كان أرسطوطاليس تلميذاً لأفلاطون طوال سنوات من حياته، لكنه لم يتبعه في افكاره بالطبع، بل كان في معظم ما كتب نقيضاً له، او مصححاً لتلك الأفكار، الى درجة ان خطين فلسفيين متعارضين الى حد كبير، سارا على طول تاريخ الفلسفة ينتمي واحدهما الى الأول وثانيهما الى الآخر، ليصلا، مثلاً، الى هيغل وكانط، ويذوبا في الفلسفات الحديثة. ونعرف، هنا، ان رسام عصر النهضة الكبير رافائيل جمع ارسطو وأفلاطون في نقطة المركز من لوحته الشهيرة "مدرسة اثينا" التي حضر فيها فيلسوفنا العربي ابن رشد، فيمن حضر من كبار مفكري التاريخ وعلمائه. لكن رافائيل جمع الفيلسوفين الإغريقيين الكبيرين، ليفرق بينهما - فكرياً - إذ حدد واحدهما افلاطون بكونه فيلسوفاً إلهياً وفيلسوف المثل، فيما عرّف الثاني ارسطو بصفته فيلسوف العقلانية وخصوصاً الأخلاق ويمكن ان نقول: الأخلاق الوضعية استناداً، مثلاً، الى كتابه "الأخلاق الى نيقوماخوس". والحال انه اذا كان رافائيل جمع أرسطو وأفلاطون في لوحة واحدة نجد جزءاً منها الى جانب هذا الكلام فإن فيلسوفاً مسلماً هو الفارابي، جمعهما، ليس في اي صورة وليس ليفرق بينهما ويركز على تمايزات كل واحد منهما، بل ليوحد آراءهما بعضها في بعض. وكان ذلك في كتابه، التالي في الشهرة ل"آراء اهل المدينة الفاضلة" ونعني به "كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين" الصادر في طبعات وتحقيقات عدة طوال الأعوام المئة الفائتة، وكان الفارابي وضعه اواسط القرن الميلادي العاشر، انطلاقاً من دهشة ابداها، في ذلك الحين، وفي خضم قراءته لكتب الفلسفة اليونانية واشتغاله عليها، من ان اهل زمانه "يقولون ان بين الحكيمين اختلافاً كبيراً". والفارابي سيقول لنا في "كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين" ان لا اختلاف جوهرياً بينهما، وسيبرهن على هذا بالتفصيل المقنع. لكن المشكلة الأساسية، مع هذا الكتاب، تكمن في ان الفارابي استخدم لعرض آراء أرسطو، كتاباً منحولاً لأرسطو، هو في الحقيقة جزء من "تاسوعات" افلوطين كانت ترجمت الى العربية على اعتقاد مترجميها بأنها كتاب لأرسطو. وجوهر المشكلة هنا يكمن في ان افلوطين، صاحب "التاسوعات" كان من اصحاب النزعة الأفلاطونية لا الأرسطية. ومن هنا سيكون من المنطقي القول ان الفارابي انما قارن - جزئياً على الأقل - بين افلاطون وأفلوطين "الأفلاطوني" للبرهنة على وحدة الفكر بين افلاطون وأرسطو. ومن هنا اذا كان عدد كبير من المفكرين والباحثين، المعاصرين بخاصة والذين اطلعوا على حقيقة الأمر ظلوا على اهتمامهم بالكتاب، فإن هذا لم يكن نابعاً لديهم من اقتناع بأنه محق في موضوعه ومقارنته، بل لاعتبارهم، كما يقول واحدهم وهو الدكتور ألبير نصري نادر، الذي قام بتحقيق معاصر للكتاب، إن "لهذا الكتاب قيمة تاريخية كبرى، اذ انه يوضح لنا مدى اطلاع الفارابي على الترجمات العربية لبعض كتب الفلسفة اليونانية، لا سيما كتب افلاطون وأرسطو، ولو انه اطلع ايضاً على بعض "تاسوعات" افلوطين من دون ان يعلم انها له، كما ان هذا الكتاب يبين لنا كيف استخدم الفارابي هذه الترجمات في التوفيق بين رأيي الحكيمين". والحقيقة ان هذا التوفيق لم يكن في زمنه، لهواً فكرياً او مسألة اكاديمية خالصة، بل كان - وهذا هو المهم في الموضوع - امارة عن صراع فكري وديني عنيد كان قائماً، وفحواه ضرورة العقل او الفلسفة. وهي المعركة الفكرية نفسها التي سيخوضها الإمام ابو حامد الغزالي، وتحديداً ضد الفارابي وبعده ابن سينا، في كتابه الأشهر "تهافت الفلاسفة" والذي سيرد عليه لاحقاً ابن رشد في "تهافت التهافت". والمعركة كلها كانت اذاً قائمة حول العقل الذي كان يربط بفلسفة ارسطو العقلانية. ومن هنا كان يهم الفلاسفة المسلمون ان يبينوا ان الفعل لا يتنافى مع الدين. ولئن اتى ابن رشد لاحقاً ليفصل المقال "في ما بين الفلسفة والشريعة من القتال"، فإن الفارابي سبقه ليجعل من تقريبه بين افلاطون "الإلهي" وأرسطو "العقلاني" سلاحاً يحمي الفلسفة. يدخل الفارابي موضوعه قائلاً: "... فإني لما رأيت اكثر اهل زماننا خاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا ان بين الحكيمين المقدمين المبرزين خلافاً في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي امر النفس والعقل، وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية، أردت في مقالتي هذه ان اشرع في الجمع بين رأييهما والإبانة عما يدل عليه فحوى قوليهما، ليظهر الاتفاق بين ما كانا يعتقدانه ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما ... لأن ذلك من اهم ما يقصد بيانه، وأنفع ما يراد شرحه وإيضاحه". وإذ يقول الفارابي معرفاً الفلسفة هنا بأن "حدها وماهيتها العلم بالموجودات بما هي موجودة، يفصّل ان المسائل التي يبحثها "وهي المسائل التي يقال ان افلاطون وأرسطو اختلفا فيها" هي: أ- حدوث العالم وقدمه، ب - إثبات المبدع الأول ووجود الأسباب عنه، ج- امر النفس والعقل، د- المجازاة على الأفعال، ه - كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية. وقسم الفارابي مسائل البحث في شتى هذه الأمور على ثلاث عشرة فقرة، وهو بحث يقوده في نهاية الأمر الى ان يقول "... فمن تأمل ما ذكرانه من اقاويل هذين الحكيمين، ثم لم يعرج على العناد والصراع، اغناه ذلك عن متابعة الظنون الفاسدة، والأوهام المدخولة، واكتساب الوزر، بما ينسب الى هؤلاء الأفاضل مما هم منه براء وعنه بمعزل". والحال ان هذا الكتاب، على رغم تكلفه الظاهر - كما يؤكد احد محققيه ألبير نصري نادر متبعاً في ذلك نظرة تحليلية استندت الى تهافت المقارنة او استنادها اصلاً الى كتاب افلوطين المنحول، كان ذا مكانة كبيرة، لأنه اكثر مما اعتبر كتاباً معرفياً او تاريخياً، اعتبر نصاً يدافع عن العقل ليقول انه لا يتعارض مع الشريعة، وكان هذا هو دأب كبار الفلاسفة والحكماء عهد ذاك. ومن هنا يتسم الكتاب، كما حال كل كتاب "ايديولوجي" من هذا النوع، بكثير من التأكيدات السطحية والأفكار المسبقة الساذجة، حيث ان الفارابي يعتمد فيه احياناً - بحسب تعبير نادر - على "التأويل للألفاظ والمعاني اكثر من اعتماده على روح المذهب عند كليهما"، ثم انه "ضُلل حين اعتمد على كتاب منحول منسوب خطأ الى أرسطو". صحيح انه يمكن القول هنا ان الفارابي الذي اعتمد، في مقارنته، على اربعة كتب لأفلاطون، منها طيماوس و"السياسة" الذي هو اصلاً كتاب "الجمهورية"، اعتمد على كتب عدة لأرسطو كانت معروفة ومترجمة في زمنه، لكن المشكلة انه ضرب الصفح عن معظم تلك الكتب، وعن كل ما تبديه من تمايز جذري عن فكر افلاطون، ليركز على الاقتباس من "اثولوجيا" المنحول عن "تاسوعات" افلوطين! والفارابي، ابو النصر محمد بن طرخان بن اوزلغ، والملقب عند العرب ب"المعلم الثاني" على اعتبار ان ارسطو هو "المعلم الأول" ولد العام 870م 259ه في مدينة فاراب بإقليم خراسان التركي لأب فارسي الأصل وأم تركية. وهو منذ صباه درس لغات عدة الى جانب العربية الفارسية والكردية والتركية، وعند شبابه جاء بغداد التي استوطنها معظم سنوات حياته، وقرأ فيها امهات الكتب الفلسفية، وأسهم في حياتها الثقافية ودرس على بشر بن متى، قبل ان ينتقل الى سورية ويلتحق ببطانة سيف الدولة الحمداني في حلب. كان الفارابي في صحبة سيف الدولة خلال حملة عسكرية له حين مات العام 950م. 339ه. عن ثمانين سنة. فوضع طوال سنوات نشاطه الفكري الكثير من الكتب والرسائل في شتى انواع المعرفة، وكان معظمها شروحاً على ارسطو وجالينوس وأفلاطون. ومن كتب الفارابي الخاصة "آراء اهل المدينة الفاضلة" و"كتاب تحصيل السعادة" و"السياسات المدنية" و"احصاء العلوم" و"كتاب الموسيقى الكبير" وغيرها...