناطق الغربية من تركيا. ومنذ ذلك الوقت يطلق في تركيا على الكرد اسم "الأتراك الجبليون" الذين يتكلمون لغة غريبة بسبب نسيانهم لغتهم التركية الأصلية! وهكذا تعرض الكرد حسب تعبير الكاتب التركي الدكتور اسماعيل بيشكجي الى أكبر عملية تزوير في التاريخ استهدفت التنكر لوجود شعب سبق الأتراك في العيش في الأناضول بقرون عدة. وتؤكد الوثائق الرسمية العثمانية بدورها وجود إمارات كردية في تلك الديار كانت تتمتع باستقلال تام أو تلتزم فقط بتقديم المساعدة للسلطان في حال دخوله حرباً ضد دول أو قوى أجنبية. واستمر هذا الانكار المطلق للكرد من جانب النظام الكمالي قرابة ستين عاماً، أي لحين وصول المرحوم توركوت اوزال الى سدة الرئاسة التركية في بداية الثمانينات، حيث خفف قليلاً من القيود الكثيرة المفروضة على الكرد، وأعطى أوامره بالسماح لهم بالتخاطب بلغتهم الكردية في الشارع وفي الأماكن العامة، في دولة كانت ولا تزال تسبغ صفة "الديموقراطية" على نظام الحكم فيها. وأعلن اوزال لأول مرة ان عدد نفوس السكان الكرد لا يقل عن 12 مليون نسمة، وهو عدد متواضع ويقل كثيراً عن عدد نفوسهم الحقيقي الذي لا يقل عن 20 مليوناً. وقد أخبرني السيد مهدي زانا عام 1996، وهو رئيس سابق لبلدية ديار بكر الكردية وزوج النائبة التركية ليلى زانا التي تقضي أيامها في السجن منذ سنوات عدة، أن عدد نفوس الكرد في مدينة اسطنبول وحدها لا يقل عن أربعة ملايين نسمة لا يزال كثيرون منهم لا يجيدون التركية! وكان الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل أكد بما صرح به توركوت اوزال بشأن عدد نفوس الكرد في تركيا عندما كان بحاجة لأصواتهم في الانتخابات التي جرت عام 1991، لكنه تنكر لتصريحاته السابقة بعد وصوله الى الحكم، شأنه في ذلك شأن الجنرال مصطفى كمال عام 1923. وخلال الفترة الطويلة الممتدة من عشرينات القرن الماضي حتى الآن، تعرض الكرد لحملة منظمة من التشويش والتزوير بقصد انكار وجودهم أو وجود لغة أو تراث أو ثقافة خاصة بهم. وذهب بعض "الأكاديميين" الكماليين الى حد القول ان ما يوصف بلغة كردية لا يتعدى كونه "لهجة تركية تضم بضع عشرات من المفردات غير المتجانسة والغريبة"! وهذا ما حدا بالكاتب والشاعر الكردي المرحوم موسى عنتر الذي اغتالته عام 1994 عناصر من الأمن في ديار بكر على رغم كبر سنه، ان يقول متهكماً: "عجيب أمر هؤلاء الفطاحل الذين يصفون لغتنا بتلك الصفات، أويعلمون بأن لبعض أصناف الطيور مفردات تتجاوز هذا العدد الذي يحددونه للغة حية كالكردية"! لقد دون الشاعر أحمدي خاني ملحمته المشهورة "مم وزين" بالكردية قبل أربعة قرون. وأود ان أشير في هذا المقال الى حديث سمعته عن الكردولوجي المعروف المرحوم الأب توما بوا عام 1967 في باريس عندما كنت طالب دراسة فيها وذلك عن صلته بالمرحوم موسى عنتر. قال الأب بوا انه كان في اسطنبول في صيف عام 1958 بعد اندلاع الثورة في العراق اعترافها بالكرد كقومية ثانية في البلاد. وأضاف قائلاً "دعوت موسى عنتر الى الفندق الذي كنت فيه، وفي حال نشوة وفرح، رفعت كأسي وقلت: الحرية للكرد في كل مكان! وحيث ان تلك الأماكن العامة في تركيا مليئة عادة برجال الأمن والاستخبارات، سمعت قبيل فجر الليلة ذاتها طرقاً شديداً على باب غرفتي، ثم اقتادني رجال الأمن بملابسي الدينية الى دائرة أمن اسطنبول. وفي الصباح عندما أرادوا استجوابي، طلبت حضور ممثل عن القنصلية الفرنسية باعتباري فرنسياً، وأخبرتهم بوجود اشتباه لديهم بشأن اسمي فلست أنا المقصود، فاسمي توما بوا وليس توماس بويس. ثم أردف قائلاً: ما كنت أتصور أن يكون رئيس دائرة أمن اسطنبول الذي استجوبني في ما بعد بنفسه بهذه الدرجة من الغباء!". لم يكن المدير يعرف ان الاسم نفسه يُلفظ توما بوا بالفرنسية وبتوماس بويس بالانكليزية! فاضطر الى الاعتذار للسيد توما بوا لأن الشخص المطلوب هو توماس بويس! أما الأديب موسى عنتر، فقد تبين في ما بعد انه قضى أشهراً ثلاثة في أقبية دائرة أمن اسطنبول تعرض خلالها لصنوف التعذيب المهين. وقد تعود موسى عنتر على هذه الزيارات غير المريحة لدوائر الأمن التركية خلال عمره المديد لحين اغتياله بعد تجاوزه التسعين عاماً. لقد أخبر السيدة دانيال ميتران زوجة الرئيس الفرنسي السابق التي كانت في زيارة لمخيمات اللاجئين الكرد بالقرب من الحدود التركية العراقية عام 1989، بعد مقابلته لها في الفندق في مدينة دياربكر: "يا سيدتي انهم أي رجال الأمن ينتظرونني خارج الفندق. لقد تعودت على استجواباتهم منذ أكثر من أربعين عاماً والتي يدوم بعضها لأشهر عدة"! اضطر حكام تركيا الجدد الى الاعتراف ببعض الحقوق البسيطة للكرد، كاستعمال اللغة الكردية في الكتابة وتدريسها في مدارس خاصة، وهي حقوق تنتظر التنفيذ بعد إقرارها رسمياً نتيجة للضغوط السياسية المستمرة التي مارستها حكومات أوروبية عدة ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الانسان العالمية. ان تطبيق القوانين التي كرست هذه الحقوق يستلزم توافر حسن النية لدى القائمين بتنفيذها، وهو غير موجود لحد الآن لأن جهاز الدولة اعتاد منذ تأسيس الدولة التركية على انكار وجود الكرد أو وجود لغة خاصة بهم. ان الحزب السياسي الذي يقود الحكومة القائمة له بعض جذور اسلامية، كما أن رئيس هذا الحزب قد انتخب أخيراً نائباً عن منطقة كردية وهي قائمقامية الازيز، فهما الحزب ورئيسه مطالبان بالنظر الى المسألة الكردية بشكل يختلف عن السابق، لأن روح الاستعلاء القومي والاستهانة بغير الأتراك كانتا صفة ملازمة لجميع حكام تركيا السابقين، من مصطفى كمال وعصمت اينونو الى الجنرالات الآخرين الذين قفزوا الى السلطة عبر انقلابات عسكرية عدة. ان قادة الحزب الحاكم في تركيا مطالبون بالعودة الى التاريخ ودراسة وثائقه. ألم يؤد التحالف بين الكرد والسلاجقة حسب تعبير لويس ماسينيون في تقديمه لمؤلف نيكيتين عن الكرد الى سيطرتهما على معظم أجزاء آسيا الصغرى؟ أولم يكن التحالف بين الزنكيين والايوبيين بداية حملة تحرير المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة الصليبيين الغزاة والذي أدى الى ظهور صلاح الدين الايوبي في ما بعد ليقود معركة تحرير القدس الشريف بعد انتصاره على الصليبيين في معركة حطين التاريخية؟ ثم ان الكرد كانوا يتمتعون بحقوق كثيرة في بداية انضمامهم للدولة العثمانية، وكانت اماراتهم العديدة تتمتع عملياً باستقلال تام أو شبه تام لحين ظهور الاتحاد والترقي الطوراني المتعصب. ان حكام تركيا الجدد مطالبون بالنظر الى المسألة الكردية كونها قضية شعب يريد التمتع بحقوقه القومية المشروعة كشعب له تاريخ ولغة وثقافة اصيلة عريقة، وانه يريد العيش بأمان في ظل دولة ديموقراطية تحترم حقوق الجميع. لذلك فإن مقابلة النداء الذي وجهه قادة الحركة الكردية في تركيا قبل أشهر عدة باستعدادهم لترك السلاح وحل المشاكل العالقة بينهم وبين الحكومة التركية على مائدة المفاوضات يجب أن تكون ايجابية وليس باصدار قانون هزيل يتضمن اصدار عفو جزئي عنهم. انهم ليسوا بحاجة للعفو، الذي هو عفو جزئي مع تبعات قانونية كبيرة. لقد رفعوا السلاح بوجه القوات المسلحة وقوات الأمن والمرتزقة الأكراد دفاعاً عن وجود شعبهم. كما انهم لم يرتكبوا جرائم ضد المدنيين العزل في المدن التركية، وكان بإمكانهم عمل ذلك نتيجة استعداد مقاتليهم للتضحية بأنفسهم في ما لو طولبوا بتنفيذ عمليات انتحارية. لقد لجأ النظام البعثي في العراق الى جميع الأساليب البشعة من قتل جماعي وحرق لآلاف القرى وتهجير أبنائها بل قتلهم كما حدث في عمليات الأنفال السيئة الصيت، مع استعمال الأسلحة الكيماوية واتباع سياسة تطهير عرقي في كركوك وفي مناطق أخرى من كردستان كانت خاضعة لسيطرته. ولكن النظام العراقي وجد طريقه الى مزبلة التاريخ، وبقي الشعب الكردي قوياً صامداً على رغم الفواجع والآلام التي تجرعها خلال عقود طويلة. وكذا الأمر بالنسبة الى الشعب الفلسطيني الذي تعرض ولا يزال لأبشع حملة إبادة على أيدي العنصريين الغلاة، لكن النصر آت قريباً بفضل صبره وتضحياته وتضامن شعوب العالم معه. لقد تغير العالم كثيراً خلال الحقبة الأخيرة، خصوصاً بعد انهيار جدار برلين وظهور مفاهيم جديدة في القانون الدولي تبيح التدخل في الشؤون الداخلية للدول التي تمارس القمع والارهاب المنظم ضد شعوبها. لقد أصبح بمقدور المجتمع الدولي التدخل لفض المشاكل والمنازعات الداخلية والاقليمية، كما حدث في دول البلقان وفي اقاليم ودول أخرى من العالم. اذا كان من حق المسؤولين العرب ومن حق القيادة الفلسطينية مطالبة الولاياتالمتحدة بالذات والمجتمع الدولي التدخل لحل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي وحل المسألة الفلسطينية وانهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فمن حق الكرد أيضاً مناشدة تلك الأوساط والدول وطلب تدخلها لحل المسألة الكردية في كل مكان، لأن حل هذه المشاكل يؤدي الى تقوية أواصر العلاقات بين شعوب تلك الدول. وحل المسألة الكردية في تركيا بالذات يضع حداً لتدخلات هذه الدولة في الشؤون الداخلية لكردستان العراق ويجبرها على سحب قواتها من المناطق التي تحتلها حالياً تحت ذريعة وجود مسلحين أكراد من حزب PKK فيها، أو بحجة منع تشكيل دولة كردية مزعومة. ان حل المسألة الكردية في تركيا يؤدي الى استتباب الأمن والاستقرار في العراقوتركيا وفي المنطقة بأسرها. والولاياتالمتحدة لما لها من تأثير في المنطقة وفي تركيا بالذات تستطيع ان تلعب دوراً مؤثراً عن طريق الضغط على الحكومة التركية لإجبارها على الجلوس على مائدة المفاوضات مع ممثلي الحركة التحررية الكردية في تركيا على أساس الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي، وهذه الخطوة المهمة تسهل الى حد كبير عملية دخول تركيا الى الاتحاد الأوروبي وتجعل المنطقة بأسرها مستقرة آمنة لينصرف الجميع الى بناء حياة جديدة بعيدة عن العنف وسفك الدماء والتدمير. * باحث قانوني من كردستان العراق.