هذه الذكريات عن الديبلوماسي المصري مراد غالب، شهادة على ثقافة جيل. وعلى أخلاقيات ونظام علاقات في الإدارة السياسية، وبعض خلفيات القرار في مرحلة ما قبل هزيمة 5 حزيران يونيو 1967 وما بعدها. حين توجهتُ إلى موسكو في 2 آب أغسطس 1963 للعمل سكرتيراً ثالثاً في السفارة المصرية تحت رئاسة السفير مراد غالب، لم أكن التقيته من قبل، غير أنني كنت أعرف أنه الطالب في كلية الطب في جامعة الإسكندرية الذي اختبأ عنده لبعض الوقت عزيز علي المصري وحسين ذو الفقار صبري بعد أن هَوَت بهما عند قليوب شمال القاهرة طائرة استقلاّها للفرار بها إلى القوات الألمانية الزاحفة تجاه العلمين بقيادة إروين رومل. وكنت أعلم أنه عمل مديراً لمكتب الرئيس جمال عبد الناصر للشؤون السياسية قبل تعيينه سفيراً في الكونغو إبان حربها الأهلية. كما أخبرني البعض أنه يعتقد بالماركسية اللينينية ولكن في سعة صدر، وأنه هو الذي حبَّب إلى عبدالناصر القراءة، وأن عبد الناصر كان يعهد إليه تلخيص الكتب الأجنبية التي يهمه الاطلاع على مضمونها من دون أن يكون لديه متسع من الوقت لقراءتها. قابلته في مكتبه في السفارة للمرة الأولى في اليوم التالي لوصولي. كان وقتها في الحادية والأربعين من العمر، طويلاً وسيماً أنيقاً بشوشاً، دائم الابتسام، كثير الضحك، موفور الصحة. أخبرني أنه سمع من وكيل الوزارة محمد حافظ اسماعيل أن تعييني في السفارة في موسكو كان بناء على طلبي، وسألني عن سبب هذا الاختيار، أجبته بأنني كنت منذ سن الرابعة عشرة مغرماً بالأدب الروسي، وقرأت معظم المؤلفات فيه، وأن هذا الغرام دفعني إلى التعمق في دراسة تاريخ روسيا، ثم الماركسية، والنظام الشيوعي، فرأيت أن السفارة في موسكو ربما كانت أنسب مكان لعملي. تأملني صامتاً بعض الوقت، ثم شرع في استجوابي للتأكد من صدق ما أقول، وسألني عما إذا كنت قرأت روايات ليسكوف وغونشاروف وبيسيمسكي وسالتيكوف ستشدرين. فلما أجبته بالإيجاب سألني عن اسماء تلك الروايات. فلما أجبته سألني عن أحداث بعضها وشخصياتها. فلما أجبته تحوّل إلى سؤالي عن الماركسية والنظام الشيوعي، وعما إذا كنت قرأت كتاب ليونارد شابيرو عن الحزب الشيوعي السوفياتي، ثم عاد يتأملني صامتاً نحو دقيقتين، قال بعدهما: ستتولى قسم الشؤون الداخلية للاتحاد السوفياتي، وأريد منك علاوة على ذلك تقريراً كل شهر عن الجديد في الحياة الثقافية هنا. - أخبرني السيد الوزير المفوض منذ ساعة أنه يريدني أن أتولى الشؤون القنصلية. - أراهنك أنه لم يقرأ حرفاً لسالتيكوف ستشدرين، أو حتى سمع عنه! لا يا سيدي... مثلك لم يُؤتَ به إلى موسكو لإصدار التأشيرات وتجديد الجوازات. وكان هذا اللقاء الأول فاتحة علاقة عمل دامت أكثر من أربع سنوات، سرعان ما تطوّرت إلى صداقة نابعة عن إعجاب متبادل، واحترام عميق. كنت دائماً أشبّهه بأمراء عصر النهضة في إيطاليا من أمثال لورنزو دوسبيتشي، فاهتماماته لا يحدها حدّ. هو طبيب وسياسي وسفير. رياضي من الطراز الأول، يهوى السباحة والغوص في أعماق البحار، وكثيراً ما يصطحبه أصدقاؤه من القادة السوفيات كانوا ينادونه بالرفيق مُراديان إلى خارج موسكو لصيد البط والأسماك. يهوى الموسيقى الكلاسيكية والقراءة في مختلف فروع المعرفة، خصوصاً السياسة والأدب والدين والتاريخ. وهو صديق لعدد ضخم من الأدباء والموسيقيين والرسامين البارزين السوفيات، من الموالين للنظام أو المنشقين من أمثال الفنان غلازونوف الذي رسم صورة رائعة لزوجته الحسناء. وفي وسعي القول إنه على رغم أن الفارق في السن بيني وبينه لم يكن بأكثر من عشر سنوات، فقد أخذ على عاتقه منذ بداية عملي معه أن يتبناني، وأن يوجهني ويشرف على أدائي. فكان يعرفني بأصدقاء له مثل الموسيقي الأرمني الشهير أرام خاتشادوريان، ويدعوني للعشاء عنده للقاء الشاعر يفغيني يفتوشنكو، فإن دُعي لقضاء اليوم كله في المسكن الريفي للروائي يوري فبيبين وزوجته الشاعرة التترية بيلا أخمادولينا، اصطحبني وزوجتي من دون استئذان من الراعي. وإن تعذر عليّ الحصول على تذاكر لحفلات موسيقية يعزف فيها ريختر أو أويستراخ طلب التذاكر لنفسه من وزارة الخارجية وأعطاني إياها. وهو يبعث بي في زيارات لبعض مزارع الدولة والمزارع الجماعية لكتابة بحث عن نظم العمل بها، وينصحني بزيارة الجمهوريات الإسلامية السوفياتية لدراسة وضع المسلمين فيها. فإن فكرت وزارة الخارجية المصرية في إنشاء معهد للدراسات الديبلوماسية لتدريب الملحقين الجدد، منحني إجازة من العمل في السفارة للطواف بالمعاهد السوفياتية لتدريب أعضاء السلك الديبلوماسي والسلك القنصلي والسلك التجاري، حتى أكتب إلى الوزارة في القاهرة تقريراً عن إمكان الإفادة من نظم الدراسة فيها. وما زلت أذكر يوماً استدعاني فيه إلى مكتبه ليقول: - أعلم أنك مهتم بالدراسات الإسلامية، وأريدك أن تقرأ مؤلفات المصلح الديني السوفياتي عبد الرؤوف فطرة، الذي أعدمه ستالين في عام 1937، والذي كانت دعوته إلى تجديد الفكر الديني في الإسلام وإصلاح نظم التعليم شديدة الشبه بدعوة الشيخ محمد عبده عندنا. كيف لغتك الروسية الآن؟ - لا بأس.فناولني مجموعة مغلفة من الكتب على مكتبه قائلاً: إقرأ هذه. وكانت المجموعة من خمسة كتب لعبد الرؤوف فطرة، هي: "المناظرة"، و"العائلة"، و"السائحة"، و"النجاة"، و"البيانات"، كان لها في ما بعد أعمق الأثر في فكري الإسلامي. كان دائماً هادئ الأعصاب، رزيناً متماسكاً، حتى ليكاد البعض يتهمه بالخلوّ من العواطف. وما كان ليصطدم بأحد أو يعادي أحداً، وكثيراً ما كان يذكرني هذا المضمار بالمثل الروسي القائل: "سواء ارتطم الحجر بالكأس الزجاجية أو الكأس بالحجر، فالكأس هي التي ستنكسر"، ولا أذكر أنني رأيته، غاضباً طوال السنوات الأربع التي عملتُ خلالها معه إلا مرة واحدة، هي حين استدعى أعضاء السفارة من ديبلوماسيين وإداريين للاجتماع به في مكتبه، ثم ذكر لهم بصوت يرتعش من الانفعال أن السلطات السوفياتية أخبرته أن الكثيرين من أعضاء السفارة المصرية يقضون أمسيات الجمعة في النادي الترفيهي التابع للسفارة الاميركية لمشاهدة أفلام اميركية، ولعب "البينغو" وشُرب الكوكاكولا، وتناول المكسرات. وأعطته تلك السلطات قائمة بأرقام اللوحات المعدنية للسيارات الأكثر تردداً على ذلك النادي. قال مراد غالب: - أَن ترسلكم بلادكم للخدمة في دولة من أكبر وأهم دول العالم، وأعرقها تاريخاًَ وحضارة، وأخصبها فنوناً وثقافة، كي تدرسوا جوانب الحياة كافة فيها، وتتذوقوا ما تقدّمه من ثمرات فنونها وعلومها، ثم تديرون ظهوركم لكل هذا في استخفاف، وترفضون بكل وقاحة ما يقدمه المضيف لكم من خبرات داره، كي تواصلوا مشاهدة ما اعتدتم مشاهدته في مصر من أفلام اميركية هابطة، هي أمور عندي غير مقبولة لأنها بمثابة صفعة وإهانة للدولة المضيفة. إن بلغني بعد اليوم أن أحدكم زار النادي الاميركي الذي لا يقصده غير السعاة والفراشين وحراس الأمن في السفارة الاميركية بينما يتردد ديبلوماسيوها على مسرحَيْ البولشوي والكرملين، وعلى دور السينما والمتاحف والمعارض الروسية، تاركين ناديهم لكم ولسائر الغوغاء، فسأطلب من الوزارة نقله على الفور إلى القاهرة. كانت هذه المرة الوحيدة التي تدخّل فيها مراد غالب في الحياة الخاصة لمرؤوسيه بل إنه حتى في مجال العمل في السفارة ما كان ليتدخل قط، إن هو لمس من أحد الديبلوماسيين ضعفاً في الانتاج واستهتاراً بالعمل. أجاب أمامي على شكوى الوزير المفوض من أن ملحق السفارة لا يكتب التقارير السياسية قط بقوله: - يقول المثل الروسي: "في وسعك أن ترغم حِصانك على الوصول إلى الماء... غير أنه لن يكون في إمكانك أبداً أن تُرغمه على الشرب منه". أتظن لو أنني وبخته وأجبرته على كتابة التقارير، سيأتي بشيء ذي قيمة؟ لا قيمة إلا لمن كان عمله طواعية وعن رغبة حقيقية في الانتاج، كما في حال محمد شفيق مثلاً، وحسين أمين. كان محمد شفيق هذا سكرتيراً ثانياً في السفارة، غزير العلم، فاضل الخلق، جاد الإقبال على تعلم اللغة الروسية، مقرباً من السفير، وإن كان غرامه بالقراءة في الفلسفة جعل من الصعب على الكثيرين فهم أفكاره ولغته. أذكر مرة أنه كتب مذكرة ضافية يشرح فيها ما كانت تُعرف وقتها بوصية تولياتي زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي وإذا كان من السهل علينا جميعاً فهم الوصية ذاتها في حين جاء الشرح الذي كتبه شفيق لها بالغ الصعوبة، فقد اقترح الوزير المفوض على السفير مراد غالب أن يكتب في خطابه إلى وزارة الخارجية: "أتشرف بأن أبعث رفق هذا بالمذكرة التي أعدها السيد السكرتير الثاني محمد شفيق، مع شرح تولياتي لها". كذلك كان أعضاء السفارة متى رأوا مراد غالب في الحفلات الخاصة وقد جلس محمد شفيق إلى يمينه وجلستُ إلى يساره، يتهامسون ضاحكين: "ها هو قد جلس كالعادة بين أبي بكر وعمر"! كان من دأب مراد غالب صباح كل يوم اثنين أن يستدعيني ومحمد شفيق فيناول كلاً منا كتاباً من كتب تكون وصلته من مكتبة "كلود جيل" في لندن، ويطلب منا أن نقرأهما خلال الاسبوع وأن نلخصهما له شفاهة صباح الاثنين التالي، تماماًَ كما يفعل جمال عبد الناصر معه، وأذكر مرة زارنا فيها في السفارة الكاتب الأديب مرسي سعد الدين، وإذ وجد على مكتبي كتاباً بالانكليزية عن "السكون والحركة في الفن المصري القديم"، صاح في دهشة: - أي كتب هذه التي تقرأها يا حسين؟! فلما أخبرته أنني لا أقرأها لنفسي وإنما بناء على تكليف من السفير، شأنه كل يوم اثنين، تعاظمت دهشته، وجعل يخبط كفاً بكف ويقول: - كم يا تُرى من سفرائنا في الخارج يصنع هذا؟! كان غالباً ما يستجيب لرجاءات السلطات في موسكو حرصاً منه على علاقات مصر الحيوية والودية بالاتحاد السوفياتي. ومما أذكر في هذا الصدد أن هذه السلطات أخطرته مرة أن ملحق السفارة الذي دأب - لدهشتنا الشديدة - على قضاء عطلاته نهاية الاسبوع في سويسرا، يطوف بجهات مشبوهة في موسكو لشراء الأيقونات الثمينة والتحف الروسية القديمة، ثم يسافر براً إلى جنيف لبيعها بأسعار باهظة، وأنه بتفتيش شقته في غيابه تبين أنه يحتفظ فيها بمبلغ ثلاثة ملايين روبل نقداً، ولوحتين أصليتين من لوحات بيكاسو!! وكان أن استدعاه مراد غالب، وناوله في هدوء مظروفاً مختوماً بالشمع الأحمر كتب عليه: "سري للغاية ولا يُفتح إلا بمعرفة السيد وزير الخارجية". وطلب منه أن يستقل الطائرة المصرية المسافرة إلى القاهرة في اليوم التالي لتسليم تلك الرسالة بالغة الأهمية إلى الوزير، ثم يعود إلى موسكو في طائرة يوم الجمعة، وقد سعد الملحق بتكليفه بهذه المهمة السرية، ولم يأخذ معه في رحلته إلى مصر أكثر مما سيحتاج إليه من ملابس خلال ثلاثة أيام أو أربعة. فلما استقبله وزير الخارجية وقرأ أمامه رسالة مراد غالب إليه، إذا هو قد نقل فيها ما أبلغته إياه السلطات السوفياتية، راجياً عدم السماح للملحق بمغادرة مصر، وفصله من الوزارة. سألته مرة عن علاقته بعزيز باشا المصري الذي عينه عبد الناصر العام 1953 سفيراً لمصر لدى الاتحاد السوفياتي، فلما اشترط أن يصطحب معه الطبيب مراد غالب الذي اختبأ عنده في الاسكندرية إبان الحرب العالمية الثانية، عيّنه عبد الناصر سكرتيراً ثالثاً في السفارة، فترك من وقتها مهنة الطب، كنت أحسب أن العلاقة بينهما لا بد أنها كانت ودية ووثيقة، فإذا العكس هو الصحيح، فقد كان عزيز المصري وقتها شيخاً مخرفاً، طاعناً في السن، دائم التوتر، غريب الأطوار، كثيراً ما يسبب الحرج لمن يلتقيهم من القادة السوفيات بإصراره على الحديث عن إعجابه بروايات دوستويفسكي الذي كانت الايديولوجيا السوفياتية تمقته، والذي كشف - على حد تعبير عزيز المصري - عن "جذور الجنون في الشخصية الروسية"! وكان الباشا نادراًَ ما يتوجه من مسكنه إلى مبنى السفارة المجاور في شارع هرتزن، ويدير شؤون البعثة من غرفة نومه، تاركاً للطباخة المصرية السمينة التي اصطحبها معه من القاهرة مهمة الفصل في أمور الموظفين، كالموافقة أو عدم الموافقة على طلباتهم للقيام بإجازات سنوية! وقد روى لي مراد غالب أن عزيز المصري كثيراً ما كان يستدعي إلى مسكنه خلال ساعات العمل الرسمية ديبلوماسياً في البعثة يُدعى عبد العزيز خيرت ليلعب معه الشطرنج، فإن غلبه خيرت هبّ عزيز المصري غاضباً من مقعده أو من سريره ليعدو والمسدس في يده وراء خيرت يهدده بإطلاق النار عليه! لم يكن مراد غالب بالذي يجد سهولة في الكتابة أو الخطابة، وإنما كانت قوته تكمن في الجدل أو الحديث مع فرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد. استمعت إليه يُلقي خطبة حماسية في مجموعة من الطلاب العرب قبيل اندلاع حرب حزيران يونيو 1967، فبدا متلعثماً لا يُكمل جُملة. وكنت إذا تقدمت إليه ببحث من أربعين أو خمسين صفحة، هز رأسه متعجباً وقال: "الوقت الذي تستغرقه منك كتابة هذا تستغرقه مني كتابة صفحة واحدة"، وكان هذا هو سبب اقتصاره في عمله الديبلوماسي على كتابة البرقيات الرمزية الموجزة، وربما أيضاً سبب إحجامه مدة طويلة عن تدوين مذكراته، أو تسطير المقالات. أما عن اللغة فقد كان متقناً الروسية والإنكليزية متوسطاً في العربية والفرنسية. كانت حرب حزيران كارثة عنده، فعلى رغم أن السوفيات كانوا البادئين بتفجير الموقف بإخطارنا بالحشود الإسرائيلية عند الحدود السورية ومن أنهم هم الذين أوصوا عبد الناصر باتخاذ الإجراءات المناسبة، إذا بقادتهم يعبّرون لمراد غالب عن غضبهم من اتخاذ عبد الناصر قراره بإغلاق خليج العقبة من دون استشارتهم سلفاً، ويلومون مصر على تصعيد الموقف تصعيداً قد يؤدي إلى حرب لا مفر من أن تُورط حلفاءها السوفيات، وتقحمهم في نزاع مع الغرب هم في غنى عنه، كما أن من شأنها في حال الهزيمة أن تُثبت ضعف السلاح الروسي في يد المصريين مقارنة بالسلاح الاميركي في يد الإسرائيليين. وحدث خلال أيام الحرب أن رأيت بعينيّ في إحدى حفلات الاستقبال كلاً من بريجنيف وكوسيغين يدير ظهره عابساً لمراد غالب حين رآه يتقدم نحوه لمصافحته. ما وصلنا إلى السفارة صبيحة اليوم الأول من الحرب "5 حزيران وأدرنا المذياع لنستمع إلى نشرة أخبار الإذاعة البريطانية، حتى علمنا بنبأ الهجوم الإسرائيلي، صحتُ وصاح زملائي مهللين: "قامت الحرب"، وهرعتُ إلى السفير أخبره عَله لم يكن قد سمع. دخلت مكتبه فإذا هو وقد دفن رأسه بين راحتيه يستمع هو الآخر إلى أخبار لندن. فلما رآني وضع سبابته على شفتيه إشارة منه لي ألا أتكلم ريثما يسمع بقية الخبر. ثم كان أن ألممنا معاً من بقية النشرة بكل أبعاد الكارثة... هاجمتنا الطائرات الإسرائيلية وعصفت في نحو ساعة بالشطر الأعظم من سلاحنا الجوي، وهو رابض من دون حراك على الأرض في المطارات فتقرر بذلك مصير المعركة. عرفنا الحقيقة ونحن في موسكو بعد ساعة واحدة من نشوب الحرب، ولم يعرفها معظم المصريين بالداخل إلا من خطاب عبد الناصر مساء الجمعة 9 حزيران الذي أخبر الأمة فيه بنبأ الهزيمة، وبقراره التنحي عن الحكم. كنا وقتها في مكاتبنا في السفارة ننتظر معاً إذاعة الخطاب الذي كانت اذاعة القاهرة أعلت مسبقاً عنه، واستمعنا إلى قرار عبدالناصر بالتنحي عن منصبه لزكريا محيي الدين، فإذا بمراد غالب يجهش بالبكاء وينهض سريعاً إلى حجرة مكتبه للاختلاء فيها بنفسه، وبقينا نحن في أماكننا صامتين ذاهلين وكأن على رؤوسنا الطير، حتى أفقنا بعد ساعتين على أصوات نواح وعويل في فناء السفارة وقد توافد علينا الدارسون المصريون في موسكو وضواحيها يطالبون السفير بأن يفسر لهم ما حدث. عدت إلى القاهرة منقولاً من موسكو في 4 آب 1967، وعلى رغم أنني كنت في موقعي في الاتحاد السوفياتي بذلتُ أعظم جهد في حياتي الديبلوماسية بأسرها ربما باستثناء فترة عملي سفيراً في الجزائر فصادفتُ من المسؤولين في الوزارة عند عودتي ما لا يمكن وصفه بغير التنكر وجحود الفضل، ربما بسبب صدور قرارين رئاسيين قبل مغادرتي موسكو. الأول خاص بوضع ممتلكات نحو سبعين من أفراد عائلة زوجتي تحت الحراسة باعتبارهم من الإقطاعيين، والثاني بتنحية أخي الأكبر محمد عن رئاسة مجلس إدارة شركة "إيديال" بتهمة عدائه الصريح للاشتراكية. وكان أن عُينت في إحدى الإدارات الخاملة في الوزارة. ثم كان أن وصل مراد غالب في زيارة قصيرة إلى القاهرة للتشاور مع عبد الناصر، فلما علم بأمر هذا التعيين طلب مني ألا أتسلم العمل ريثما يقابل المسؤولين لإقناعهم بإلحاقي إما بمكتب وزير الخارجية، أو بإدارة مهمة كإدارة الأبحاث. وكان أن وعده مدير إدارة شؤون السلك الديبلوماسي خيراً، طالباً منه ألا يقلق بشأني، فلما سافر مراد غالب عائداً إلى موسكو كرر مدير شؤون السلك أمره لي بالالتحاق بالإدارة الخاملة. وكما كنت مخطئاً في اعتقادي أنه كان على علاقة طيبة بعزيز المصري، كذلك كنت مخطئاً في ظني أنه كان صديقاً لأنور السادات، وذلك في ضوء ما شهدته من تبادلهما المجاملات والحديث الودي أثناء زيارة السادات لموسكو وهو رئيس لمجلس الأمة. وقد ترسخ عندي هذا الظن الخاطئ حينما عينه السادات بعد توليه رئاسة الجمهورية وزيراً للخارجية. غير أن الواضح الآن أن غرض السادات من ذلك كان إبعاده عن موقعه في موسكو وسط اصدقائه الروس، ريثما يفرغ من ترتيب أوراقه ويجري تغييراً جذرياً في علاقات مصر مع كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ثم يبعد مراد غالب بعد ذلك عن منصبه الوزاري. وقد وصف لي مراد غالب الأشهر القصيرة التي قضاها وزيراً للخارجية بأنها كانت أتعس فترة في حياته. وأحفلها بالمؤامرات التي حيكت ضده من موظفين في مكتبه فرضتهم رئاسة الجمهورية عليه فرضاً. وقص عليّ كيف أن أحدهم أعدّ له خطاباً يلقيه في حفلة عشاء تكريماً لأحد القادة السوفيات الزائرين لمصر، ولم يكن لدى مراد غالب وقتاً لمراجعة الخطاب قبل بدء الحفلة، فإذا هو يجده أثناء تلاوته مملوءاً بالإشارات العدائية المقنعة إلى الموقف السوفياتي من مصر إبان حرب 1967، ومن إعادة تسليح الجيش المصري في السنوات التالية لها. كما قص عليّ كيف أنه كان يجد أدراج مكتبه في الوزارة وقد فُتحت في غيابه عنوة للاطلاع على ما فيها من أوراق، وكيف أن السادات فاجأه مرة بالوصول إلى اجتماع لمجلس الوزراء ليعلن على المجلس نبأ قطعه علاقات مصر الديبلوماسية مع الأردن، من دون أن يكلف نفسه استشارة وزير خارجيته قبل اتخاذ القرار، أو حتى إعلامه هاتفياً به قبل الاجتماع، من قبيل الحرص على أن يحفظ مراد غالب ماء وجهه أمام زملائه في المجلس. خلاصة الأمر أن السادات سرعان ما أخرجه من الوزارة، وبعث به سفيراً في يوغوسلافيا، فأصبح هناك من اصدقاء تيتو الحميمين، وعندما قدم السادات بعد ذلك لزيارة بلغراد، دخل مراد غالب المستشفى قبل وصول الرئيس بساعات قليلة "لاستئصال الزائدة الدودية"، فلم يستقبل السادات في مطار بلغراد، ولا التقاه أثناء الزيارة، ما دفع البعض إلى الحديث عن "وعكة صحية ديبلوماسية"! في حين أقسم لي مراد غالب في ما بعد أن حاجته كانت ماسة إلى إجراء الجراحة. وفي أعقاب إبرام السادات اتفاق كامب ديفيد الذي أغضب مراد غالب، استشار غالب تيتو في أمر تقديم استقالته من منصبه ومن العمل الديبلوماسي كله، فأقرّه تيتو على ذلك. وعاد مراد غالب بعد الاستقالة إلى مصر، ولم يحذ حذو السفير الفريق سعد الشاذلي الذي استقال هو أيضاً للسبب نفسه، ولكنه بقي في الخارج يكتب ويخطب ضد السادات ونظامه. فكان أن عُين مراد غالب رئيساً لمكتب منظمة التضامن الافريقي - الآسيوي في القاهرة، وظل حرًا في تنقلاته وأسفاره لا يمسه النظام بأذى، تُجري الصحف والمجلات معه الأحاديث، ويشترك في الندوات والمؤتمرات في الداخل والخارج، ويتحدث إلى الناس في الإذاعة والتلفزيون، ويُسمح له ولزوجته بقضاء شهور الصيف عند ابنتيهما المتزوجتين المقيمتين في كندا. ظلت صداقتنا قائمة على مدى ستة وثلاثين عاماً تلت عودتي من موسكو. وكثيراً ما كنت أقول له حين أقابله قولة الناس لعمر بن الخطاب "أتعبت مَن بَعدك"! * كاتب مصري.