«ما إن انتهت حلقة «فرافيرو العجيب» حتى دلف سامي (سبع سنوات) إلى غرفته، وأزاح ملاءة السرير، وربطها على عنقه، وهرع إلى الشرفة، حيث قفز إلى السور ووقف عليه، وفرد ذراعيه في الهواء، وصاح، مستحضراً «فرافيرو»: أنا جاااااي!! وقفز قفزة عنترية ليستقر داخل سيارة نقل محملة بالطماطم شاء القدر أن تقف في هذا التوقيت أسفل الشرفة. واليوم، وبعد مرور أربعين سنة على هذه الواقعة، ما زال سامي يعاني اختلافاً طفيفاً في نمو ساقيه بسبب الكسر المضاعف الذي أصيب به يوم تقمص تلك الشخصية العجيبة». زياد (11 سنة) وأحمد (7 سنوات) شقيقان. زياد يشعر بسعادة بالغة اليوم لأنه بدأ يستخدم البرجل (البيكار) الهندسي لكي يرسم الدوائر في مادة الهندسة. أغلق الباب على نفسه وأخذ يرسم دوائر على كل ورقة يصادفها رافضاً دخول شقيقه، الذي حذرته والدته من استخدام البرجل خوفاً من أن يشكه بسنه المروّسة. ولسبب ما قرر زياد أن يجرب إدخال سن البرجل من المكان المخصص لمفتاح الباب، وهو ما نجح فيه، إلا أن شيئاً ما عرقل استمرار مرور السن، ولم يكن هذا العائق سوى عين أخيه اليمنى التي ثبتها على الفتحة ذاتها من الخارج ليختلس النظر. وعلى رغم مرور نحو 20 سنة على ذلك اليوم الذي فقد فيه أحمد عينه، ما زال زياد يعاني عقدة ذنب رهيبة». هشام (18 سنة) فقد عينه ايضاً قبل عشر سنوات، بسبب رقبة زجاجة المياه الغازية التي خطفها من يد شقيقته وركض بها وهو ينظر خلفه، لكنها انزلقت من يده، وشاء حظه العاثر أن يقع عليها لتصيب الزجاجة عينه وتتسبب في فقدانها. دفاتر أقسام الطوارئ حافلة بآلاف الحوادث المنزلية التي تحصل للأطفال بأدوار «البطولة المطلقة» فيها. وهي دفاتر، شأنها شأن غيرها من مظاهر الحياة، تتغير وتتطور وتتلون بألوان المدنية الحديثة. فقبل نحو نصف قرن، كانت حوادث الأطفال في المدن المصرية تتراوح بين القفز من الشرفات تأثراً بشخصيات كارتونية مثل «سوبرمان» وقرينه المصري «فرافيرو العجيب»، وبين شرب المواد الحارقة وفقدان التوازن ومن ثم الوقوع من أسطح البيوت أثناء اللعب مع الدواجن والأرانب التي تربيها الأم والجدة والخالة. فقبل سنوات طويلة، كانت أكثر الحوادث شيوعاً هي تلك التي يتناول فيها الأطفال «البوتاس» (مادة الصودا الكاوية) التي تستعملها الأم في تبييض الغسيل. ولأنه غير ذي رائحة نفاذة، وشكله أقرب ما يكون إلى اللبن، فقد كان الكثيرون يبتلعونه. يقول أستاذ الجراحة العامة الدكتور خالد عيسى: «البوتاس مادة قلوية تتسبب في حال شربها في حدوث التهاب شديد وتليف في المريء، وهو ما يستدعي إما توسيع الجزء المصاب بالمناظير الضوئية، وإما يحتاج إلى التدخل الجراحي في حال حدوث التليف، ويتم زرع جزء من القولون مكان المريء وهي عملية بالغة التعقيد». ويضيف عيسى أن ولحسن الحظ، استخدام البوتاس في تبييض الملابس تقلص بشدة بفضل الغسالات الكهربائية، وهو ما يعني انخفاض شديد لعدد الحوادث التي ترد إلى أقسام الاستقبال والناجمة عن شربه، والتي كنت ظاهرة يومية حتى مطلع ثمانينات القرن العشرين. إلا أن أقسام الطوارئ أبعد ما تكون عن الركود، فالحوادث والإصابات الناجمة عن الكهرباء والسقوط من الشرفات والحرائق ما زالت مستمرة، وهي حوادث تنتمي إلى النوع الكلاسيكي، بمعنى أنها وجدت لتبقى، ولا ترتبط بالضرورة بزمن معين. يقول الدكتور عيسى: «يمكن القول إن ابتلاع العملات المعدنية، والحروق الناجمة عن الأفران والمواقد، والرضوض بسبب الجري، والوقوع من أعلى المقاعد والطاولات، كذلك بسبب اللعب والقفز على الأسرة هي أشهر الحوادث. لكن هناك ما يتسم منها بالغرابة، مثل ابتلاع ملعقة صغيرة، وقوف شوكة سمك أو عظمة دجاجة في داخل الحلق، والإصابة الناجمة عن الجري أثناء أكل «مصاصة» من أغرب الحوادث التي رأيتها بنفسي». وإذا كان الحذر لا يمنع القدر، فإنه على الأقل يقلل من حجم الأضرار التي ينذر بها، إلا أن هناك مجموعة من العوامل التي تتكالب لتعطي القدر مطلق الحرية. فغياب الأمهات عن البيت فترات طويلة بسبب العمل، والاضطرار أحياناً إلى الاعتماد على خادمات ومربيات للعناية بالأطفال قد يؤديان إلى وقوع حوادث. كما أن رفاهية الحياة الحديثة، وارتفاع مستوى الدخل ساعدا على زيادة أعداد الأجهزة الكهربائية الموجودة في داخل كل بيت، بدءاً بالغسالة والثلاجة، ومروراً بالتلفزيون والفيديو، وانتهاء بالكومبيوتر وشواحن الهواتف المحمولة تزيد احتمال إصابات الأطفال بالصعقات الكهربائية. ويمكن القول إن فكرة «الصيانة» الدورية للتوصيلات الكهربائية، وأنابيب الغاز، والمصاعد وغيرها تعد من الرفاهيات غير المدرجة في خطط الغالبية العظمى من البيوت المصرية. وذلك يعود لسببين أحدهما اجتماعي والثاني اقتصادي. ففكرة «على البَرَكة» ومفهوم «خليها على الله» يسيطران على كثيرين باختلاف مستوياتهم العلمية والاجتماعية. تسأل أحدهم عن الإجراءات التي اتخذها استعداداً لدخول ابنه أو ابنته مرحلة الحبو مثلاً، وما يتبع ذلك من محاولات استكشاف يتيحها هامش الحرية في التنقل المتاح له، فيرد قائلاً: «إجراءات إيه؟! خليها على الله!» أو «ربنا هو الذي يستر». والسبب الآخر اقتصادي، إذ أن جانباً من إجراءات الحماية والوقاية تعني مزيداً من الإنفاق، وهو غير متاح لكثيرين يشكون قلة الحيلة مالياً. لكن ذلك لا ينفي أن مسألة الوعي بالحوادث المنزلية وبديهيات الحماية والوقاية تعاني نقصاً وضعفاً واضحين بصفة عامة. فقبل نحو أسبوعين، استقبل أحد المستشفيات رضيعاً مصاباً بحروق بالغة ناجمة عن انسكاب كوب الشاي الساخن جداً من يد أمه عليه، إذ كانت ترضعه بينما ترشف الشاي. المثير هو أن الأم مهندسة، أي على قدر من التعليم والثقافة كانا يفترض أن يمنعاها من القيام بمثل ذلك التصرف الأهوج. وعلى رغم غروب شمس «فرافيرو العجيب» واندثار دور «سوبرمان» و«باتمان»، لا يخلو الأمر من محاولة لتقمص شخصية إحدى فتيات «باور باف غيرلز» صاحبات القدرات الخارقة، أو الاحتذاء ب «دكستر» المخترع الصغير، ومحاولة ابتكار مادة تخفي صاحبها، أو اتباع القواعد الواردة على مواقع الإنترنت للإعدام شنقاً!