اشكالية العلاقة بين المثقف العربي ونظام صدام حسين، في هذا الوقت العسير، تصل الى حد المفارقة الحادة. فالمثقف العربي الحر لا يمكن ان ينظر الى نظام صدام إلا على انه نظام مستبد غاشم، تجاوز في ظلمه واستبداده الأنظمة العربية المشابهة، فضلاً عن معظم الأنظمة الشمولية في العالم. وهو يتمنى بالطبع ان ينهار هذا النظام البشع بعد نيف وثلاثين عاماً من الظلم والقهر والحروب الكارثية التي لم تجر على شعب العراق إلا الخراب والموت والفقر، وعلى جيرانه الاّ الويلات. لكن المثقف العربي يقف متردداً طويلاً امام حقيقة ان هذا النظام لن يكون سقوطه على يد أحرار شعبه، بل سيسقط على يد قوة غاشمة، وبالآلة الحربية الاميركية الهائلة، ما يشكل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية تمثل ذروة غطرسة القوة. سابقة في علاقة القوة العظمى الوحيدة في العالم بصورة خاصة، بدول معينة من العالم الثالث تحديداً، تعتبرها هذه القوة العظمى معادية. وسابقة من حيث عدم اكتراث هذه القوة العظمى بالرأي العام العالمي، أو بالمنظمة الدولية، أو حتى بأقرب حلفائها. يتردد المثقف العربي كثيراً، على رغم توقه الشديد الى رؤية نظام عربي مستبد يسقط، في قبول ان يتم التغيير من على ظهر دبابة اميركية. ذلك أنه يؤمن اخلاقياً بأن الغاية لا تبرر الوسيلة، وبأن الأخيرة ينبغي ان تكون من جنس الغاية. كما يؤمن بأن الأنظمة التي تم تغييرها في الماضي على يد المستعمر لم تجلب إلا الويلات. وقد شهدنا في سورية سلسلة من الأنظمة الديكتاتورية الكاريكاتورية التي وصلت الى الحكم في اطار "الصراع على سورية" في فترة الخمسينات وبداية الستينات. من المؤسف ان كثيراً من المثقفين العراقيين، وربما أيدهم بعض المثقفين العرب، سقطوا في هذا الفخ: ليذهب صدام الى الجحيم ولو على يد الشيطان! قد نلتمس لهم بعض العذر بسبب شعورهم العميق بالقهر واليأس... بسبب تشردهم في الأصقاع، وتشرد أو سجن أو قتل أقرباء وأصدقاء لهم. لكن أميركا لن تأتي بالديموقراطية والحرية على صينية من ذهب. انها ستأتي لهم بالهيمنة على مقدرات بلادهم، وبنظام "دمية" شبيه بأنظمة بعض جمهوريات الموز، أو مناطق اخرى من العالم، وما زاهدي وبينوشيت وبنغوديم إلا مجرد أمثلة. قد يقول بعضهم، من منطق اليأس القاتل: حسناً لقد دمر الحلفاء ألمانيا في الحرب الكونية الثانية، وكذلك دمرت اميركا اليابان بأبشع سلاح عرفته البشرية... وها هما قد نهضتا! ولكن، من قال ان الولاياتالمتحدة تريد ان تصنع من العراق يابان اخرى؟! والمفارقة الثانية انه في الوقت الذي يقف المثقف العربي الحر موقفاً اخلاقياً، نجد ان معظم الأنظمة العربية لا تزال تفتقر الى الوازع الأخلاقي الذي يمنعها من الاستمرار في احتكار السلطة، وفي رفض اعطاء المواطن أبسط حقوقه المشروعة في الحرية والكرامة وممارسة الديموقراطية الحقة. والأعجب من ذلك انها تقدم للدولة، التي تصفها اعلامياً بشتى النعوت السيئة اميركا، جميع "التسهيلات" الممكنة، سراً وعلانية، والتي تساعدها على اسقاط نظام عربي! ان موقفها هو موقف القوي - الجبان، الذي يرضخ لمن هو أقوى منه، ويذلّ من هو أضعف منه. وما كان صدام - على سبيل المثال - ليطلق ما ينوف على مئة ألف سجين لولا شغف القوة، أو استرضاء القوة وان كانت الذريعة المضحكة - المبكية اعادة انتخابه بنسبة 100 في المئة. هل يعقل ان يكون في بلد من بلدان العالم في مثل تعداد سكان العراق هذا العدد الهائل من المساجين!؟ والأفظع من ذلك، كما يقول العارفون بخفايا الأمور في العراق، ان عدد المساجين اكبر من ذلك، وان معظم المساجين السياسيين لا يزال قيد الأسر. والمفارقة الثالثة ان بضع عشرات أو مئات من المثقفين العرب، نشروا مذكرة مرفوعة الى الرئيس صدام يتمنون عليه فيها ان يتنحى عن الحكم من أجل سلامة العراق وشعب العراق! هل كانت مذكرة أولئك المثقفين نوعاً من "تبرئة الذمة"، أم اعلاناً موقتاً؟! انهم يعلمون حق العلم - أو هكذا يفترض - ان صدام لا يمكن ان يتنحى عن السلطة وإن فني نصف شعب العراق. ان أبسط دراسة لسيكولوجية صدام تدل بوضوح الى انه ينتمي الى صنف الطغاة المصابين بجنون العظمة من نوع هتلر، الذي لم ينتحر إلا بعد ان هزمت المانيا هزيمة ساحقة ودكّت برلين ومعظم مدن ألمانيا حجراً على حجر. وعندما سأل صحافي اميركي الرئيس صدام في مقابلة متلفزة مسجلة، عن رأيه في ما يتردد من دعوات حول التنحي، أجابه صدام بغطرسته المعهودة: الذي يطرحون مثل هذه الفكرة يهينون شعب العراق وإرادة شعب العراق. كيف يمكن ان أتخلى عن شعب انتخبني بنسبة 100 في المئة؟! هل صدق الطاغية كذب اجهزة الاعلام؟! أم انه جنون العظمة يعمي ويصم؟! قلائل جداً سيحزنون على ذهاب صدام ونظامه. لكن الكثيرين جداً ممن سيحزنون على العراق وشعب العراق، سيتألمون من عجز أنظمتنا، بل من عجز العالم عن مواجهة القطب العالمي الأوحد. * كاتب سوري.