خمسون محاولة انتحار ناجحة، كمعدل وسطي سنوي، تهز المجتمع اللبناني، بحسب الإحصاءات الرسمية. ويؤكد مختصون ان عدد ضحايا الإنتحار الناجح يفوق أكثر بمئة مرة، على أقل تقدير، عدد ضحايا ظواهر أخرى كتعاطي المخدرات مثلاً. والظاهرة تطال كل الاعمار والمستويات وتتنوع فيها الاسباب، ما يجعلها واحدة من المشكلات الكبرى في لبنان. ما هي الأسباب الفعلية للانتحار؟ ما هو مدى الظاهرة؟ كيف يعيش محيط المنتحر المشكلة؟... أجوبة في التحقيق الآتي: تبرع سامر س. 17 سنة بالدم في الجامعة الأميركية الى الفقراء كي يغفر الله له الخطيئة التي أقدم على ارتكابها، ثم توجه الى محلة الروشة في بيروت حيث ألقى بنفسه من المكان المعهود للإنتحار. "لم يكن بوسعي أن أتحمل أكثر، لم تعد تحملني الدنيا"، كتب في رسالته الوداعية مخاطباً اهله ومعارفه قبل أن يفارق الحياة إرادياً، طالباً السماح وموقعاً باسم "سامر الحزين" طالع الكادر. قصة سامر واحدة من قصص متعددة تتزايد في لبنان حيث تفيد الإحصاءات بأن عدد ضحايا الإنتحار الناجح بلغ في العام 2001، 49 قتيلاً، مقابل 63 شخصاً حاولوا الانتحار وامكن انقاذهم. وقد يحد من دقة هذه الإحصاءات تستر الاهل والأقارب على الموضوع. وفي مطلق الاحوال، فان الامر بات يشكل ظاهرة تستحق الاهتمام. "الإنتحار قرار ذاتي بتدمير الذات، بإنهاء الأنا، إستقالة واضحة من الحياة، رفض للإستمرارية في الوجود، إقتحام المجهول حيناً وحيناً آخر إنسحاب باتجاه وعد بعالم افضل"، يقول الإختصاصي في الأمراض العصبية والنفسية الدكتور أحمد عياش، موضحاً "ان الإنتحار مرحلة اخيرة من مشروع موت تحمله فكرة خاضعة لعوامل نفسية ذاتية تجد أسبابها في أعماق الذات أي في طيات التكوين النفسي، أو إنعكاس لمتغيرات خارجية لا تقوى الذات على تحملها أو التفاعل معها". أسباب واذا كان المنتحرون يتشاركون فعل الانتحار نفسه، فان الاسباب التي تؤدي بهم الى هذا الفعل تختلف باختلاف الاشخاص والحالات. ويكون قرار الانتحار احيانا من العمق بحيث لا يمكن فهمه، تماما كما هي الحال مع سامر الذي لا تتضمن رسالته الوداعية سبباً مباشراً وواضحاً للانتحار سوى ذلك الحزن وعدم القدرة على تحمل الحياة، وخصوصا ان مضمون الرسالة يؤكد انه كان لديه اصدقاء وحبيبة وأهل محبون. "الإستقالة من الحياة ترتبط بمزيج معقد من العوامل الخارجية والذاتية"، يوضح الدكتور عياش ويقول: "ان الإنتحار هو الرد المناسب على الأزمات المحيطة بالإنسان والتي تؤسس لزعزعة التوازن الداخلي للنفس مثل الإضطراب النفسي وبخاصة الفكري الذي يسمح بنشوء أفكار تحمل مشروع موت". ضمن هذ السياق يندرج اضطراب العلاقات العاطفية الذي يعتبر من اهم الاسباب المباشرة للانتحار. والقصص التي تؤكد ذلك كثيرة، منها قصة محمد ج. 22 سنة، الذي وجد متدلياً شنق نفسه من شجرة لوز خلف منزل حبيبته بحيث تكون هي أول من يراه من شرفتها. وتمتد الاسباب العاطفية احيانا الى عوامل عائلية - إجتماعية تحفّز قرار الانتحار، كما حصل لمحمد ب. الذي وجد، العام الماضي، مقتولاً بعدما فجر نفسه بقنبلة يدوية في منطقة قريبة من بيروت. وكان محمد ترك لزوجته، التي كانت اوقفت بجرم الدعارة وتعاطي المخدرات، رسالة ضمنها معاناته في الحياة. وبالطبع، يمكن ان تكون الأوضاع الإقتصادية سبباً للاستقالة من الحياة. عبد الله ش. 21 سنة، وضع حداً لحياته تاركاً وراءه رسالة طالع الكادر لا تترك مجالاً للشك في هذا المجال: "لا نستطيع بناء مستقبلنا ب 340 ألف ليرة" قرابة 225 دولاراً. ومن الاسباب ايضا، الامراض. روبير ن. 41 سنة، اقدم على قتل نفسه برصاصة أطلقها من مسدسه، خلال الاسابيع الماضية، بعدما إكتشف انه مصاب بسرطان الغدة. أضف الى ذلك آثار الإعتداءات الجنسية، الإبتزاز، حالات الإنتقام، الفشل الدراسي أو المهني والهرب من العدالة التي قد تدفع البعض الى الإنتحار، هذا فضلاً عن الإكتئاب، الوسواس القهري، الأمراض الذهانية الحادة، إنفصام الشخصية، إضطراب الشخصية الحدي، الهوية الجنسية والشذوذ الجنسي. الانتحار الفاشل ولحسن الحظ، فان محاولات الانتحار ليست كلها ناجحة. "في الإنتحار الناجح يكون الموت محققاً والتدمير الذاتي نهائياً، رغبة الموت هنا تتحقق عبر سلوك محكم التنفيذ. اما في الإنتحار الفاشل فرغبة الموت موجودة إلا أن السلوك الإنتحاري غير محكم التنفيذ لذلك لا ينتهي المحاول الى الموت، وغالباً ما يكون الهدف هنا ليس الموت بحد ذاته بل توجيه رسالة ابتزاز أو تهديد أو نداء إستغاثة للآخرين"، كما يقول عياش، مستشهداً بحالة ميساء، 19 سنة، "جميلة الوجه والقامة، من أبوين مطلقين منذ اكثر من 15 سنة. لطالما كانت جدتها، التي ربتها، ترجع محاولاتها الفاشلة والمتكررة في الإنتحار الى أنها تحكي أشياء غير حقيقة وان صديقتها أجرت لها تنويماً مغناطيسياً عند فتاة صينية". وميساء التي حاولت الإنتحار 4 مرات من دون ان تصل الى مرماها، تقول ان المرة الأولى كانت سنة 1997 حين تناولت علبة دواء مبررة ذلك بأنها كانت تحتاج الى أهلها ولم تجدهم بقربها فآثرت الموت على الحياة. أما المرة الثانية فحصلت قبل أشهر عدة حين تناولت علبتي دواء إثر شجار مع الشاب الذي احبته: "تشاجرت معه بعد ان قلت له انني مارست الجنس مع إبن الجيران علماً ان ذلك لم يكن صحيحاً، لا أعرف لماذا قلت له ذلك، لم أكن أعني ما أقول، ثم لأبرر ما قلته اخبرته انني تناولت المخدرات، ألآن وحين أتذكر لا أفهم ما قلته و لماذا". وتضيف ميساء: "المرة الثالثة كانت قبل أسابيع عندما تناولت أدوية لا أذكرماهيتها كانت تستعملها جدتي لمرض القلب وقد أقدمت على ذلك لأنه لم يف بوعده في الزواج بي، والمرة الرابعة تناولت مادة التنظيف "ديتول" لأنه رفض أن نكون مجرد صديقين". وكانت ميساء أخفت عن الجميع قصة زواجها الموقت من صاحب المحل 40 سنة الذي فقد بعد فترة رغبته فيها. ولم تجد ميساء ملجأً إلا الطبيب النفسي لترتاح من عذابها وإحساسها الدائم بأنها منبوذة من الجميع لا سيّما من والدها الذي هجرها بعدما طلّق والدتها التي بدورها تزوّجت وتركتها. الإنتحار الرديف وبين الإنتحار الناجح وذلك الفاشل، حالة ثالثة يسميها المتخصصون الإنتحار الرديف، ويتمثل اما في ان تكون لدى الشخص نية الموت الإرادي إلا أنه يكون غير قادر على التنفيذ، واما لا يكون عازماً على الموت ولكنه يعتمد سلوكاً إنتحارياً يؤدي به الى الموت. حالة هلا 17 سنة، تصنف ضمن الشكل الأول لأنها اختارت موتاً من نوع آخر جنبها الموت الفعلي. وهلا غادرت منزلها في آب اغسطس 1999 ولم تعد. وفي نيسان ابريل 2000، تعرف عليها شخص في احد احياء بيروت وكانت فاقدة للذاكرة. ولدى مراجعة الطبيب النفسي، تبين انها لا تعاني من أي اضطرابات. كانت فقط ذاكرتها القديمة مبتورة لتاريخ لا تعرفه بالتحديد. وأثناء العلاج تبين أن زوجها كان يضربها لعجزه جنسياً. "بغيابها ونسيانها منعت هلا انتحارها الحقيقي، فالذي يموت يغيب عن الناس بالطبع وكذلك الناس تغيب عنه أيضاً وهي باختفائها حققت هذا الهدف"، يشرح عياش. مسؤولية وتأثير أما وقد وقعت المصيبة، بغض النظر عن معرفة أسباب الإنتحار أم عدمها، يترك انتحار أحدهم وقعاً مؤكداً على أهله أولاً والمحيطين به ثانياً. ويمكن لهذا الوقع ان يغير في العلاقات داخل افراد العائلة، على غرار ما حصل لوالدي الشاب إيلي، الذي كان يعاني مشكلات نفسية وقضى بعد تناوله جرعة مفرطة من المهدئات. وتتهم الوالدة زوجها، وان بصورة غير مباشرة، بالمسؤولية عما حصل لابنهما: "كان قاسيا" معه، لم يعرف أبداً طريقة صالحة لتربيته، غيابه المتكرر عن المنزل أوجد مسافة بينه وبين إبني ولطاما كنت أحاول ترميم علاقته المضطربة بوالده". وتذهب الإختصاصية الإجتماعية، الدكتورة هدى رزق، الى حد التأكيد ان وقع الانتحار على محيط المنتحر يمكن ان يكون مدمراً، "فالطبيعة العنيفة والمفاجئة والمتعمدة لموت الشخص تشعر لآخرين بأنهم مرفوضون أو مهملون، ويبدأ التأثير على افراد العائلة والأصدقاء عند إكتشاف جثة المنتحر". ولكن رزق تربط مدى التأثير بعمر المنتحر اذ "كلما صغر سنه زاد التأثير وكذلك مسؤولية العائلة، فالبالغ ينتحر لاسباب خاصة به كالمرض أوالجنون أواليأس، اما الصغير فتقع مسؤولية انتحاره على محيطه الإجتماعي، بيئته العائلية، بيئته المدرسية وأصحابه". وتستشهد رزق بحالات بعض المراهقين الذين ينتحرون لأسباب عاطفية، "كأن ينتحر أحدهم بسبب عدم قدرته على الزواج من الفتاة التي يحبها"، مؤكدة أن "المسؤولية في هذه الحالة تقع على البيئة الاجتماعية التي لا تسمح بالزواج للمراهقين سواء كانوا فتيات ام شباناً. وبالطبع كلما زادت المسؤولية زاد التأثير. وعن احتمال وجود عامل جيني في الانتحار خصوصاً لدى حصول حالات متكررة داخل العائلة الواحدة، توضح رزق أن هذا العامل يدخل ضمن المسؤولية عن بعض الامراض التي تؤدي الى سلوك انتحاري وليس ضمن المسؤولية عن السلوك بعينه: "ثمة من قد يرث استعداداً جينياً لإضطرابات نفسية كالشيزوفرينيا والإدمان على الكحول بالإضافة الى إنعدام القدرة على ضبط السلوك التلقائي والسلوك العنيف الذي قد يكون له جذور بيولوجية تدفع، إذا لم تعالج، الى الانتحار". وتركز رزق هنا على كل ما يدخل في تكوين سلوك الفرد وآرائه، من تربية بيتية ومؤسساتية، مؤكدة أن "إرادة الفرد ليست موروثة وإنما تدخل ضمن الأشياء التي تؤثر فيها التربية كالحساسية المفرطة أو ضعف الشخصية"، ومضيفة أن "الإنتحار يعكس ضعفاً في الشخصية وعدم القدرة على إحتمال المشاكل ومجابهتها لدى الإنسان المفرط الحساسية الذي يحبط بسهولة. هذا هو الشيء الوراثي في الإنتحار، وراثي بمعنى الحساسية، العدوانية، اللؤم...". مواقف وقوانين تباينت المواقف تجاه الإنتحار على مر التاريخ بحسب المجتمعات. فالمصريون ايام الفراعنة كانوا يعتبرونه وسيلة للهروب من الظروف التي لا قدرة على إحتمالها، والفلسفة اليونانية ادانته، واليابانيون ابان الحرب العالمية الثانية اعتبروا العمليات الانتحارية لطياريهم الكاميكاز مشرفة، وفي الهند كانت النساء يحرقن انفسهن بعد موت أزواجهن... وحالياً، واذا وضعنا العمليات الاستشهادية جانبا، يعتبر الانتحار محرماً دينياً وقانونياً. ويعاقب القانون اللبناني مثلاً من يساعد على تنفيذه، بالحبس بين ثلاثة اشهر وعشر سنوات. وفي مطلق الحالات تبقى الوقاية خير علاج. ولما كان هناك إجماع على أن الإكتئاب يسبق معظم حالات الإنتحار، فإن المعرفة المبكرة به ومعالجته قد تحول دون التنفيذ. منال أبو عبس الجامعة اللبنانية