في طيات كتابه الصادر اخيراً عن مرحلة ما قبل الثورة، فوجئت بالأستاذ محمد حسنين هيكل يخوض من دون دليل، في سمعة بعض من اشرف الناس في ذلك العهد، ومنهم الزعيم مصطفى النحاس رحمه الله، والملكة فريدة رحمها الله، وغيرهما. فيكتب ما يبعث على النفور، وتأباه الأخلاق والتقاليد، وستعاقب عليه القوانين، ويتعارض مع ابسط مبادئ الكتابة التاريخية. فعلى سبيل المثال ذكر الكاتب، بالنص، ما يأتي: "كانت للنحاس باشا حياة خاصة حرص على صيانتها، لكن تعرض عام 1932 لواقعة اخرجت حياته الخاصة رغماً عنه عن الصون الذي حرص عليه، ففي تلك السنة التقى النحاس باشا بصحافية ايطالية يظهر انها كانت على شيء من الجمال اسمها فيرا، ولم اجد في السجلات اسمها كاملاً، وطبقاً للروايات وهي موثقة ان لقاءات النحاس باشا بالصحافية الإيطالية تكررت، وفي بعض الشهادات ان فيرا كانت مدسوسة على النحاس باشا بتدبير من اسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وكان قصده الإيقاع بزعيم الوفد بمرافقة من الملك فؤاد، وكان النحاس باشا يقابل فيرا في عوامته على النيل، ورتب صدقي باشا لمداهمة يقوم بها البوليس للعوامة ومفاجأة من فيها بما لا يتوقعون. كان ذلك بعد ظهر يوم احد، وتصادف وجود احمد ماهر باشا في سباق الخيل، فتقابل مع عبود باشا فإذا هو يفهم منه ان رئيس الوفد على وشك ان يقع في الفخ، وأدرك احمد ماهر خطورة الموقف وهرع مسرعاً الى موقع العوامة وكان يعرفه، والنتيجة انه عندما وصل البوليس كان رئيس الوفد جالساً في صالون العوامة يتحدث مع واحد من اكبر معاونيه في قيادة الوفد وهو احمد ماهر باشا". لو عرضت هذه الفقرة - التي تشبه افلام الأربعينات - على باحث مبتدئ في التاريخ، ناهيك عن متخصص، لجزم لك بكل ثقة ان تلك الرواية تساوي صفراً من الناحية التاريخية. فمن ناحية السند لم يذكر الكاتب ماهية تلك المصادر الموثقة التي ادعاها، بل لم يذكر واحداً منها. وإذا اضفنا الى ذلك العداوة التقليدية بين الوفد والثورة، وتحامل الكاتب المعروف على عهد ما قبل الثورة، مع الإصرار على عدم ذكر المصادر، جعل هذا تلك الرواية تساوي صفراً، وسالبة القيمة، تطرح من رصيد كاتبها وصدقيته. اما من ناحية متن القصة ومعقوليتها، فأحد المذكورين في القصة هو احمد ماهر باشا، وهو اصبح خصماً لدوداً للنحاس باشا، واشتدت العداوة السياسية بينهما. فهل لو كانت تلك القصة فيها ذرة من الحقيقة، أكان يسكت عنها ولا يفضحه بها، وبأنه هو الذي تستر عليه؟ هل لو كانت القصة صحيحة، أكان النحاس يجرؤ على شن الهجمات السياسية العنيفة ضد من احسن إليه وأنقذه؟ ولو كانت تلك القصة حقيقية وسكت عنها احمد ماهر باشا، أكان يسكت عنها النقراشي؟ ويسكت عنها مكرم عبيد باشا؟ وكذلك سائر الأعداء السياسيين للرجل؟ ألم يعرف هؤلاء هذه القصة وعرفها هيكل؟ ومن الناحية الدينية فالقصة خوض في الأعراض بغير بينة، يعاقب صاحبها في الدنيا وتسقط شهادته، او ان يأتي بالشهداء على ما يدعيه، ]لوْلا جاءُوا عَلَيهِ بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الكاذِبون[. هذا حكم الله عليهم. وأسوق للقارئ القصة التالية من دون تعليق، ليعرف الفرق بين رجال زمان ورجال آخر الزمان. والقصة يرويها المفكر الإسلامي الراحل خالد محمد خالد في كتابه قصتي مع الحياة ص 157، وكان شاهداً على وقائعها بنفسه. يقول: "قدم وفد من القليوبية لزيارة النقراشي باشا لتأييده في صراعه السياسي ضد النحاس باشا، وقام احدهم ينشد شعراً، ومضى ينشد، والنقراشي باشا مسرور بشعره، ومع كل مقطع يصفق له بحرارة، ثم راح يوجه من خلال قصيدته نقداً لاذعاً لسياسة النحاس باشا، والنقراشي يحييه بابتسامة شاكرة وتصفيق مثابر، حتى وصل الشاعر التعس الى بيت يقول مطلعه "لكن زينب"، فجأة انقض النقراشي صارخاً فيه "اخرس يا ابن الكلب"، وكادت المفاجأة تصعق الجميع والشاعر قبلهم، ونظرت إلى وجه النقراشي فإذا هو في لون الليمونة! وصمت الجميع، وأنفاس النقراشي تتدافع، وبعد حين استرد هدوءه، ووجه حديثه الى الشاعر: "ليه يا ابني كده؟ إنت كنت ماشي كويس - شعر رصين وألفاظ عفيفة، ايه اللي أدخل زينب في الموضوع"؟ زينب هي السيدة زينب الوكيل قرينة النحاس باشا واعتذر الوفد واعتذر الشاعر، وعند انتهاء المجلس نادى النقراشي على الشاعر، وابتسم في وجهه وقال: "بلاش زينب يا مولانا، هذه حرمات، هذه اعراض!!" ولا تعليق. القاهرة - يحيى حسن عمر [email protected]