موضوعتان في طريقهما الى الانتشار الواسع، وإن كان المستقبل القريب سيهزّهما هزاً عنيفاً. الموضوعة الأولى تقول إن أميركا أصبحت هي القوة القاهرة الوحيدة في هذا العالم، وليس بمقدور أية دولة أو شعب أن يقف في وجهها. وقد تكرس هذا الرأي بعد أن ضربت عرض الحائط بمجلس الأمن وميثاق الأممالمتحدة وبالقوانين الدولية والرأي العام العالمي لتشن الحرب العدوان على العراق. وقد حققت نصراً عسكرياً سهلاً. وفرضت احتلالها بالشراكة مع بريطانيا عليه. وجاءت إلى مجلس الأمن لتأخذ منه قراراً بالاجماع يُقر بسلطة الاحتلال الأميركي - البريطاني ويضع مقدرات العراق تحت تصرفها بعد رفع العقوبات. ومن ثم لا مجال للحديث بعد اليوم إلا عن نظام عالمي يحكمه القطب الواحد. أما الموضوعة الثانية فهي تابعة للأولى، ولكن يُركّز عليها بحد ذاتها. وهي حتمية الخضوع لإرادة القوة الأميركية وعبثية معارضتها. وذلك على رغم مما يمكن أن يُقال عن انتهاكها للحقوق، ولا شرعيتها، أو اعتبارها ظالمة مئة في المئة. فالقوة الآن هي التي تحكم وتقرر. وليس أمام دولنا وشعوبنا غير التسليم بذلك والسعي في كنف هذا الاستسلام إلى تحسين الأحوال واصلاح الأوضاع وتجنب الهزائم. فإذا كان هذا حال الدول الكبرى، فرنسا والمانيا وروسيا والصين، التي تمردت، ثم عادت إلى بيت الطاعة، والدليل الموافقة على القرار 1483، فإن علينا الانتهاء من المكابرة وركوب الرأس. لقد صيغت هاتان الموضوعتان، وببلاغة عالية، من قبل. وعلى التحديد بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. لكن الواقع الذي تشكل اثر ذلك ببضع سنين هزّهما هزاً شديداً. ولهذا جاءت إدارة جورج دبليو بوش لتعيد الكرّة على العالم، وفي منطقتنا، مستغلة هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 على واشنطن ونيويورك. ففردت عضلاتها العسكرية وخاضت حربين خلال سنة واحدة أسفرتا عن احتلال أفغانستانوالعراق. الأمر الذي نفخ الحياة من جديد في موضوعتي: عالم القطب الواحد، وضرورة الخضوع للاملاءات الأميركية. وهكذا، ما حدث في المرة الأولى يتكرر في المرة الثانية، فتشطب ارادات العالم كله، وجميع المصالح والاستراتيجيات الأخرى، بجرة قلم لحساب القوة "الوحيدة". وبهذا تحل المبالغة في قراءة ميزان القوى مكان النسبية والواقعية. ويُستبعد قانون التعرج في كل صراع لمصلحة خط مستقيم هو إحكام السيطرة الأميركية. وفي هذا لم يُفرق بين ما هو محاولة، وما تحقق أو يمكن أن يتحقق. على أن أهم ما أُغفل في المرتين هو أن ما تريد أميركا تحقيقه، وقد ضوعف مع هذه الإدارة بسبب تطرفها الزائد، غير قابل للتحقق على أرض الواقع، لأن تفوق القوة الأميركية نسبي. بل لا يبقى تفوقاً إذا ما تجمعت، ولو موضوعياً، في مقابله القوى الأخرى المختلفة. ولأن وجود تلك القوى ومصالحها العليا وثقافاتها وهوياتها تصبح مهددة بالانهيار في حال الخضوع للاملاءات الأميركية. ومن ثم لا مفر، بالضرورة، من بروز الممانعة والمقاومة، وبأسرع الآجال. فلا يخدعنك هدوء السطح في لحظة ذهول أو ارتباك أمام صدمة مدوية. ولهذا، فإن التصور أن نظام القطب الواحد فرض نفسه على العالم يحمل درجة عالية من المبالغة والاستباقية والتعجل، كما أن الدعوة إلى أن الحل هو في الخضوع وتجنب المواجهة يتضمن، بدوره، مستوى أقصى من التهويل والانبهار والعجلة. والأمران يخالفان سُنن الكون والحياة ووقائع السياسة والمصالح. لماذا؟ ببساطة، لأن التحكم في العالم من خلال ديكتاتورية عسكرية مطلقة، أو شبه مطلقة، يستدعي بالضرورة قيام ديكتاتورية سياسية واقتصادية وثقافية من جنسها. وعندئذ ستفقد الدول الكبرى، على الخصوص، مناطق نفوذها، ومن ثم حصتها من الكعكة العالمية، بل ستفقد سيادتها على أرضها وثرواتها واقتصادها ووجودها، مما يهبط بها إلى درك لا تحتمله. وعليه، فإن معارضة نظام القطب الواحد هي ما لا خيار للدول الكبرى والوسطى وحتى الصغرى، فيه. فهذا من طبائع الأشياء ومن أسس وجود الأمم والدول. ومن هنا، فإن العالم مواجَه بخيارين، وربما بخيار ثالث يخلط بينهما. الخيار الأول هو أن يسارع إلى الممانعة والمقاومة من قبل أغلب دوله وشعوبه لردع أميركا من فرض النظام العالمي الذي يحلم به صقور الإدارة الحالية من خلال وضع نير العبودية في رقاب كل الدول. الأمر الذي يتطلب كفاحاً عالمياً من أجل العودة إلى الأممالمتحدة وميثاقها والقوانين الدولية وإقامة درجة من الشراكة والتعاون المتبادل وتعدد القطبية. ولكن من دون أن تتخلى دول العالم الثالث وشعوبه ونخبه عن المطالبة بإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر عدالة وتوزاناً. وهو ما يجب أن يكون قضية الصراع الذي تخوضه الدول والشعوب في المرحلة الراهنة. فلا يُسلم، بأي شكل من الأشكال، بموضوعة نظام القطب الواحد، ولا بموضوعة الخضوع لقانون القوة أو لاملاءات أميركا، وفي منطقتنا لمشروع الشرق أوسطية الجديدة بالشراكة مع الولاياتالمتحدة وتحت الهيمنة الإسرائيلية والخضوع للمشروع الصهيوني. أما الخيار الثاني فهو التعثر والتردد في هذا الكفاح لردع أميركا بسبب الانهيارات غير المسوّغة تحت ضغط حرب نفسية تستند إلى التهويل والإرهاب. وفي هذه الحال يسود قانون الغاب، وتستشري مظالم الناب والمخلب، وتعود الإنسانية إلى عهود الوحشية والجاهلية حيث لا يبقى هنالك من رأي إلا للسيف، ومن حق إلا للقوة، ومن مصلحة إلا للهيمنة، ومن سيادة إلا لدولة واحدة، ومن ثقافة إلا لثقافة منحطة. وهذا معنى نظام القطب الواحد، ومعنى الخضوع، والتخلي عن الممانعة والمقاومة. وهذا بالضبط هو المقصود بالشعار "إما ردع أميركا وإما الغابة". ولهذا يخطئ من يتصور إمكاناً لعمل ايجابي بنّاء في ظل سيطرة القوة المتوحشة، لا سيما من نمط تلك القوة التي بيد الفريق المتطرف الصهيوني ما فوق الليكودي في الإدارة الأميركية الحالية. لأن من يفقد ارادته، لحساب إرادة أخرى، عليه أن يرضخ للإملاءات ولو كان فيها خراب بيته، وإذا أجيب "عند هذا الحد نتمرد". ولكن كيف وقد قيل لننتهي من عقلية الممانعة والمقاومة والتمرد، ولنخضع للقوة فنعمل من خلال ذلك تجنباً لمزيد من الهزائم. وبهذا نعود إلى الممانعة بعد أن نكون قد فقدنا الكثير من شروط النجاح فيها. وخلاصة، لا بد من أن يتدافع عالمان لكل منهما نظرة ازاء الحق والقوة، ولكل سياسته وقوى تؤيده. فثمة الذين يقبلون أن تكون أميركا ديكتاتور هذا العالم ليغدو بلا منتظم دولي ولا شرعية ولا قوانين ولا مرجعية. وهنالك من يريدون عالم الأممالمتحدة وميثاقها، عالماً تضبطه قوانين دولية، ويقوم على الشراكة بين الدول ويحترم خصوصيات الشعوب وهوياتها وثقافاتها وخياراتها، ويحافظ على البيئة ويرفض الازدواجية وسياسة القوة في العلاقات الدولية. وإذا كانت أميركا هي الأقوى، ولنسلم جدلاً، لأن أميركا ليست أقوى من العالم حتى في هذه اللحظة، فهل يجب أن يمنع ذلك من معارضتها والكفاح ضد أطماعها غير المحدودة وتوحشها في استخدام عضلاتها، وهل يمكن أن نتركها تقود العالم إلى الوحشية والبربرية؟ الجواب بالتأكيد لا، فأميركا إذا كسبت معركة عسكرية في أفغانستان ومثلها في العراق، إلا أنها لم تكسب المعركة السياسية، بل دخلت في مأزقين، ولن يطول الوقت الذي ستبحث فيهما عن مخرج على الضد مما تحب. وأميركا إذ راحت تسعى إلى اخضاع العالم الى ديكتاتوريتها حركت، وستحرك، رأياً عاماً رسمياً وشعبياً لا قبل لها على مواجهته، خصوصاً بعد أن تبرد الصدمة ويعود التجرؤ على مواجهتها، وتبين نقاط ضعفها حتى لمن لا يريد أن يرى.