كتاب جورج شامي "ماذا بقي من القتال؟" هل هو قصة كما أشير على الغلاف أم أنّه رواية قصيرة؟ هذا السؤال لا بدّ من طرحه بدءاً ولو أن المادة القصصية أو الروائية التي يقدّمها الكتاب يمكن أن تقرأ على المستويين: قصصياً وروائياً. فالكتاب الذي يناهز المئة والخمسين صفحة يتضمن الكثير من التقنيات السردية التقطيع، الفلاش باك، الحوار، الوصف، التداعي...، ما يتيح وصفه ب"القصة الطويلة" أو "الرواية القصيرة". وقد ينتهي هذا الوصف الملتبس الى نزع الصفتين القصصية والروائية عن الكتاب ليصبح من ثم نصّاً سردياً هجيناً هو قصة ورواية وهو لا قصة ولا رواية في الحين نفسه. إلا أن الكتاب قادر جداً على الدفاع عن "نوعه" الهجين انطلاقاً من كونه نصاً سردياً فريداً ذا هاجس قصصي واضح وذا همّ روائي واضح. ليس النصّ إذاً قصة بحسب ما تُعرّف به القصة، فهو يبلغ مئة وخمسين صفحة ويتخطى ثانياً معايير القصة نفسها. وصف وليم فولكنر القصة مرّة في احدى رسائله قائلاً: "القصة هي تبلور للحظة اختيرت اعتباطاً حيث الشخصية في تنازع مع شخصية أخرى أو مع بيئتها أو مع نفسها". يُفهم من هذا القول تشديد فولكنر الروائي الأميركي الكبير على مفهوم اللحظة المتبلورة أو المتبلّرة في القصة وعلى البعد الاعتباطي لاختيار تلك اللحظة، ما يجعل زمن القصة زمناً مختصراً ومقروناً بما يشبه المصادفة. ورأى بعض النقاد ومنهم الناقد الفرنسي الكبير ايتامبل مثلاً أنّ مفهوم القصة يظل غامضاً وغير واضح، لكنه يفترض الاختصار والتوتر الدرامي والحدث اللامتوقع والشخصيات القليلة... ويمكن القصّة أن تطول حتى تبلغ ثلاثين صفحة فتصبح حينذاك "رواية قصيرة جداً". أما القصة في نظر أندريه جيد فهي "مكتوبة لتقرأ دفعة واحدة ومرة واحدة". ليس المقصود هنا البحث عن معايير القصة القصيرة ولا عن شروطها وتقنياتها، لكن قصة جورج شامي الطويلة جداً تتطلّب من قارئها العودة الى مفهوم القصة للوقوف على قضيتها الاشكالية. وانطلاقاً من المقاييس الراسخة للقصة القصيرة يستحيل على قصة "ماذا بقي من القتال؟" دار رياض الريس، بيروت 2003 أن تكون قصة. إنها أكثر من قصة، مثلما هي أقل من رواية، إن قرئت على ضوء المقاييس التي تشترطها الكتابة الروائية. انها كتابة ال"بين بين" كما تفيد العبارة الشهيرة، وربما هنا تكمن فرادتها الفنية وخصوصيتها البنائية. عرف القراء جورج شامي قاصّاً منذ العام 1956 عندما أصدر باكورته القصصية "النمل الأسود" وقد تميزت بجوها السوداوي الذي لم تكن ألفته القصة اللبنانية القصيرة المتحدّرة من مناخ الأدب القروي والريفي عبر أقلام الرعيل الأول والثاني، ومن روادهما: مارون عبّود وخليل تقيّ الدين وتوفيق يوسف عوّاد وفؤاد كنعان وسواهم. أصرّ جورج شامي على "معاقرة" الفنّ القصصي على رغم نَفَسه السرديّ الطويل الذي تجلّى في مجموعاته التي صدرت خلال الحرب اللبنانية. وبدا وفياً لهذا الفنّ، متعلّقاً به وغير مبالٍ ب"عزلة" هذا الفن أو "هامشيته" التي ساهمت الرواية في صنعها عربياً وعالمياً. ولم يحاول الخروج الى أفق الرواية على غرار ما فعل معظم روّاد القصة اللبنانية لاحقاً مع أنه كان مؤهلاً لمثل هذا الخروج. وإن كان جورج شامي قاصّاً فهو شارك في مجلة "شعر" في ستينات القرن المنصرم ولكن ناقداً متابعاً بعض الإصدارات الشعريّة. إلا أن الصحافة السياسية سرقته فترة غير قصيرة من عالم القصة، ليعود من ثمّ وكأنّ القطيعة ما كانت يوماً. فالنزق الذي كثيراً ما تميّز به أدبه القصصي ظل يلازمه كاللعنة التي ترافق الشعراء عادة نافخاً في قصصه روحاً من القلق والشغف والحماسة، ومانحاً لغته عصباً لا يلين. كتب جورج شامي قصته الطويلة "ماذا بقي من القتال؟" خلال فترة زمنية تقارب عشرين سنة. فهو بدأها في 1982 في بيروت ثم أكملها في لندن 1999 وأنهاها في باريس 2002. لكن قارئ القصة لا ينتبه الى حال التبعثر الزمني هذا وإن بدت القصة تدور في المناخ الذي دارت مجموعتان بارزتان للكاتب نفسه صدرتا إبان الحرب وهما: "أبعاد بلا وطن" 1977 و"وطن بلا جاذبية" 1979. بدا جورج شامي منذ نشوب الحرب اللبنانية كأنّه يكتب قصة الحرب الأهلية ولكن من وجهة "يمينية"، إن جاز التعبير. وكانت قصصه الغائصة في وحول الحرب تمثل أبرز تجلّيات أدب الحرب "الشرقي" إذا جاز التعبير أيضاً الذي يُكتب في بيروتالشرقية في مواجهة أدب حرب آخر، يساري وطليعي كان يكتبه في بيروت الغربية كتّاب وشعراء لبنانيون وفلسطينيون وعراقيون... علاوة على بعض الأدب الذي كان يصعب تصنيفه "مناطقياً" أو سياسياً وكان بدوره غرق في وحول الحرب نفسها يوسف حبشي الأشقر، فؤاد كنعان، غادة السمان وسواهم، إلا أنّ صدور أدب جورج شامي من المنطقة الشرقية لم يعن يوماً أنّه كان بوقاً للأحزاب اليمينية أو مبشراً بالأفكار الطائفية و"الانعزالية" كما قيل كثيراً. فقصصه كانت على قطيعة تامة مع الفكر اليميني المناضل على رغم انتمائها "الشرقي"، وعلى خلاف مع الرؤية الطائفية الى الصراع القائم. بل ان قصصه راحت تفضح عبثية هذه الحرب منذ بدايتها وتشكك في غاياتها وتدين صانعيها مميّزة بين الجزارين والضحايا ولكن انطلاقاً من أرض الواقع التي صدف أن كانت بيروتالشرقية. وبرز في قصصه للمرة الأولى "أبطال" ولو سلبيون ينتمون الى الأحزاب اليمينية المعروفة، وهؤلاء الأبطال لم تعهدهم القصة اللبنانية التي راجت خلال الحرب وخصوصاً في بيروت الغربية. و"أبطال" القصص الطليعية كانوا غالباً ينتمون إمّا الى اليسار وإما الى المقاومة الفلسطينية تبعاً لصعود نموذج البطل - المناضل أولاً وللهيمنة اليسارية على الأدب أو الثقافة عموماً. يفتتح جورج شامي قصته عبر صوت بطله "بلعام" الذي ستدور القصة على لسانه أنا الراوي مع بعض التدخلات: سعيد عندما يروي بعض مشاهد الحرب، وكذلك الكاتب نفسه عندما يصف نهاية بلعام وسواها... ولحظة الافتتاح هي من اللحظات الأخيرة التي يعيشها بلعام مدمّراً، مصاباً بمرض "النهايات الزرقاء" الذي جعل لونه شاحباً وترك البرودة الدائمة في يديه ورجليه. ويستهلّ بلعام لحظة استعادته الماضي مخاطباً إحدى عشيقاته: "حذاؤكِ في فمي يا رجوى...". لكنه سرعان ما يسترجع حكاية حبّه للفتاة ليا التي أصبحت زوجته وكذلك ذكريات الكاتدرائية، وهو كان جاء اليها اتفاقاً مع بعض رفاق الأمس في الحرب ليحيوا قداساً يكفّرون فيه عن آثامهم وعن ماضيهم المفعم بالذنوب والقتل والعنف. جاؤوا... وربما لم يجيئوا لأن القصة قد تكون ضرباً من التخييل أو التوهّم الذي يحياه بلعام إذ يقول لاحقاً: "لم أدعُ أي كاهن... لإقامة الصلاة". جاؤوا يكفّرون عن ماضيهم بعدما شملهم قانون العفو و"طهّرهم" كما يعبّر بلعام الذي ما برحت "دخائله تنتفض كدجاجة مذبوحة" وما زال "الشك" يلاحقه كسوط "والرعدة تأخذ مفاصله". بداية فانتازية إذاً تتمثل في لقطة مفتوحة على الماضي والحاضر معاً: حاضر مدمّر يتجلّى عبر "الإعاقة" النفسية والجسدية التي يعيشها بلعام وقد أدرك أنه أصبح "عبئاً" على الآخرين وعلى الحياة نفسها، وماضٍ يتوزّع الى أكثر من ماضٍ: الماضي القريب ماضي الحرب، الماضي البعيد أو الماضي الشخصي ذكريات الحب، ذكريات الكاتدرائية، الأب، العائلة.... وإذ جاء بلعام الى الكاتدرائية وهي كاتدرائية القديس جاورجيوس الحقيقية والمتاخمة لساحة البرج ليقيم قداساً تكفيرياً مع رفاقه، يهطل عليه سيل الذكريات فيستعرض "سيرة" لئلا أقول تاريخ هذه الكاتدرائية استعراضاً واقعياً وفانتازياً في الحين عينه، بل هو الواقع نفسه يبدو كأنّه مشهد فانتازي متواصل. وإن لم يتمّ القداس التكفيري المزعوم، فإنّ روائح البخور والعظات والصور تهبّ من ذاكرة بلعام نفسه: "خميس الغسل" الذي أدّى فيه دور التلميذ الذي يغسل له رئيس الأساقفة قدميه، القداس الاحتفالي الذي يحضره رؤساء الدولة ويقرأ فيه أمامهم رسالة القديس بولس... ولعلّ استرجاعه مشهد "الغسل" وما تأتّى عنه من عواقب في العائلة اضطرت ان تشتري حذاء جديداً للفتى وقميصاً جديدة هو من المشاهد الطريفة والساخرة جداً والجميلة. وكذلك مشهد الكاتدرائية ما قبل الحرب وخلالها الذي يستعيده بلعام عبر الجمال الهندسي للكاتدرائية الشهيرة في لبنان ويقابله بالخراب الذي آلت اليه تحت القذائف والرصاص. ولعلّها المرة الأولى ينتبه فيها قاص أو روائي الى هذه الكاتدرائية التي يلتقي حولها شطرا المدينة والتي تمثل احدى "ذاكرات" بيروت ولو دينياً. يقول الكاتب على لسان بلعام: "وكنت كلما نظرت الى فوق بهرتني أشعة الشمس المتسلّلة من الزجاج المعشق بأنواره المتعددة...". ويضيف: "كانت أنظاري دائماً مشدودة الى فوق، السقف يحمل رسوماً سماوية اللون لملائكة وعذارى...". ويقول أيضاً: "في رحاب هذه الكاتدرائية التي تطلّعت فيها أول مرة الى فوق فسرحت نظراتي في فضاء عالٍ مشعّ بالبهاء والجمال ... مع ملائكة الساروفيم والقاروبيم الذين كنت أسمع عنهم ولا أراهم". أما الكاتدرائية خلال الحرب وبعدها أي قبل ترميمها فأضحت بلا سقف أو ب"سقف مفتوح على السماء" وإذا "حوقات الطيور تملأ سماءها بالتراتيل"... ربما لم يرمِ جورج شامي الى كتابة ناحية ما من التاريخ الاجتماعي الذي تمثله "سيرة" الكاتدرائية لكنّه استطاع فعلاً خلال صفحات من قصته أن يدوّن جزءاً من تاريخ الكاتدرائية وعاداتها أو تقاليدها التي كانت تحييها الجماعة المارونية في بيروت. واللافت ان الكاتب عبر بطله بلعام لن ينحاز طائفياً ولن يلقي الأمثولات والعبر حتى وإن بدا كأنه يستعيد من خلال تاريخ الكاتدرائية زمناً طفولياً فردوسياً. فهو مشكّك وقانط وسيلوم المخلّص المسيحي الذي "سبّب للبشرية عذابات ومآسي لا تحصى...". أما اختيار الكاتب اسم بلعام لبطله فيدلّ على هرطقته الدينية، فبلعام الذي يرد ذكره في "العهد القديم" هو شخص متمرّد ومحرّض على التمرد وطامع بالمال وضالّ... وبدا الاسم مواتياً جداً ل"البطل" الذي زُجّ في "حرب السنتين" أو "حرب الفنادق" وخرج منها مدمّراً ويائساً... يعتمد جورج شامي في قصته لعبة "التوازي" بين أزمنة عدة وأمكنة عدة ومواقف و"ذاكرات". فهو إذ يكتب قصّة بلعام الذي يخوض ورفاقه اليمينيين أو المسيحيين معارك "الفنادق" و"القنطاري" و"المقاطعة الرابعة" يكتب قصة "الكاتدرائية" كمكان وزمن وجماعة، كواقع وماض. وتمكن حقاً من الدمج بين "التواريخ" المتعددة والأمكنة والشخصيات... في نسيج سردي مشرع على "التوثيق" والتخييل، على الواقع والحلم والكابوس. ولئن بدأت القصة بداية شبه تخييلية أو فانتازية فهي لا تلبث أن تنتقل الى جوّ واقعي وكابوسيّ من شدة واقعيته، وهو جوّ المعارك التي يمعن الكاتب عبر عين بلعام وبعض رفاقه المقاتلين، في وصفها وصفاً دقيقاً و"وقائعياً". وبدا ملمّاً بالتفاصيل الكبيرة والصغيرة التي أحاطت بحرب الفنادق وجوارها، جغرافياً وعسكرياً وتاريخياً. نقل مشاهد الاقتحام والتراجع والقتال بدقة ورسم صورة واقعية عن معارك قصيرة نسبياً كانت نتائجها حاسمة في رسم خريطة بيروت العسكرية، والتي دامت سنوات طويلة. وظلت تلك "الحرب"، "حرب الفنادق" أو "حرب السنتين" غامضة، وهذا ما يعبّر عنه أحد المقاتلين: "نسمع كثيراً عن حرب السنتين ولكننا لا نعرف حقيقة ما جرى ولماذا اندحر". مثلت "حرب السنتين" الملامح الأولى للحرب الأهلية ورسمت المعالم الأولى لجغرافية هذه الحرب وفيها تمّ اختبار مفهوم الصراع والقتال وصنع المقاتلين: "كنا أوّل المقاتلين... هواة كنّا فتحوّلنا الى محترفين بعد هذه المدّة الطويلة". ركّز جورج شامي كثيراً على النتائج السلبية التي نجمت عن "حرب السنتين"، وعلى أحوال اليأس والقنوط التي حلّت بالمقاتلين اليمينيين. وهي نتائج وأحوال حقيقية ومعروفة، إذ كانت نهاية "حرب السنتين" فرصة لإعادة بناء الترسانة العسكرية الجديدة وترسيخ الواقع الانقسامي "الأهلي" الجديد في بيروتالشرقيةوبيروت الغربية على السواء. وشاء جورج شامي أن يجعل المقاتلين أنفسهم شهوداً على عبثية حربهم وعدميّتها، وعلى الخراب الذي جلبته لهم "ولأعدائهم". لكنّ الحوارات الكثيرة التي جرت بين المقاتلين وعبّروا فيها عن يأسهم وخيباتهم وانتقدوا عبرها فكرة لبنان - المزرعة والنظام اللبناني والطائفية والزعامة والسلطة وسواها، أثقلت بنية القصّة وبدت كأنها مفروضة عليها من خارج سياقها السرديّ. وربما حاول الكاتب من خلال هذه الحوارات أن يطيل القصة ليجعلها قريبة من الرواية ولكن من غير أن تكون صنيعاً روائياً. ولا شك في أنّ بعض حوارات المقاتلين اليمينيين الذين بدوا يساريين في خطابهم السياسي الجريء، كادت تكون مجرد شعارات سياسية لا طائل لها: لكنهم المقاتلون الذين سيقوا الى "النضال الخبيث من طريق التضليل والنفاق" ثم ما لبثوا أن استفاقوا وندموا بعدما حلّت الكارثة. انهم أقرب الى الشخصيات الارتكاسية التي كان في امكان الكاتب أن يطوّرها ليجعل منها شخصيات روائية حقيقية لو هو أراد أن يكتب رواية. أعاد جورج شامي القراء الى مرحلة هي من أشد مراحل الحرب اللبنانية غموضاً واهتزازاً، فاتحاً من جديد جرح "حرب السنتين" الذي يصعب أن يلتئم على رغم النهاية المزعومة للحرب، ومشككاً في حوافز تلك الحرب ونتائجها. وقصته الجديدة التي يمكن اعتبارها من عيون أدب الحرب لم تخل من الجرأة والنزق والسخرية في نزع الحجاب الأسود عن الحرب والأقنعة عن وجوه أبطالها الذين كانوا جزّارين وضحايا في آن واحد.