كان العام 1985 آخر عهدي بزيارة بغداد التي لم أزرها قبل ذلك سوى مرة واحدة في العام السابق، شجَّعتني على الاشتراك في المربد الذي عاود نشاطه بعد توقف بسبب الحرب العراقية - الإيرانية. ورغم أن الحرب لم تكن توقفت تماماً، ورغم حفاوة الاستقبال الرسمي الذي قوبلنا به، وحفاوة الترحيب من المثقفين العراقيين الذين قابلتهم للمرة الأولى في هذا العام، ومنهم العزيز محسن الموسوي، فضلا عن تجديد العهد بالذين تعرفت بهم أثناء إقامتهم في القاهرة، كان هناك شعور بعدم الراحة يتصاعد داخلي، وكان هذا الشعور يتأكد كل يوم بعلامات مادية ومعنوية: النظرات الملتبسة في عيون الأصدقاء العراقيين غير المحسوبين على حزب البعث، والتملّص من الإجابة عن العديد من الأسئلة، والصمت المطبق عند حضور أحد المحسوبين أو المقرَّبين من قيادات الحزب، عمليات الأمن التي فرضوها علينا وتحولت إلى عمليات تعذيب غير إنساني عندما فرضوا علينا الذهاب للاستماع إلى الزعيم الواحد الأحد. ولن أنسى نظرات الرعب الذي أصاب الجميع - بعثيين وغير بعثيين - عندما سأل الشاعر المصري أحمد عنتر مصطفى - على سبيل النكتة التي "تحكم" على ظرفاء المصريين أحياناً - ماذا يفعلون بكل هذه الصور التي لا نهاية لها لصدام حسين إذا حدث انقلاب. وكان العداء الجارح الذي ارتسم في الأعين البعثية، ونظرات الخوف في الأعين غير البعثية، كافِيَيْن لأن يتوقف أحمد عنتر مصطفى عن ممارسة "خفّة ظله" بقية أيام المؤتمر. وقد أدركت عمق الخوف الذي يسكن العيون غير البعثية، عندما ذهبت إلى زيارة صديق عزيز، جمعتني به صداقة عائلية عميقة أثناء سنوات دراسية للدكتوراه في القاهرة، تحت إشراف أستاذتي سهير القلماوي، في النصف الأول من السبعينات، واحتفلنا معه وزوجه بولادة طفلهما الأول الذي أحببناه كأحد أطفالنا. وقد أوصتني زوجتي قبل سفري إلى المربد بتقبيل "ابننا." عندما أذهب لزيارة منزل صديقي الذي عاد مع عائلته الصغيرة إلى بغداد بعد أن حصل على درجة الدكتوراه. وكان هذا الصديق العزيز أول من سألت عنه حين استقر بنا المقام في بغداد، ولم ألقه إلا خارج الندوات التي كان مغيَّباً عنها، واصطحبني إلى منزله للغداء وتقبيل "ابننا" والسلام على أمه. ولاحظت أنه لم يعد إلى طبيعته التي عرفته عليها إلا بعد أن أغلق علينا غرفة الاستقبال في منزله، وانطلق يشكو همومه وأحزانه ومخاوفه، موضِّحاً أسباب القمع الذي انسرب حتى في الهواء. ولاحظت أنه قطع استرساله فجأة، وأشار إليّ بعدم الكلام، عندما دخل باستكانات الشاي "ابننا" العزيز الذي كان في الثانية عشرة من عمره، إن لم تخن الذاكرة. وقبَّلتُ الغلام الذي لا نزال نعدّه ابناً لنا. وبعد القبلات المعتادة والأحضان، خرج الابن، تاركاً الغرفة التي لم ينس إغلاق بابها. ودفعني الفضول إلى سؤال الأب عن سر هذا التوقف المفاجئ عن الكلام، وعن إشارته إليّ بالصمت، فأخبرني أنه يفعل ذلك خوفاً على العائلة، وخوفاً على الطفل نفسه، فقد كان الصغار في سنّه محكوماً عليهم في المدارس البعثية بكتابة تقارير عن ما يسمعونه، أو يرونه، في كل مكان، بما في ذلك بيوت الأهل، وأن أحد الصغار الأبرياء كتب في تقريره عن جمل غاضبة انفجر بها الأب، اعتراضاً على القمع الذي أحاط بالجميع، فكانت النتيجة غياب الأب إلى الأبد. وكانت هذه القصة كافية لأن أحزم أمري، وأقرّر بحسم عدم العودة نهائياً إلى بغداد ما ظل فيها نظام صدام وزبانيته. ومرت الأعوام، وكل عام تتزايد أعداد الفارّين إلى المنافي، وتتزايد الحكايات المرعبة التي حملها المثقفون العراقيون إلى منافيهم، الحكايات التي دفعت الكثرة الغالبة من أدباء المنافي إلى تجنّب الكتابة عن صدام حسين ونظامه، خوفاً من أن تمتد الأيدي الباطشة إليهم بالعقاب المرعب أينما وجدوا. ولكن كان لا بد للمصدورين أن ينفثوا، وأن يقاوموا الرعب من صدام بالكتابة الرمزية عنه، مستغلين حيل بلاغة المقموعين في الإشارة إليه من دون التصريح باسمه، مستخدمين الأقنعة التمثيلية التي يظهر من وراء أسمائها المستعارة حضوره الوحشي في تجلياته العديدة. هكذا، تعددت تمثيلات صدام في الكتابة الإبداعية، ابتداء من فن الرواية التي لم تعرف التصريح إلا حين تأكد للجميع أن نظام صدام حسين اقترب من النهاية التي أصبح ينتظرها العالم كله. ولولا ذلك ما جرؤ واحد من كتَّاب المنافي على كتابة رواية "عالم صدام حسين" متخفياً وراء اسم مهدي حيدر، ونشرتها "دار الجمل" التي أسسها أحد الفارّين من نظام صدام حسين في كولونيا في ألمانيا، في أحد الأشهر الأولى من هذا العام. ولم يقتصر الأمر في التحوط على استخدام اسم مستعار للكاتب الذي غامر بعض قرّاء الرواية باستنتاج اسمه الأصلي، وإنما امتد إلى تنبيه القارئ، قبل الشروع في القراءة، إلى أن الرواية ليست نصاً تاريخياً، بل هي عمل من نسج الخيال، يستغل الواقع لبناء عالمٍ خيالي موازٍ للعالم الواقعي، يتطابق معه أحياناً ويختلف في أحيان أخرى، فتعطى شخصيات معروفة مصائر مختلفة عن الواقع التاريخي بحسب ما تقتضيه الحاجة الفنية. لكن الطبيعة التوثيقية للرواية تؤكد أنها ممسوسة بالوقائع الفعلية والأحداث الواقعية، سواء في حرصها على الاقتباسات التوثيقية العربية والأجنبية من أعمال أدباء ومؤرخين وصحافيين وسياسيين وشعراء. وكان صدور رواية "عالم صدام حسين" في ذروة تصاعد سياق التحالف الأميركي البريطاني لضرب العراق الذي سرعان ما تحقق. ولذلك تبدأ الرواية بما يشبه النذير من الهجوم الأول للتحالف الدولي على العراق، في فجر السادس عشر من كانون الثاني يناير 1991، حيث نرى صدام حسين نائماً ببذلة كاكية مثقلة بالنياشين، وبحذاء عسكري، مع مسدس في حزام جلد يزنر وسطه، وراء مكتب ضخم من خشب السنديان، في مقر محصَّن تحت مدرجات ملعب كرة قدم يبعد خمسة كيلو مترات عن المجمع الرئاسي الذي أقام فيه صدام اثنتي عشرة سنة محاطاً بحرسه الجمهوري منذ أن أعلن الرئيس أحمد حسن البكر في السادس عشر من تموز يوليو 1979 على التلفزيون، وأمام الأمة جمعاء، اعتزاله وتنحّيه عن كل مناصبه لأسباب صحية. وتستدير الرواية في الزمن لتستعيد حياة صدام حسين، منذ ذلك الزمن البعيد الذي سبق خروجه الثاني من بيت أمه في قرية شويش إلى بيت خاله خير الله طلفاح في تكريت. وتمضي الرواية كاشفة عن المؤثرات التي أسهمت في تكوين صدام، وما مرّ به من تجارب وخبرات، وما أسهم فيه من اغتيالات، إلى أن أصبح جاهزاً لتولّي رئاسة الجمهورية في العراق الذي اكتوى بعهده الذي أهدر حياة الملايين من أبناء الشعب العراقي. ولا تستمر رواية "عالم صدام حسين" مع وقائع حياة الطاغية حتى النهاية، وإنما تتوقف عند وصوله إلى سُدّة الرئاسة، وبداية انفراده بالسلطة المرعبة التي مارسها بوحشية تفوق إمكانات الخيال على التصور. ويبدو أن كاتب الرواية قرر أن يكتفي بالمرحلة الأولى من تتابع وقائع الطاغية، تاركاً المراحل اللاحقة لأعمال روائية مستقلة، فمن الواضح أن التفاصيل الدموية لتاريخ صدام لا يمكن وضعها في مجلد واحد، كما حدث في روايات الطغاة التي تضم أعمالاً عدة في أدب أميركا اللاتينية التي عانت طويلاً من الدكتاتوريات العسكرية والمدنية، وذلك على نحو يشبه ما لا نزال نعانيه في أوطاننا العربية السعيدة. ولذلك تميزت الكتابة الروائية عن الطغاة في هذا الأدب، وأثمرت روائع إبداعية اقتحمت عوالم الطغاة الداخلية وسعت إلى تجسيد عقلياتها وآلياتها السلوكية. وربما كانت رواية "خريف البطريرك" للكولومبي غارسيا ماركيز هي أشهر روايات الطغاة في أدب أميركا اللاتينية كلها، بل في الآداب العالمية. وظَنِّي أن شهرتها المدوّية قد ألقت بظلال النسيان على روايات أخرى مهمة، سبقت رواية ماركيز في الصدور، منها - على سبيل المثال لا الحصر - رواية الكاتب الأسباني باى إنكلان "بانديراس الطاغية" التي ترجمتها عن الإسبانية ثريا شلبي ونشرها المجلس الأعلى للثقافة المشروع القومى للترجمة في العام الماضي. وأحسب أن الرواية العربية أخذت تعرف طريقها إلى معالجة موضوع الطغاة، واقتناص تجلياتهم المختلفة التي تجمع بين ديكتاتورية العسكر والأحزاب المدنية أو الدينية التي تنطوي على عناصر متماثلة من البنية البطريركية والنزوع القمعي الرهيب. وما رواية "عالم صدام حسين" سوى أول الغيث الذي لا بد أن يتبعه ما يؤكد بعض خصوصية الرواية العربية في علاقتها بالعالم القمعي الذي تواجهه نتيجة تسلط الطغاة. ومن الدال في هذا المجال أن يكتب العراقيون أكثر من غيرهم عن تاريخ التعذيب والقمع الوحشي من طغاة الحكام عبر التاريخ العربي الإسلامي. ورواية "عالم صدام حسين" نفسها تشير إلى أنه في العام 1989 نشر عراقيّ مقيم في أوسلو النروج كتاباً عن عمله في الاستخبارات وعن وسائل التعذيب المتبعة في العراق بين 1968 و1988. والكتاب صدر بعنوان "حقوق الإنسان العراقي" باسم مستعار هو وليد الهيلي. ومن الواضح أن الذين اكتووا بعذاب الطغيان حاولوا تجسيده في التاريخ العربي في نوع من التقية الذي تعرفه الكتابة العربية، ربما أكثر من غيرها، خصوصاً في العراق الذي أنتج لنا أحد أبنائه أكبر وأشمل موسوعة نعرفها في الموضوع، أعني كتاب عبود الشالحي "موسوعة العذاب" في سبعة مجلدات موجعة لمن يقرأها. ويرجع ذلك إلى أنها مجلدات يغدو الماضي فيها مرايا للحاضر الذي يسبق في الوحشية، نتيجة التقنيات الحديثة للتعذيب والتنكيل بالضحايا. والواقع أن التمثيل الروائي الأول لطاغية مثل صدام حسين موجود، فيما أحسب، في رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" التي صدرت منتصف الثمانينات. وهي رواية تتحدث عن شيوعيين عراقيين، يعيشان حياة المنفى في الجزائر، بعيداً من فظاعة السجون العراقية وأدوات تعذيبها التي حطمت فيهما روح المقاومة، وأجبرتهما على التخلى نهائيا عن تاريخهما النضالي الشيوعي. ولا تصرّح الرواية التي تنطق وعي بطليها العراقيين باسم صدام حسين، ولكنها تخصص للإشارة الرمزية إليه فصلاً كاملاً بعنوان "ظهور اللوياثان". واللواياثان أو اللياثان Leviathan وحش أسطوري رهيب ينبثق من أعماق المحيطات، مجسدا الشر الخالص في الوجود، يشبه التنين، لكنه يتميز برؤوسه السبعة التي تمتد كالأفاعي فوق كتفيه لتنثر الخراب والدمار والشر الذي يقضى على الخير في الوجود. ويظهر هذا الوحش الرهيب في أساطير الشرق الأوسط، متكرراً على نحو دال في أساطير ما بين النهرين. ويستغل حيدر - من منظور وعي الشخصية العراقية التي يجسدها - الحضور البشع لظهور اللوياثان، جاعلاً منه تمثيلاً رمزياً لظهور صدام حسين، وصعوده الذي استهدف قوى الخير في الوجود. هكذا، نرى اللوياثان خارجاً من غبار الصحراء، زاحفاً نحو المدن، عابرا في أطوار من التحولات العضوية، تمنحه قدرة خاصة، ربما كانت خارقة ومع مرور الوقت، بعد أن يعتلي عرشه، ويتوطد ملكه بالقتل والنفي والتجويع، تصبح البلاد تحت سطوته وعيون بصَّاصيه، ينسى أصله الأول، ويصوغ له الرعب المتزايد في أعماق المحكومين أبشع الصور والقدرات. ومع بداية الثلث الأخير للقرن العشرين، والتحديد الزمنى له مغزاه لمن يريد حقيقة التمثيل، ستشهد بلاد العرب - فيما تقول الرواية - مهرجانات ومناسبات سعيدة واحتفالات غريبة، وسيلقى في روع الطاغية الصاعد كاللوياثان أحلام الجنون الوردية، فيتوهم أنه - وحده - وريث الفرسان القدامى الذين انتصروا في القادسية وحِطّين ودقوا أبواب بواتييه. آنذاك، سيرفع صوته فوق موج الجماهير الزاحفة نحو حلمها، صارخاً باقتراب فتوحات التوحيد للإمارات المجزأة، واعداً بإمبراطورية لا تغيب الشمس عنها، أعظم من الإمبراطورية القديمة التي سقطت على يدى هولاكو قبل ألف عام. ولا أريد أن أمضي في الاقتباس فالفصل الخاص باللوياثان له علاقته العضوية بالرواية، ولكنه بالغ الدلالة على مستويات كثيرة، منها بالقطع تمثيله لوجه من وجوه الطاغية الذي صار وحشاً بسبعة رؤوس.