في حين أن إسقاط نظام صدام حسين قد تحقق، فإن ضبط الأوضاع في العراق والإمساك بزمام الأمور فيه لم يتم بعد بالشكل الذي يتناسب مع الخطاب الانتصاري الذي يستفحل في بعض الأوساط العقائدية في الولاياتالمتحدة، والذي يتحدث لتوّه عن نقل المعركة من الساحة العراقية إلى ساحات مجاورة أخرى. بل ان هذا الخطاب قد يكون بحدّ ذاته دليلاً على عدم استتباب الوضع في العراق وفق توقعات هذه الأوساط. كان البعض من المتتبعين للشأن العراقي في الأوساط الأميركية المحافظة، قبل غزو الكويت والحرب التي تلته، يبدي قدراً من النفور إزاء الطابع الشخصاني والتسلطي لنظام صدام حسين. ولكن هذا البعض كان على استعداد لغضّ النظر عن كافة الجوانب السلبية، مقابل أمل معلن بأن يقدم هذا النظام على خطوة مفيدة أخرى، من وجهة نظر أميركية، بعد أن ساهم من خلال حرب استنزافية مضنية في تنفيس فورة الثورة الإسلامية في إيران والحد من خطر تصديرها. والخطوة المعنية هنا، وفق الصيغة التي كانت تروجها آنذاك لوري ميلروي، إحدى أبرز الباحثات في الموضوع العراقي، وزملاء عديدون لها، هي محور "بغداد-القدس-واشنطن" الكفيل بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، بما يتفق والرؤيا المحافظة التي تدعو إلى الحد من "التنازلات" الممنوحة للجانب الفلسطيني. وبعد أن تخلف النظام العراقي عن أداء الدور المرجو منه، وبعد اعتناقه سلوكاً جعل منه خطراً على المصالح الأميركية في المنطقة، بدلاً من أن يكون أحد دعائمها، أصبح بإمكان هذه الأوساط المحافظة الإصغاء إلى أصوات أخرى، وتحديداً بعض الشخصيات العراقية المعارضة التي كانت تدعو إلى محاربة النظام وإسقاطه على أساس انتهاكه لحقوق الأفراد والجماعات ولما يشكله في طابعه الشمولي من ظاهرة مسيئة إلى المواطن العراقي وإلى الإنسانية جمعاء. ولا يمكن اختزال العلاقة التي تحققت خلال زهاء عقد ونيف بين هذه الشخصيات العراقية المعارضة والأوساط الأميركية المحافظة بالجانب الانتهازي الذي يقتصر على الالتقاء في المصالح، لا سيما أن هذه الشخصيات العراقية، من خلال استعمال الرصيد الفكري الغربي واللجوء المتكرر إلى المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الخطاب الثقافي الأميركي، قد تمكنت بالفعل من اختراق الفوقية التي تطبع الكثير من علاقات المحافظين الأميركيين بغير الأميركيين، لا سيما منهم من غير الغربيين. بل ثمة من يعترض اليوم، في أوساط المحافظين كما في أوساط خصومهم، بأن أعجاب هؤلاء المفرط ببعض الشخصيات المعارضة العراقية جعل منهم أداة طيّعة لهذه الشخصيات وصولاً إلى إهمال المعطيات المخالفة والتشبث بوجهات النظر التي طرحها المعارضون العراقيون. ولا بد، على هامش هذا الاعتراض، من مقارنته بوجهة النظر السائدة في العديد من الأوساط الإعلامية والسياسية العربية، والتي تصر على اعتبار المعارضة العراقية المتحالفة مع المحافظين الأميركيين خليقة لهم وتنكر عليها أصالتها. غير أنه، وبغضّ النظر عن الإعجاب الشخصي والتوافق الفكري، ثمة حجر أساس ثابت في التأييد المحافظ، لا سيما في أوساط العقائديين من المحافظين الجدد، للمعارضة العراقية المتوافقة معهم، ألا وهو الدور العراقي المرتقب في الشرق الأوسط في المرحلة التالية. والحديث تحديداً في هذه الأوساط هو عن إقامة "قوس سلام" أو "هلال سلام" منسجم مع المصالح الأميركية، يبتدئ بتركيا، ويمر بالعراق والأردن والأراضي الفلسطينية وصولاً إلى إسرائيل. والسمة الرئيسية المطلوبة لكل من مكونات هذا "القوس" هي التزامها النظام "الديموقراطي" مع الإشارة إلى هامش واضح من التسامح هنا إزاء هذا الالتزام، فلا يضر النظام السياسي التركي أن يكون القول الفصل فيه لهيئة عسكرية غير منتخبة، أو أن تقيّد الحكومة الأردنية النشاط السياسي المعادي لإسرائيل، أو طبعاً أن تستثني الديموقراطية الإسرائيلية في العديد من وجوهها زهاء الخمس أو يزيد من المواطنين، أي السكان العرب. وإقامة هذا القوس تشكل، من وجهة نظر الدعاة العقائديين إلى "تغيير العالم بأسره"، تبديلاً جوهرياً في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، إذ تنتفي الحاجة معه إلى الاعتماد على سائر دول المنطقة التي ما زالت تصنف في خانة الحلفاء، هي التي، بالإضافة إلى افتقارها الى الطابع الديموقراطي، تتحمل حكوماتها مسؤولية استفحال العداء للولايات المتحدة في أوساطها الشعبية. وبالإضافة إلى نقل مركز الثقل في منظومة الحلفاء الأميركية، فإن "قوس السلام" يستكمل تطويق إيران ويحقق عزلاً لسورية، ويسمح بالتالي بتحقيق نظرية الدومينو الجديدة التي يفترض أن تتهاوى في إطارها الأنظمة القمعية والاستبدادية في المنطقة، الواحد تلو الآخر، وصولاً إلى استكمال "التغيير" وتحقيقاً للنصر في "الحرب العالمية الرابعة" التي تحدث عنها مؤخراً جايمس وولسي، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق، وأحد أبرز العقائديين في التيار المحافظ الجديد. وتتصدر كل من سورية وإيران لائحة أعداء الولاياتالمتحدة في حرب وولسي هذه وهي الرابعة باعتبار أن الحرب الباردة كانت الثالثة. فالعراق، بعد إزاحة النظام البائد، يشكل الحلقة الأساسية في "قوس السلام" هذا، شرط أن يستتب الوضع السياسي فيه بما يتناسب وطموح العقائديين. إلا أن المعطيات الميدانية، التي تكشف عن قصور في الترقب، تثير لتوّها قدراً من القلق، بل الهلع حيناً وإنكار الواقع أحياناً، في أوساط العقائديين. فهؤلاء قد فوجئوا فعلاً بدرجة الانتظام والانضواء تحت لواء الحوزة العلمية في أوساط الشيعة العراقيين، وفوجئوا كذلك بمدى مجاهرة مختلف العراقيين العرب برفضهم للوجود الأميركي وتأكيدهم على الوحدة الوطنية العراقية بشكل ينفي الحاجة إلى ضابط خارجي يمنع الانحدار إلى الحرب الأهلية. وردة الفعل من بعض العقائديين كانت التقليل من هذه الظواهر والتشديد على أن "شيعة العراق ليسوا أصوليين" بل هم يرفضون "الأصولية الفارسية". أما الهلع، أو على الأقل التظاهر به، فيأتي إثر بعض الإشارات الصادرة من جهات سياسية إسلامية عراقية تلمح إلى أن تخلف الأميركيين عن الخروج قد يجابَه بمقاومة مشابهة لتلك التي خاضها "حزب الله" في الجنوب اللبناني. وفي حين أن المعلومات غير متوفرة حول علاقات فعلية بين "حزب الله" وأي تنظيم عراقي، فإن البعض يعتبر أن المسألة مسألة وقت وحسب، نظراً للتجانس الموضوعي بين الواقعين اللبناني والعراقي، ويشير في هذا الصدد إلى الجهد الإعلامي للمحطة الفضائية "المنار" التابعة لهذا الحزب، والتي تدعو إلى التعبئة ومقاومة الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق. والخطر، من وجهة نظر العقائديين في العاصمة الأميركية، ليس فقط في عدم تحقق "قوس السلام" الذي تبنى على أساسه الآمال، بل نشوء "محور صمود" والتسمية هنا طبعاً ليست لهم، بل هي مستوحاة وحسب من أدبيات السياسة العربية معادٍ للمصالح الأميركية والإسرائيلية، يبتدئ بلبنان حيث ينشط "حزب الله"، ويمر بسورية والعراق، وصولاً إلى إيران. لا بد إذاً، لمنع هذا النشوء، من تثبيت النظام السياسي المؤاتي للولايات المتحدة في العراق، ونقل المعركة إلى عمق المحور العتيد، مع التركيز على العنصر الأخطر فيه والقادر على إفشال الطموح الأميركي في العراق، أي "حزب الله". لكن، هل احتمال بروز هذا المحور فعلي، أم هل أن جهات أخرى، إسرائيلية وأميركية مؤيدة لها بالإضافة إلى لبنانيين في المهجر الأميركي من المتحالفين معها، تسعى هنا إلى تحقيق مصالحها في مواجهة الحكم في سورية، والحكومة اللبنانية المرتبطة به، و"حزب الله" الذي لا يشكل إزعاجاً لإسرائيل على حدودها الشمالية وحسب، بل هو نموذج ومحرض مستمر للمقاومة الفلسطينية؟ المفارقة هنا أن استهداف "حزب الله" بصفته الحلقة الأهم في "محور الصمود" المفترض قد ينقله بالفعل، في إطار ردّه على هذا الاستهداف، إلى موقع العداء الفاعل والناشط للولايات المتحدة. ومحاولة التركيز الإعلامي على دور مفترض لهذا الحزب في العراق قد تساهم في تأسيس القاسم المشترك بينه وبين المجموعات العراقية الناشئة المرشحة أن تتآلف معه. فلقد تمكن المحافظون الجدد، من حلفاء بعض الشخصيات العراقية المعارضة، بالفعل من إسقاط النظام الشمولي الاستبدادي في بغداد. والواقع أن التحالف الموضوعي بين المعارضة العراقية وهؤلاء المحافظين الجديد يجب أن يتوقف عند هذا الحد. فالمصلحة الوطنية العراقية تقتضي عدم إقحام العراق في "القوس" العتيد بما يستعدي بعض أهم دول الجوار، وبما يثير في الداخل العراقي الرغبة لدى البعض بدفع العراق إلى "المحور" المفترض. والمطلوب قطعاً ليس حياداً إزاء القضايا الإقليمية وانسحاباً منها، فللعراق أهمية بالغة وثقل لا يعوض في الاستقرار الأمني والاقتصادي للمنطقة وفي التوازن الذي يضمن الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. المطلوب وحسب تجنيب توريط العراق في تحالفات من وحي طموحات عقائديين يعيشون على ضفاف نهر البوتوماك في واشنطن، والتركيز على مصالح من يعيش على ضفاف الرافدين.