هذه مشاهدات جندي اميركي شارك في الحرب على العراق وسجل بعض ملاحظاته باسم جون مارتس، يصف فيها بعض الأهوال التي شاهدها، من دون ان يدخل في معنى الحرب أو شرعيتها أو السياسة الاميركية: مشاهد ستبقى معي إلى الأبد. إنها مشاهد من حرب قصيرة دامت شهراً، لكنها ستستمر إلى الأبد كحرب خاضتها فرقة دبابات "شارلي كمباني" من قوة المهمات الخاصة 1-64. كل جندي من جنود مجموعة المدرعات فورت ستيوارت سيحمل مشاهداته المطبوعة في ذهنه طوال الفترة المتبقية من عمره. أما أنا فهذه مشاهداتي: إمرأة تلبس جوربين أحمرين تموت وسط الطريق. ليلة حفرت الكلاب القبور وأخرجت الجثث. تلك الزوجة المسلمة الشابة التي، خوفاً من أن يرى أحد قدمها العارية، لم تسمح للطبيب بمداواة جرحها. ذلك الحمار وسط حقل من المتفجرات والذخائر. الانتحاري الذي قتل وذاب بالنار. الثناء الذي تلقيته على علبة سجائر. جندي مجروح قبض على يدي وشكرني لأنني ساعدته. مشاهد أخرى تقفز الى الذاكرة تلقائياً مجرد سماعي صوتاً ما أو لدى شم رائحة معينة أو الوحدة في الظلام في ليلة لا نوم فيها. شاهدتها وهي تموت كانت المرأة تلبس جوربين أحمرين، الأيسر منهما كان ممزقاً من فوق حتى أسفل الركبة كاشفاً عن فخذ بض أتاح رؤيته انحسار العباءة السوداء التي كانت تلف جسد المرأة. ربما كانت في الأربعين، لست متأكداً. أما الأكيد في الأمر، أنها كانت تنازع لحظات الموت الأخيرة. كانت مستلقية وسط الطريق الرئيسي العريض رقم 8 المؤدي إلى بغداد. كان رأسها والجزء الأعلى من الجسم فوق الخط الذي يتوسط الطريق ورجلاها واحدة في الجزء الأيمن والثانية في الأيسر. والدم ينزف من وسطها فوق الأسفلت. رفعت رأسها نحوي متوسلة كما لو أنها أرادت أن تقول "ساعدني كي أموت". على مقربة من المكان كانت سيارة صغيرة بيضاء اللون مشتعلة تحترق، كانت السيارة وزجاجها مخردقين بالرصاص. وإلى جانبها كان جسدان لم استطع تمييز أيهما لرجل أو امرأة من شدة الحروق التي أصيبا بها، كانا على وشك الموت وملابسهما محروقة. توقفت حاملة الجند التي كنت فيها، وهي جزء من رتل سيارات مصفحة كانت تتسابق نحو بغداد، رفعت المرأة ذراعها ورأسها ونظرت إلي وقالت: "ساعدني... إني أموت". استدرنا. غابت لحظة قصيرة عن ناظري. وعندما نظرت إلى الخلف كان رأسها هبط فوق الخط وسط الطريق. كلاب الحرب عشنا مع الموتى لمدة يومين. جثث الجنود والمقاتلين وأعضاء حزب البعث وفدائيين مخلصين جداً لصدام حسين كانت مبعثرة حول تقاطع الطرق عند مدخل مدينة النجف بأوضاع وأشكال غريبة للموت. لم يتقدم المواطنون المحليون من هذه الجثث، قائلين انها لأشخاص من بغداد أو كربلاء وتنصلوا منها. هكذا بقي الموتى حيث سقطوا مع رشاشاتهم "إيه كيه - 47 إس" وقاذفات القنابل اليدوية، شهداء عصاميون لهدف عقيم. كانت وجوههم وأياديهم كأنها مطلية بالشمع، وظهروا موتى كعارضي الأزياء. في النهاية تكفل الجنود دفنهم في قبر جماعي. غطوا وجوههم بالمناديل واستعملوا حبالاً وقفازات مطاطية لنقل الجثث التي أصبحت متصلبة. في تلك الليلة، وفيما كنا داخل سيارتنا المصفحة متلفحين خوفاً من البرد القارس، سمعنا نباح قطيع من الكلاب. ظننا أنها تتقاتل على فضلات طعام ملقاة مع كومة من الزبالة على مقربة من المكان. وعندما استيقظنا شاهدنا سواعد وسيقان تطل من تحت الأرض أعملت الكلاب أنيابها فيها عضاً وتقطيعاً. فأعاد الجنود دفن الجثث. ثم تحركنا من المكان. صِدام حضاري فتاة مسلمة لم تتجاوز ال14 أو 15 ربيعاً. جاءت تعرج نحونا، دمها ينزف بغزارة من جرح سببته شظية أصابت قدمها اليمنى. أمسك أحد الجنود ساعدها لمساعدتها فيما كان زوجها الذي لا يكبرها كثيراً يساعد رجلاً أعمى. قدم لها الجندي صندوق ذخيرة لتجلس فوقه محاولاً إفهامها أنهم بانتظار طبيب لمعالجة قدمها. أنزلت عباءتها السوداء فوق وجهها وأجشهت بالبكاء. وفهمنا من المترجم المدني الذي كان يرافقنا أنها تبكي لأنها لا تريد أن يمسها سوى زوجها. وقال المترجم: "هذه هي العادات هنا". خضنا معها مفاوضات استغرقت قرابة عشر دقائق قبل أن تقبل، على مضض، السماح للطبيب العسكري أن يقص الشريط الأبيض الذي لفّت به قدمها وتنظيف الجرح وعصبه. وما لبثت أن اختفت ومعها زوجها والعجوز الضرير. الحمار والذخيرة كان الحمار هناك طوال النهار، فيما كان الجنود يهرولون مسرعين نحو جنوببغداد على الطريق الرئيسي رقم 8، مفجرين قطع المدفعية العراقية والأسلحة المضادة للطائرات، بالإضافة إلى الشاحنات المعبأة بالذخيرة لمنع التعزيزات العراقية من الوصول إلى العاصمة. كان الحمار مربوطاً وسط حقل قريب من مخزن للذخيرة ومحاطاً بذخائر وأسلحة متفجرة. رصاص وشظايا تطايرت في الهواء فيما هزت انفجارات شديدة الأرض. ظل جنود فرقة "شارلي كمباني" ينظرون إلى الحمار وهو يرعى لأكثر من ساعتين غير آبه بما يدور حوله، فيما جرت عملية تغيير جنازير احدى الدبابات. في تلك الأثناء بدأ الجنود يشعرون بالرفق نحو ذلك الحمار وتمنوا له أن يبقى على قيد الحياة وسط تلك الفوضى العارمة. وعندما حان موعد الرحيل سأل أحد الجنود الضابط خوسيه ميركادو 40 سنة وهو من أصل بورتوريكي: "أليس من المفروض أن نفجر ذلك المخزن للذخيرة قرب الحمار"؟ فأجاب ميركادو "لست أرغب بقتل ذلك الحمار. إنه لم يؤذ أحداً". مقامرة حواجز الطرق يأتي الانتحاريون من حيث لا ندري يومياً مسرعين نحو نقطة التفتيش، متجنبين عقبات السير والأسلاك الشائكة مستهدفين الدبابات مباشرة. عندما كانت طلقات التحذير من أعضاء فرقة "تشارلي كمباني" تفشل في وقف تقدم الانتحاريين كان الجنود يطلقون النار مباشرة على السيارة التي تقلهم. أحيانا كان من الصعب التمييز بين المدنيين والانتحاريين، لكن أوامر صدرت للجنود بألا يقامروا. في شوارع بغداد كان الانتحاريون كثيرين. عند نقطة تفتيش أقيمت قرب تقاطع طرق رئيسي إلى الغرب من دجلة ظهرت فجأة سيارة تجارية بيضاء اللون في داخلها أربعة أشخاص وتقدمت بسرعة كبيرة نحو إحدى الدبابات. صوّب الجنود نيرانهم عليها فانفجرت وتصاعدت منها ألسنة اللهب على بعد أمتار من الدبابة. في البداية خرج السائق من السيارة لكنه سرعان ما سقط ميتاً إلى جانب الطريق على بعد أقدام من السيارة. أما الرجال الثلاثة فجربوا الخروج من باب السائق، فغلبتهم ألسنة اللهب وألتحمت أجسادهم ببعضها بعضاً من شدة الحرارة، ولم يكن بالإمكان تمييزهم كبقايا بشر. كانو أشبه بهياكل عظمية متفحمة. هدية عندما وصل جنود فرقة "شارلي كمباني" إلى بغداد، كان مخزونهم من الماء وقطع الغيار لدباباتهم والسجائر شارف على الانتهاء. فحتى أولئك الذين لم يدخنوا أبداً في حياتهم بدأوا ينفثون الدخان بعد ذلك السبت الذي أطلق عليه اسم "سباق الرعد" نحو وسط مدينة بغداد، حيث جرح عدد من الجنود ونجا آخرون من الموت بإعجوبة جراء وابل الرصاص والقنابل اليدوية التي كانت تطلقها قاذفات خاصة. لم يستطع مسؤولو قوة المهمات فعل أي شيء في ما يتعلق بالماء وقطع الغيار والبريد الشخصي الذي انقطع عن الجنود منذ ثلاثة أسابيع. غير أن الميجر ويليام بارنيلو 44 عاماً من سيراكيوز في ولاية نيويورك عثر على تاجر محلي وافق على بيع السجائر للجنود. فاشترى منه 20 صندوقاً مقابل دولار واحد للعلبة. واتصل ويليام هوائياً برؤساء المجموعات وطلب منهم أن يجمعوا من جنودهم النقود ويحضروا لأخذ علب السجائر. عندما سمعت المكالمة باللاسلكي سحبت 90 دولاراً وقلت لميركادو "خذها واشتر لي قدر ما تستطيع منها". فعاد ومعه كمية من السجائر تكفي المجموعة لبضعة أيام. وقال الضابط ديفيد ريتشارد 38 عاماً من الصعب وصف كم ساعد ذلك على رفع معنويات الجنود. وأضاف "كانت تلك أفضل 90 دولاراً صرفتها في حياتي". عانوا بصمت عرفتهم فقط باسميهما الصغيرين شيبلي وشافر. كانا شابين دمثي الخلق ضمن فرقة "شارلي كمباني"، اعتادا زيارتنا لتبادل الحديث والاستفسار عن أخبار جديدة. كان شيبلي هادئاً، فيما كان شافر ثرثاراً. أما الآن فأعرف شيبلي وشافر كمنقذيّ وأصبحا بطلين في نظري، لأنها صدا بجسديهما رصاصات كانت ستصيبني حتما. لا أقدر على مقاومة التفكير في كيفية ركوبهما معي، شيبلي خلفي وشافر إلى جانبي، عندما جرحا خلال "سباق الرعد" في الخامس من نيسان ابريل. لم يبكيا أبداً، ولم يصرخا من الألم، ولم يلعنا نصيبيهما. ببساطة طلبا المساعدة وتحملا الألم برجولة لم أكن أتصورها. وعندما أسرعنا باتجاه المطار لنصل الى طائرة الهليكوبتر الطبية لإخلائهما، أسندت رأس شافر بيد وأمسكت يسراه باليد الأخرى. وعندما كانت تأتيه نوبات الألم كان يعص على يدي فقط وينظر إلى فوق وكأن عينيه تقول "أتألم". عندما وصلنا في النهاية إلى المطار هبطت الطائرات وسط عاصفة من الغبار، فوضعت يديّ حول فم شافر لأحميه من الغبار ووضعت فمي على وجهه وقلت له "أرجو أن نتعانق قريباً"، فابتسم وشد على يدي. هناك مشاهد أخرى من الحرب سأبقى أحملها معي غير هذه التي سطرتها بقلمي هذا الصباح. أكتبها على أمل أن أشفي المصابين بالأوهام. لكن الجنود الذين مروا سابقاً بمثل هذه التجربة قالوا لي أنها لا تشفى. أجل ستبقى هذه المشاهد معي ما حييت.