نشرت أخيراً احدى الصحف البريطانية تصريحاً لمسؤول في احدى شركات الترويج للهواتف النقالة، اعلن فيه عن استخدام شتى الوسائل الدعائية لجذب اكبر عدد من المستهلكين، حتى وإن كانت هذه الوسائل هي من المبالغة الأقرب إلى الكذب. فقد بات معروفاً أن غالبية الشباب تقبل من دون تردد على شراء الاجهزة الخلوية، خصوصاً تلك التي تتيح اكبر عدد من الامكانات الجديدة. هذا الاندفاع نفسه هو ما جعل معظم الشباب في بريطانيا يقعون فريسة الحملات الدعائية المبالغ فيها والمبهرة. فقد روجت إحدى الشركات لنوع جديد من الخلوي يتيح ارسال الرسائل بالصوت والصورة واستقبالها في اللحظة نفسها، ما جعل كثيراً من الشباب يقبلون على شرائه، وسرعان ما اكتشفوا أن الهواتف لا تتيح هذه الخدمة، إلا اذا كان كل من المرسل والمستقبل مقتنياً للجهاز نفسه. وعلى رغم ذلك لا يستطيع أحد ان يتكهن بإمكان العزوف يوماً عن شراء الخلويات. والارجح انها صارت رفيقاً اساسياً للأشخاص، حتى وان كانت طريقة حياتهم أو نوعية أعمالهم لا تستدعي وجودها! الخلوي وظروف المعيشة وفي إحصاء أخير عن عدد مستخدمي الهواتف النقالة في بريطانيا منذ بداية الخدمة هناك عام 1994 قدر عدد المستخدمين بأربعين مليون فرد، بينما بلغ عدد المستخدمين في العالم العربي 24 مليوناً حتى نهاية العام المنصرم. لقد بات الهوس باقتناء الهواتف النقالة أمراً مقبولاً حتى من الاشخاص الذين لا تدل هيئتهم إلى امكان اقتنائهم حتى ساعة يد، الأمر الذي يعكس تناقضاً اجتماعياً وقيمياً دعمته ثقافة الاستهلاك التي تستشري يوماً بعد يوم. ويكفي أن تتجول بنظرك في شوارع القاهرة لتلمح عدداً ضخماً من الهواتف النقالة في أيدي الجميع، وهو ترجمة فعلية للشعار الذي رفعته "موبينيل" الشركة الأولى التي بدأت الخدمة في مصر معلنة شعار "المحمول في يد الجميع" كمشروع لها، وقد اصبح واقعاً فعلياً. وربما ساعد على ذلك التنافس الكبير بين "موبينيل" التي بدأت قوية في شكل ملحوظ من حجم الإنفاق على حملاتها الدعائية، إلا أنها لم تهو بعد أمام المارد العالمي "فودافون" الذي سحب البساط من تحت قدميها. هذا التنافس المحفز للاستهلاك لم يكن المصريون بعيدين من الوقوع في شركه، بل كانوا على العكس هدفاً سهلاً وممكناً حتى وإن كان متوسط دخل الفرد شهرياً لا يتجاوز المئة دولار - قبل قوانين العملة الجديدة -. فقد اتاحت عروض الشراء الفوري والتقسيط امكان اقتناء الهاتف النقال للجميع بداية من سائق التاكسي الذي يفتخر بوضع النقال امام الركاب كدليل الى المستوى الاجتماعي المرتفع، ومروراً بالموظفين البسطاء الذين قد ينتظرون فرصة عمل اضافية لكونهم متاحين دائماً عبر الهاتف، وحتى الخادمات اللواتي اضحى النقال وسيلة اتصال شخصية مباشرة ومستمرة لهن. لقد أتاحت خطط التسويق والبيع في مصر ميزة المساواة بين الفقراء والأغنياء كل بطريقته، وانتقل الهاتف النقال من وسيلة للرفاهية والاستعراض الاجتماعي الى وسيلة حياتيه قد تمنح الفقراء فرصاً متجددة. ولدى هذه الفئة من الاشخاص في مصر يقتصر استخدام النقال على شيئين لا ثالث لهما، الأول هو "الدقات المتفق عليها" ما يعرف ب missed calls. فدقة واحدة تعني "نعم"، واثنتان تعنيان لا، أما الدقات المتتالية فتعني ان هناك امراً مهماً ويرجى الاتصال. أما الاستخدام الثاني فهو الرسائل المكتوبة التي لا تتجاوز كلفتها اكثر من خمسين قرشاً وهي تكثر عادة في مواسم الأعياد والمناسبات. استمرار الولع بالخلوي وربما ستتيح الخدمات الجديدة التي ستبدأها "فودافون" في مصر في نيسان ابريل المقبل استخدام أكبر وأسهل واكثر مناسبة للبسطاء من المصريين. وتشمل هذه الخدمات امكان ارسال الرسائل واستقبالها بالصوت والصورة، وخدمة النغمات المجسمة أو "البوليفونيك" وتتضمن معزوفات موسيقية موزعة توزيعاً كاملاً على الآلات الموسيقية، ثم خدمة الألعاب ثلاثية الأبعاد التي تتيح اللعب منفرداً أو بمشاركة آخرين في ألعاب جماعية، وخدمة الانترنت التي تتيح ارسال الرسائل الالكترونية واستقبالها بسعة كبيرة ومن دون التقيد بعدد معين من الأسطر، فضلاً عن السرعة الفائقة التي تمكن المستخدم من تصفح أخبار العالم مباشرة عبر موقع "فودافون" على الانترنت. هذه الخدمات الجديدة هي ما اطلقت عليه الشركة "فودافون لايف"، وقد بدأت تشغيلها فعلاً في تسع دول في العالم قبل مصر. ويبقى التطور الهائل في خدمات الهواتف النقالة اختباراً متجدداً لمدى امكان عزل الانسان اكثر وأكثر عن حياته المعتادة مع الآخرين، لتتمحور فقط على وسائل الاتصال التي قد تحول بينه وبين مهارات التواصل الطبيعي وحيويته مع الآخرين، وتجعل الانسان يوماً بعد يوم حبيس ذاته بمساعدة التقنية.