"الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأساً دوماً" جان دمو كان اسم جان دمّو يسبق شعره دوماً، ومعظم الذين عرفوه أو عرفوا اسمه ظلّوا يجهلون شعره، حتى غدا "شاعراً بلا نصّ" كما قال فيه مرّة عبدالقادر الجنابي، شاعراً يحيا الشعر ولا يحتاج الى أن يكتبه. مات جان دمّو أخيراً عن أربعة وخمسين عاماً بعيداً من العراق وكركوك مسقط أحلامه، مات في سيدني حيث كان "يعيش" منفياً بعدما جاب بعض المدن، وآخرها عمّان التي كان فيها أقل غربة بين أصدقائه العراقيين. ولو لم ينشر عبدالقادر الجنابي وصموئيل شمعون خبر موته عبر "الانترنت" ويهتمّا به لما علم أحد برحيله. فهو كان أشبه بالميت - الحيّ أو بالميت الذي لم يصله خبر موته. فعلاقته بما يُسمى "الحياة" كانت ضئيلة كالخيط وكان العيش في نظره "ركضاً" في اتجاه "سراب اللحظات" كما يقول في إحدى قصائده. لم يملك جان دمو حياة كي يغادرها ولا منزلاً ولا حتى "حقائب" كما يعبّر سعدي يوسف، ولم يملك أي مشروع شعريّ أو طموح. كان يعيش الشعر لحظة تلو لحظة، صعلوكاً ومشرداً وثملاً وساخراً وغاضباً وهادئاً... كان يعيش دوماً حالاً من "الاقتلاع" جعلته يظن العالم كلّه وطنه والأرصفة كلها منزله. لم يعبّر جان دمّو عن حال "الاقتلاع" هذه في شعره فقط بل اختبرها بجسده وروحه حتى أضحى "كائن اللامكان" مثلما كان شاعر اللاديوان واللاكتاب... ليس الشراب وحده ما دمّر جان دمّو وهو كان مدمناً كبيراً، دمّره أيضاً تواطؤه الشعري مع الحياة التي حلم بجعلها قصيدة مستحيلة، دمّره كذلك "مثال" الشاعر الرافض والملعون الذي أمضى عمره يلهث وراءه، ودمّره أيضاً موقفه المأسوي والعبثي من عالم لا يستحق في نظره أي عناء أو ألم. وربما دمّرته سنوات الجنون التي عاشها في العراق تحت وطأة الكابوس البعثي، على رغم محاولته المستميتة جعل "الكابوس" ضرباً عبثياً وساخراً. فأخباره خلال الحرب العراقية - الإيرانية لا تقلّ طرافة عن الأخبار التي اكتنفت حياة الصعلكة والادمان لديه. وان كان جان دمو ينتمي الى جيل الستينات في العراق، فهو لم يشارك كثيراً شعراء جيله هموم البحث عن معالم "الحداثة الأخرى" مع انه كان أهلاً لأداء مثل هذه المهمة نظراً الى ثقافته العميقة والمامه بالانكليزية. لكنه سرعان ما افترق عنهم حين تفرّقوا بدورهم بعد مرحلة البدايات التي جمعتهم معاً. راح جان دمّو يؤثر الحياة على الشعر والشراب على القصيدة، ماضياً في مشروعه اليتيم الذي سعى من خلاله الى تدمير ذاته تدميراً شعرياً والى جعل هذا التدمير الذاتي فعلاً حقيقياً يوازي فعل الشعر نفسه. غير أنّ هذا "التدمير" أصاب حياته وجعلها أنقاض حياة عوض أن يتمّ عبر الشعر واللغة مثلما حصل لدى الشعراء "الملعونين" الذين صنعوا قمم الشعر الحديث. قد لا تكون القصائد القليلة التي كتبها جان دمّو في حجم "اللعنة" الشعرية التي عاشها، وقد تتضاءل أهمّيتها قياساً الى نتاج شعراء جيله الذين رسّخوا تجاربهم المضيئة عراقياً وعربياً. لكنّ فرادته تكمن في صورته التي صنعها لنفسه بنفسه، شاعراً غير عابئ بأي مجد أو "خلود" أو حكمة، شاعراً منبوذاً يكره الشعر والشعراء ويسخر من "الأخلاق" الشعرية ويحتقر امتهان الشعر والذين يمتهنونه. كأن الشعر في نظره هواية أبدية ومشروع ناقص لا يكتمل إلا عبر مواجهته السافرة بالجسد لا باللغة. وقد يكون نقصان المشروع هذا قرين الرغبة الغامضة التي تظلّ رغبة في حياة يتحرّق الشاعر اليها ويجهلها في آن واحد. قد يكون النقصان أيضاً قرين الحنين الحارق الذي يخالج الشاعر الى أحوال غامضة ومجهولة. وتبلغ عبثية جان دمّو ذروتها حين يقول في احدى قصائده: "لن نغامر بالجواب/ لأنّه لا جواب هناك". وقد يعني غياب "الجواب" في ما يعني، غياب أي يقين في حياة تبدو معقدة وسهلة بمقدار ما تبدو غامضة وصعبة. إنّها الحياة المستحيلة التي عاشها جان دمّو كما لو أنّه يعيش حلماً مستحيلاً. ربما لم يكن سقوط الكابوس البعثي العراقي ليعني جان دمّو كثيراً هو الذي سقط ضحية الحياة أولاً وضحية كوابيسها ومنها كابوس البعث العراقي وضحية نفسه وضحية الآخر أياً كان وكيفما كان. وربّما لم تكن العودة الى عراق ما بعد صدام لتعني له الكثير هو الذي فقد في منافيه المتعددة بوصلة الزمان والمكان وبات ينتمي الى اللامكان واللازمن. سقط جان دمّو قبل أن تسقط تماثيل صدام حسين، وسقط أكثر من مرّة، لكن سقوطه الأخير كان الأخفّ وقعاً وألماً، كونه سقوطاً حقيقياً في الموت الذي يهيمن على العالم: "أيكون الموت غياب الذاكرة/ أم صفاً من طيور البطريق/ تنتظر مخلّصاً ما/ تحت شمس بنفسجية؟". هكذا يسأل جان دمّو ولكن من دون أن ينهمك في البحث عن أي جواب. فشاعر مثله، عبثي وعدمي وملعون، لا يعنيه أن يتنكّب مهمة الحكيم والمفكّر والمتأمّل. كلّ ما يهمّه هو جعل حياته قصيدته الوحيدة المكتوبة بالدم لا بالحبر، وبالدمع والضحك والجنون والتعتعة! لو أن جان دمّو كتب مقدار ما عاش وتصعلك، لكانت دواوينه الآن تحتل بضع زوايا في المكتبة الشعرية العربية، لكنّ الشاعر "الملعون" دخل عالم الشعر خفيفاً ب"أسمال" حاول أن يتخفف منها بدورها. فالكتيب الوحيد الذي أصدره له أصدقاؤه قبل سنوات وعنوانه "أسمال" لا يتمثل حقيقة تجربته الغريبة. أما القصائد الأخرى التي جمع الشاعر عبدالقادر الجنابي بعضاً منها في موقع "ايلاف" الالكتروني وكذلك القصائد المبعثرة التي كان يكتبها في مقابل وجبات عشاء أو غداء في بيروت الستينات فهي تستحق أن تستقرّ في ديوان يكون ديوان جان دمّو اليتيم الذي يجمع شتات عمره الضائع. ترى، ألا يستحق جان دمّو أن يكون له ديوان ليستحق لقب "الشاعر الملعون" الذي جعله بول فيرلين قبل أكثر من مئة عام رديفاً ل"شاعر المطلق"؟ مات جان دمّو وبقي اسمه، بل مات وما زال اسمه يسبقه حتى بعد موته! ترى، متى سيرتبط اسمه بقصائده التي كتبها رغماً عنه و"نكاية" بالشعر والحياة معاً؟