في رحلتي الأخيرة إلى كولومبيا بحثاً عن جذور كتابة "مئة عام من العزلة"، وعن ماكوندو، اكتشفت أن ماكوندو مهما بدت "واقعية" للبعض، إلا أنها تشكل مساحة صغيرة من القارة كولومبيا وحسب، إذا سمحت لنفسي وأطلقت على هذه البلاد "القارة"، لأن كولومبيا هي بلاد التناقضات الكبيرة. هذا يظهر في 74 قصة قصيرة صدرت حديثاً في مجموعة واحدة، لكتاب من كولومبيا بعضهم شاب وبعضهم يكتب من قبل ماركيز. صحيح أن كولومبيا تعتبر من أقدم الديموقراطيات بين بلدان أميركا اللاتينية، إلا أنها أيضاً أكبر مراكز العنف ليس في أميركا اللاتينية فقط، إنما في العالم أيضاً. ومن الصعب لمن لا يعرف كولومبيا أو لم يزرها معرفة سر هذا التناقض: الديموقراطية بمواجهة العنف. فاليوم أغلب الأخبار التي تأتينا من هذه البلاد مصادفة، تعلن أن السلطة هناك، مقسمة بين القوات الحكومية، ومافيات المخدرات والحركات "الثورية" المسلحة، والفرق شبه العسكرية، وأن أكثر من ثلاثة آلاف كولومبي يسقط ضحية للحروب المعلنة وغير المعلنة على طول البلاد وعرضها بين أفراد هذه المجموعات. ولكن كيف هي الحال في دولة بهذه الشاكلة، والتي من المحتمل جداً تعرض أي شخص فيها وفي أية لحظة لعمليات الاختطاف، أكثر من احتمال بقائه بعيداً من كل عنف محتمل؟ الإحصاءات تختلف من عام إلى آخر، لكنها تتفق في نقطة واحدة، وهي أن نصف حوادث الاختطاف في العالم تقع في كولومبيا، وقد تحولت هناك إلى فرع مهم من فروع الاقتصاد. فمثلاً منظمات الكفاح المسلح، التي تحولت في آخر القرن الماضي من حركات ثورية اجتماعية إلى مؤسسات تجارية، والتي يخضع جزء لا بأس به من البلاد لسيطرتها، تشتغل في شكل منظم، وهي بعد أن عقدت صفقات مربحة واتفاقات ناجحة مع بارونات عصابات المخدرات، تكلف المجرمين المعروفين في المدن بالمهمات التي عليهم القيام بها، والتي تدور على الشكل الآتي: المجرم العادي يختطف إحدى الضحايا ويُباع للحركة المسلحة، التي ستطالب بعد ذلك بدفع فدية عالية لتحريره، وتعتبر ذلك "ضرائب ثورية" تسد دخل الثورة التي تقودها. الفدية تتراوح قيمتها بحسب أهمية الضحية المختطفة. العنف طبع بصماته على كولومبيا منذ قرون انظر "مئة عام من العزلة" لماركيز. وبين عامي 1899 و1902 اندلعت الحرب الأهلية التي أطلق عليها "حرب الأيام الألف"، والتي راح ضحيتها ما يقارب من مئة ألف شخص" أما في العام 1946 فقد شهدت كولومبيا أعنف موجة للعنف والسلب في تاريخها الحديث. فبعد التغيير الحكومي التقليدي الذي أعقب الانتخابات في ذلك العالم، تعرض أنصار الحزب الليبرالي للنهب من أنصار الحزب المحافظ، وطردوا من بيوتهم، وقد أطلق الكولومبيون على المرحلة تلك "عهد العنف" La era de violencia، والتي سقط ضحيتها 300 ألف شخص. أنها إحدى المفارقات الخاصة بكولومبيا أيضاً، أن طوال سنوات العنف هذه، كانت كولومبيا في الوقت نفسه دولة تُنظم فيها في شكل دوري الانتخابات البرلمانية، والانتخابات البلدية، إضافة إلى عقد مهرجانات الشعر السنوية والفصلية التي اشتهرت بها كولومبيا، أكثر من أي دولة أخرى في أميركا اللاتينية، والتي تمولها الدولة وتشجعها مثل تشجيعها لألعاب كرة القدم، ومن ينسى أن فريق كولومبيا لكرة القدم وصل لأكثر من مرة الى تصفيات دورة كأس العالم" باختصار بالتوازي مع العنف المزمن، كانت كولومبيا تعيش أياماً عادية. كيف يعيش الناس في كولومبيا، ماذا يفعل الناس، إن لم ينشغلوا بارتكاب العنف أو إن لم ينشغلوا بحماية أنفسهم؟ فمن لا يستطيع زيارة بلد ما، سيتعرف عليه بالتأكيد عبر أدبه. واقعية سحرية من يقرأ الأدب الكولومبي يكتشف، أن العنف يتغلغل أيضاً في تلافيف الحياة اليومية للناس في كولومبيا" لكن من جهة أخرى، يكشف الأدب أيضاً، أن حياة الفرد لا تُستنفد فقط في رد الفعل على شدة العنف الحاضر بقوة، لكن المشكلة التي تطرح نفسها، ليس بالنسبة الينا، نحن الذين نقرأ باللغة العربية، إنما بالنسبة الى مجمل القراء في العالم، من يعرف هذا الأدب؟ فعند الحديث عن كولومبيا والأدب الكولومبي ستقفز بالتأكيد "الواقعية السحرية"، واسم غابرييل غارسيا ماركيز، إذ ليس هناك بين زملائه بالكتابة والمواطنة من نجح مثله بتسويق نفسه عالمياً على أي حال تلك مشكلة تناول أدب بلدان عدة!. انها مفارقة كولومبيا عبر ماركيز أيضاً، لأن روايات ماركيز بالذات يمكن أن تتحدث عن كل شيء، باستثناء كولومبيا! ربما كان ذلك هو الدافع الذي جعل دار نشر "أديسيون أوجو"، تنشر انطولوجيا أشبه بالموسوعة القصصية تحوي 74 قصة قصيرة لأربعة وسبعين كاتباً كولومبياً يمثلون أجيالاً مختلفة، معظمهم غير معروف عالمياً، مثلهم مثل بلادهم. على أي حال، الكتاب يقدم 74 قصة قصيرة، لكي يثبت أن الأدب الكولومبي يملك ما يستحق التقديم، أكثر من ربطه كله بكاتب واحد فقط، الذي يكشف أدبه حجم الرعب الذي يستحوذ على البلاد. وذلك ما يبينه لنا أول الأقسام الأربعة، التي قُسم على أساسها الكتاب، القسم الذي ضم قصصاً قصيرة لزملاء ورفاق درب قدماء، وربما بعضهم نافس صاحب "مئة عام من العزلة"، طوروا استراتيجيات روائية وقصصية خاصة بهم، لا تقل قيمة عما كتبه زميلهم ماركيز. أحد الاكتشافات مثلاً هو الروائي غير المعروف، حتى بالنسبة الى القراء الأسبان هيكتور روخاس هيرازو، على رغم أنه في بلاده، كولومبيا، يُعتبر أهم كاتب في القرن العشرين. وفي الكتاب نقرأ له قصة تدور حول حادثة غريبة في حرب "الألف يوم"، والتي تناولها غارسيا ماركيز أيضاً، على رغم أن هناك اختلافات واضحة في تناول المادة التاريخية" غارسيا ماركيز من طريق تناول الواقعة بطريقة الواقعية السحرية يُغرب المادة ويُفرغها من رعبها، انها تقترب من الفولكلور أحياناً، على عكس روخاس هيرازو، الذي تشير طريقته بالكتابة، الى أنه كاتب صعب، قاص لا تُسبر خيوط حبكته القصصية بسهولة. الاكتشاف الثاني، هو العثور على بعض المقاربات لأدب غارسيا ماركيز والتي تسمح بالتعرف على نفسها أكثر من مرة في المجموعة وبسهولة. مثلاً في القصة الرائعة: "تحول سيادته"، التي إذا جردناها من مؤلفها، لاعتقدنا، أن كاتبها يقلد ماركيز ويسير على خطى "خريف البطريرك"، ولكن عندما نقرأ بيبليوغرافيا كاتبها، الروائي "خورخه سالاميا"، نكتشف، أنه مات، قبل أن يبدأ غارسيا ماركيز اصلاً بكتابة أعماله الأولى. "بطريرك" سالاميا يعزل نفسه هو الآخر في قصره، ويشعر بالغثيان من اقتراب الآخرين منه. حتى وزراؤه وخدمه وأنصاره، لا يستطيعون الحديث معه. لا أحد يعرف عنه شيئاً، لأن "فخامته أعلن ومن دون مقدمات عن بروتوكول جديد، في قمته تحول الابتعاد عنه إلى فضيلة والاقتراب منه يُفسر بمثابة تعبير عن نقص بالاحترام". يحتوي الكتاب أيضاً على فصل يمنح نظرة شاملة لطبيعة الأدب القصصي الحديث الذي يكتبه الكتّاب الشبان، والذي لا يتناسب في كل الأحوال وبأجمعه مع ماركة أو أتيكيت "الواقعية السحرية". ويبدو أن هناك توجهاً واعياً عاماً برفض هذا الاتجاه. ومعظم القصص القصيرة المنشورة في هذا القسم، هي قصص نموذجية، تنتمي إلى اتجاه يطلق عليه نقاد الأدب في أميركا اللاتينية Testimonio الشهادة فضلت ترجمة عدد من هذه القصص فقط: وهذا النوع يتضمن يوميات وشهادات حياتية يراد من طريقها منح صوت لأولئك الذين لا يملكون صوتاً. في الأدب الأوروبي هناك القليل من هذا النوع الأدبي الذي يمكن مقارنته به، ربما تسمح لنا الأقاصيص القصيرة جداً التي كتبها فرانتز كافكا بمقارنتها بهذا النمط من القصة، أو ربما هو قريب من الأدب الوثائقي البولندي، الذي يشتهر في أوروبا.