تحدث كثيرون وقالوا، ان الولايات المتحدة لم تقم بحربها إلا من أجل النفط، النفط فقط، أي انهم يرون ان الهدف الرئيسي، اذا لم يكن الوحيد، لحرب الولايات المتحدة على العراق، يعود الى رغبتها في السيطرة على بترول العراق. إلا ان هؤلاء لم يتفقوا على سبب رغبة أميركا في السيطرة على بترول العراق. بعضهم قال ان أميركا ترغب في تخفيض أسعار البترول الى أقل من عشرة دولارات، وذلك لحفز الاقتصاد الأميركي، فيما قال آخرون ان أميركا ستجبر العراق على الانسحاب من "اوبك" وبذلك يتم القضاء على المنظمة، التي تكرهها أميركا منذ عقود عدة. وذهب فريق ثالث للقول ان البترول سلعة استراتيجية، والسيطرة عليها يعطي الدولة المسيطِرة قوة غير محدودة في النظام الدولي. وحيث ان أميركا تخشى بروز قوى عالمية اخرى، وبالذات في آسيا مثل الصين والهند، فان أفضل طريقة لتحجيم هذه القوى، هي السيطرة على منابع البترول في منطقة الخليج جزئياً أو كلياً. كما ذكر آخرون ان للزعامة الأميركية الحالية بوش، تشيني، رايس وغيرهم ارتباطاً ومصالح بترولية شخصية. ومن هنا فإنهم يسعون الى توسعة مصالحهم البترولية الخاصة في دولة مهمة مثل العراق. ان القول ان سبب حرب الولايات المتحدة على العراق يعود الى البترول كسبب رئيسي أو وحيد، هو قول غير صحيح ولا تؤيده الحقائق البسيطة، أو الفكر او السياسات العامة لأميركا… ولا يقول هذا إلا شخص لا يرى العلاقات الدولية إلا من منظار واحد البترول مثلاً، أو شخص معلوماته وفكره عن البترول ودوره، قديمة، ليس لها ادراك بالتطورات الأخيرة. كما ان هناك من يؤمن بنظرية "المؤامرة". ومن يعتقد بهذه النظرية، فانه في الغالب يُعطي تعليلات للأحداث تتسم بعدم الموضوعية والعمق، ويشوبها التبسيط المخِل الذي يصل أحياناً الى السطحية، بحيث يحيل الأحداث لأيدٍ وأهداف خفية ولا ينظر إلا في اتجاه واحد، سبق ان قرره ومن دون أي تراجع. فبالنسبة الى البترول، هناك من يعتقد انه سبب غالبية، إن لم يكن كافة، الصراعات في المنطقة، وعلى قمة ذلك حروب الخليج الثلاث، بل وغيرها من الصراعات في مناطق العالم المختلفة، وان تدخلات أميركا العسكرية والسياسية تعود فقط الى مصالحها البترولية. إلا اننا يجب ألا ننسى ان غالبية الصراعات التي دخلتها الولايات المتحدة خلال العقود الخمسة الماضية، كانت في مناطق غير بترولية فيتنام، كوريا، كمبوديا، لاوس، كوبا، هايتي، تشيلي، نيكاراغوا، غواتيمالا، بيرو، غرينادا، السلفادور، لبنان، الصومال، الكونغو، أفغانستان، يوغوسلافيا السابقة، وغيرها. ولا شك ان للبترول دوراً مهماً - ولكنه غير رئيسي وغير وحيد - في الحرب الأميركية على العراق. ولعل أهمية البترول تكمن في أهمية النظر الى نتائج الصراع، أكثر من كونه من أسبابها. ويبدو ان سبب الحرب على العراق، يعود الى أحداث 11 أيلول سبتمبر التي أدت الى هزيمة نفسية كبيرة لأميركا من الصعب تصورها. هذه الهزّة ولّدت خوفاً وهلعاً ورغبة في الانتقام، ولم يكن هناك أفضل من العراق، فهو بلد عربي ومسلم، ومنفّذو أحداث 11 أيلول عرب ومسلمون، والعراق لديه زعامة غير مرغوبة - ليس لها صديق أو حليف، عالمياً او إقليمياً. كما ان الشعب العراقي - نفسه - يكره قيادته. إضافة الى ذلك، فان العراق له مظهر القوة خارجياً، وإن كان ضعيفاً وهشاً داخلياً. وهذا يسهّل الانتصار عليه من ناحية، ويعطي المنتصِر شعوراً بالنشوة من ناحية اخرى. وهذا بدوره يشبع جزءاً من دوافعه النفسية. أما الأسباب الاخرى التي يشار إليها أحياناً كدواع للحرب، فيتم استخدامها اما لأسباب سياسية/ دعائية، مثل القول ان الهدف هو القضاء على أسلحة الدمار الشامل أو تخليص العراقيين من ديكتاتورية صدام حسين، وإنشاء نظام ديموقراطي بديل أو التركيز على المصالح البترولية، أو القول ان هناك هدفاً أكبر من كل ذلك، وهو إعادة تشكيل وتقسيم منطقة الشرق الاوسط. ويبدو انه يتم اللجوء الى هذه الأفكار اما لضعف الاطلاع والمعرفة، أو من أجل استخدامها لأغراض خاصة من هذا الجانب أو ذاك، مثل اعطاء أميركا صورة سلبية ووجهاً بشعاً، أو من أجل إعطاء الحرب وأميركا بعداً انسانياً. إلا انني أود ان استرجع وأقول ان جماعات المحافظين الجدد وهي جماعة يهودية في الغالب ومرتبطة باليمين الاسرائيلي المتطرف، وبعض الجماعات الدينية المسيحية الأميركية المتطرفة والحاقدة لعبت دوراً مهماً في إشعال الفتنة، باستغلال أحداث 11 أيلول، وقيادة موجة من الكراهية والحقد على العرب والمسلمين، بما في ذلك دفع أميركا الى شن حربها على العراق. كما ان هذه الجماعات تسعى الى تجيير نتائج هذه الحرب لمصحلة اسرائيل. وبالنسبة الى البترول وكونه سبباً رئيسياً، أو وحيداً للحرب الأميركية على العراق، فان هناك حقائق واضحة تبين ان دوره يعتبر ثانوياً. ويمكن فهم دور البترول وأهميته في الصراعات الدولية المختلفة، بما في ذلك الحرب الأميركية على العراق، من خلال النظر الى تطور الدور التاريخي للبترول، ووضعه الحالي، والتي تتضح من خلال النقاط الآتية: أولاً: صحيح ان البترول سلعة استراتيجية وستستمر كذلك، إلا ان السلع الاستراتيجية تشمل مواد اخرى مثل الغذاء والدواء والكساء، بل ان هذه تُعد أهم من البترول من حيث درجة حاجة الناس إليها ودرجة اعتمادهم عليها. وتطورت اهتمامات العالم بأولوية هذه السلعة من تلك، بتطور الظروف والحاجات. ففي العصور الوسطى، كانت البهارات أهم سلعة استراتيجية عالمية، الى درجة انها قادت القوى الاوروبية الى البحث عن طريق اخرى للوصول إليها لا تمر عبر المناطق الاسلامية، ما قادها الى اكتشاف أميركا. وفي فترات تالية ومختلفة، كان المطاط والحديد والقطن والفحم والمعادن النفيسة من أهم السلع التي قامت الحروب والنزاعات بسببها. كما كانت من أهم أسباب قيام الدول الاوروبية باستعمارها لبعض مناطق العالم. ثانياً: من الممكن القول ان البترول كان أهم السلع الاستراتيجية مع نهاية الحرب العالمية الاولى وحتى منتصف الستينات. فمن أجل البترول، قام الكثير من الصراعات، وتم احتلال بعض المناطق. وكان البترول العامل الرئيسي في النمو الاقتصادي في عدد كبير من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة. وكانت الحكومات تسعى الى السيطرة على البترول في شكل مباشر أو غير مباشر. فعلى سبيل المثال، فإن كل الدول الاوروبية، ودول العالم الثالث اعتبرت الثروات البترولية ملكاً للدولة. كما قامت بتأميم شركات البترول واعتبارها حكومية مثل بريطانيا وفرنسا وايطاليا وبقية الدول الاوروبية أو انشاء شركات بترولية تملكها وتموّلها الحكومة مثل اليابان. وكانت شركات البترول في أعلى قائمة الشركات التجارية من حيث العوائد، ورأس المال. إضافة الى ذلك، فان تجار البترول مثل غيتي وروكفلر كانوا أغنى أغنياء العالم. ثالثاً: بدأ البترول يفقد دوره كأهم سلعة استراتيجية في العالم في شكل تدريجي، وذلك منذ بداية السبعينات. فعلى سبيل المثال، تم تقليص العلاقة بين النمو الاقتصادي والطلب على البترول بنحو 50 في المئة، وتم تقليص اعتماد قطاع مهم مثل الكهرباء على البترول من نسبة 27 في المئة الى 7 في المئة في الدول الصناعية. وانخفضت مشاركة البترول في إجمالي استخدام الطاقة من 56 في المئة الى نحو 40 في المئة خلال ثلاثة عقود فقط. كما تطورت تقنيات استكشاف البترول وإنتاجه، وتضاعف عدد الدول المنتِجة لتصل الآن الى 80 دولة نصفها دول مصدّرة للبترول. وقام عدد كبير من الدول بفتح الامتيازات للإستثمارات البترولية العالمية. إضافة الى ذلك، لم تعد شركات البترول، حتى بعد الإندماجات الكبيرة والمهمة التي قامت بها خلال الأعوام العشرة الماضية، في قائمة أهم شركات العالم، حيث ظهر العديد من الشركات البترولية الناجحة والكبيرة والعالمية في دول غير غربية مثل النروج والمكسيك وماليزيا والبرازيل والمملكة العربية السعودية، وغيرها. كما أنشأت الدول الرئيسية المستهلِكة مخزونات استراتيجية، وذلك لمواجهة أي توقف في الإمدادات الخارجية ولمدة تصل الى ستة أشهر. رابعاً: مع بداية الثمانينات، بدأت قطاعات أخرى تحل محل البترول، ليس فقط كسلعة استراتيجية، ولكن كأهم قطاع يُحرك النمو الاقتصادي محلياً وعالمياً. وفي هذا المجال، برز قطاع الخدمات، خصوصاً الخدمات المالية، كالبنوك وشركات الائتمان والتأمين، وغيرها كأهم القطاعات في الاقتصادات الحديثة. كما برزت أيضاً قطاعات أخرى، مثل السياحة وصناعة الأدوية وصناعة الغذاء، والتي تحظى بأهمية خاصة. وتلى ذلك وبالذات في التسعينات قطاع المعلومات والاتصالات، الذي أصبح أكثر القطاعات نمواً وتحريكاً للاقتصاد المحلي والدولي، بحيث انه ساهم في التسعينات في نمو الاقتصاد الأميركي في شكل لم يشهده منذ عقود عدة. لذلك، لا عجب ان تصبح "مايكروسوفت" أهم شركة في العالم، وتحل في المركز الذي كانت تحتله شركات البترول العالمية، مثل "موبيل" و"اكسون" في الستينات وقبل ذلك. وأصبح بيل غيت بليونير العصر، كما كان ديفيد روكفلر، في النصف الأول من القرن العشرين. كما أصبحت سنغافورة، التي لا تملك أي موارد طبيعية، ذات أهمية وثروة اقتصادية تفوق دولاً رئيسية منتِجة للبترول إجمالي الناتج القومي السنغافوري أعلى من أي دولة عضو في منظمة "أوبك"، ما عدا السعودية. ولا عجب ان تركز الولايات المتحدة في محادثاتها ومواجهاتها الاقتصادية مع دول العالم على مواضيع مثل "حقوق النشر والطبع" وبالذات لبرامج الكومبيوتر، وفتح السوق المحلية امام الشركات العالمية في مجالات الاتصالات والمعلومات، وليس البترول. خامساً: حدث خلال العقدين الماضيين تغيران مهمان في السوق والصناعة البترولية، هما فك الارتباط ما بين العمليات الأولية استكشاف وانتاج البترول والعمليات اللاحقة تكرير البترول وتسويق المنتجات، وظهور السوق الآجلة والسوق الفورية في المبيعات البترولية. ففي السابق، كانت غالبية الشركات تكرّر ما تقوم بانتاجه، أما الآن، فإن هناك شركات تركّز على عمليات الانتاج وبالذات الشركات الوطنية في الدول المنتجة الرئيسية، بينما هناك شركات أخرى تركّز على عمليات التكرير والتوزيع، خصوصاً في الدول المستهلكة الرئيسية، مثل الدول الأوروبية واليابان وكوريا وغيرها. وضعف الارتباط بين العمليات الأولية واللاحقة، أدى الى ضعف المقدرة على السيطرة على السوق البترولية، سواء من قِبل الشركات أو من قِبل الدول. أما التحول الثاني، وهو الرئيس، فهو تطور السوق الآجلة والسوق الفورية، فالسوق الآجلة أعطت عدداً كبيراً من المنتجين والمستثمرين والمستهلكين، خصوصاً صغارهم، نوعاً من الأمان من تقلبات السوق. إلا أنها - وهو الأهم - أعطت دوراً مهماً للمضاربين والمؤسسات المالية، وصناديق الاستثمار لتلعب دوراً مؤثّراً في السوق البترولية الدولية، يفوق أحياناً - لا سيما في حال الأزمات - الدور الذي تلعبه الدول والشركات المنتِجة والمستهلِكة للبترول… فهؤلاء يستطيعون خفض أو رفع الأسعار بنسبة قد تصل إلى 30 في المئة وخلال فترة قصيرة. وبالإضافة الى السوق الآجلة، فقد ظهرت السوق الفورية، والتي تعني توجه البائع أو المشتري الى هذه السوق وبيع أو شراء أي كمية من البترول يريدها من دون أي قيد أو شرط. ويعني هذا ان الدول أو الشركات التي لديها الأموال الكافية، تستطيع الحصول على أي كمية من البترول تحتاجها. وبعنى آخر، فإن أولئك الذين تنقصهم العملات الصعبة، هم الذين سيواجهون أزمة في الإمدادات في حال انقطاعها أو ارتفاع الأسعار. ففي حال انخفاض كمية المعروض من البترول أو زيادة الأسعار، فإن دولاً مثل بنغلادش أو إثيوبيا أو الصومال، ستعاني أزمة في عدم توافر البترول قبل أن تعانيها دول مثل أميركا واليابان. كما ان ارتفاع أسعار البترول سيؤثّر على الوضع الاقتصادي للدول الفقيرة قبل أن يؤثر على الوضع الاقتصادي والمعيشي للدول الغنية. ومن هنا، فبالنسبة الى الولايات المتحدة، فإن قضية أمن الإمدادات البترولية وضرورة توافرها من مصادر محدّدة، لم تعد قضية مهمة، وذلك بسبب التطورات المختلفة في السوق البترولية، بما في ذلك وجود كمية من البترول في المخزون الاستراتيجي الأميركي تغنيها عن الاستيراد لأشهر عدة. كما ان الاقتصاد الأميركي يستطيع تحمّل ارتفاع أسعار البترول أكثر من غيره، بل انه من الملاحظ ان الولايات المتحدة خلال الأعوام العشرة الماضية قامت بفرض مقاطعة بترولية من نواحي الاستثمار والاستيراد من العراق وإيران وليبيا والسودان. كما هدّدت باجراء مقاطعة مماثلة على دول أخرى كنيجيريا وسورية وغيرهما. أما بالنسبة الى العراق، فإنه من غير المتوقع ان يلعب دوراً أساسياً في السوق البترولية الدولية خلال السنوات الخمس المقبلة على الأقل. إضافة الى ذلك، فإن العراق لديه ديون خارجية تصل الى نحو 120 بليون دولار أميركي، وكلفة إعماره خلال السنوات الخمس المقبلة قد تصل الى أكثر من 250 بليون دولار. أما بالنسبة الى أميركا، فإن كلفة الحرب ومساعدات بناء العراق قد تصل كذلك الى 200 بليون دولار. وفي المقابل، فإن دخل العراق من البترول، وعلى افتراض الأسعار الحالية، وافتراض انتاج ثلاثة ملايين برميل يومياً، لن يتعدى 120 بليون دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. وبالطبع فإن هذه الأرقام تتحدث عن نفسها. إن القول ان أميركا غزت العراق من أجل البترول هو قول ليس سياسياً أو اقتصادياً ولا بترولياً، ومعطيات الاقتصاد العالمي والسوق البترولية تدحضه. فأميركا لها هدف أكبر وأهم من البترول، فإن ساعد البترول في تحقيق هدفها شكلياً أو جزئياً، فهو أمر لا تكرهه، بل تفضله. إن ما تريده أميركا من البترول العراقي، هو ان يؤدي دخله الى دفع كلفة بناء العراق الذي تسيطر عليه بدلاً من ان تدفع أميركا هذه التكاليف كما حدث مع دول أخرى وفي حالات مشابهة. وربما ترغب أميركا بعد ثماني أو عشر سنوات من الآن ان يدفع العراق، ومن بتروله، تكاليف القواعد العسكرية والقوات الأميركية الموجودة داخل العراق، كما هو الأمر الآن مع ألمانياواليابان. * كاتب سعودي.