قبل ذلك بعام كانت ليني ريفنشتال صورت فيلماً وثائقياً حول "مؤتمر الانتصار"، أي المؤتمر الذي كان يشكل، حتى ذلك الحين، أكبر تجمع شعبي في المانيا بعد الحرب العالمية الأولى، والذي سجل انتصار حزب هتلر النازي في الانتخابات التي سيقيض لها أن تدخل المانيا كلها ثم العالم من بعدها في أتون الحرب العالمية الثانية. غير أن الانتصار الانتخابي شيء وتكريسه في السيطرة التامة على السلطة شيء آخر. وأن يكون أدولف هتلر زعيم حزب قاد حزبه ذاك الى انتصاره التاريخي شيء، وأن يكون لاحقاً زعيم الشعب الملهم من دون منازع شيء آخر تماماً. ومن هنا كانت الفكرة بديهية، نظراً الى نجاح الفيلم الأول في تحقيق غاياته، في الانصراف الى تحقيق فيلم ثانٍ عن مؤتمر نورمبورغ الذي عقده النازيون في تلك المدينة الألمانية ليعلنوا هذه المرة، ليس انتصارهم الانتخابي وحسب، بل سيطرتهم التامة على المانيا واستعدادهم للهيمنة على مقدرات أوروبا كلها. وهكذا، من رحم تلك "الفكرة البديهية" ولد فيلم "انتصار الإرادة" الذي حققته السينمائية الألمانية ليني ريفنشتال، التي كان الفوهرر نفسه قد أعجب بها وبفنها منذ حققت فيلمها الأول، كمخرجة "الضوء الأزرق" 1932 فكرست منذ ذلك الحين، مخرجة الحزب النازي الرسمية، مع أنها، وكما ستؤكد مراراً وتكراراً، ولا تزال تؤكد حتى اليوم إذ تجاوزت المئة من عمرها، لم تكن أبداً عضواً في ذلك الحزب. والحال أن هذا الفيلم، بدلاً من أن يدفن مع النازيين في قبورهم، وبدلاً من أن يلعن، لا يزال حاضراً حتى يومنا هذا، ويعتبر واحداً من أكبر كلاسيكيات السينما. ومع هذا ليس الفيلم، في أساسه، سوى فيلم دعائي بحت للفكر النازي، ولتأليه الجسد والعظمة الجسمانية - على حساب العقل طبعاً - ولمشاركة الجماهير - كأعداد تركّب تشكيلات هندسية - في الاحتفال بالحزب وزعيمه. انه فيلم دعائي بالتأكيد. ولكن، له قيمته الفنية أيضاً بالتأكيد، ذلك أن ليني ريفنشتال عرفت فيه كيف تستخدم كل امكانات التصوير والهندسة لتحقيق عمل يمجد الشكل والجموع وعظمة المانيا الجرمانية. والمخرجة، التي ستتوقف تماماً عن تحقيق أفلام سينمائية - بالمعنى المهني للكلمة - منذ سقوط هتلر والمانيا النازية - لن تكف لاحقاً عن الحديث بكل حنين وفخر عن ذلك الفيلم الذي قادت،وهي المرأة الفاتنة في ذلك الحين، مئات الرجال من الذين عملوا عليه. ولسوف تقول ليني دائماً ان جزءاً كبيراً من ترتيبات المؤتمر نفسه ومعظم الاحتفالات والتظاهرات التي رافقته انما اقيمت من أجل الفيلم. والحال أن القيادة النازية، كما كانت حال القيادة السوفياتية من قبلها، أدركت باكراً قيمة فن الصورة المتحركة في تعبئة الجماهير، ومن هنا حين قررت أن يصار الى تخليد مؤتمر نورمبورغ في فيلم تسجيلي كبير، رصدت له امكانات كبيرة، ولم تتردد لحظة عن دعوة ليني ريفنشتال لتكون مخرجة الفيلم وسيدته من دون منازع. وهكذا كان في وسع ليني ريفنشتال أن تستخدم في تصوير فيلمها كل الوسائل التقنية والقوى البشرية التي وضعت في تصرفها، وفي مقدمها ثلاثون كاميرا، وستة عشر مصوراً من أبرع فناني ذلك العصر، وعشرات التقنيين وعشرات ألوف الأمتار من الشرائط الخام، اضافة الى مصعد رُكّب خصيصاً لكي يتمكن من الصعود بالكاميرا الى ارتفاع 38 متراً لكي يلتقط منظر الجموع من أعلى. ولكن أيضاً لكي تكون الكاميرا المنصوبة عليه، أول من تقع "عينه" على تلك الطائرة ذات المحركين التي تبدأ بها اللقطة الأولى للفيلم. وتلك الطائرة كانت هي التي حملت أدولف هتلر من أعالي السماوات، من بين الغيوم التي تبدو، أولاً، مالئة الفضاء ثم تخترقها الطائرة كأنها عربة آتية من اللامكان. والحال أن ظهور الطائرة على ذلك النحو في الفضاء وبين بياض الغيوم المهيب، ظلت صورة منطبعة في أذهان الألمان، مرعبة للعالم كله، سنوات طويلة بعد ذلك. والطائرة ما ان تظهر ذلك الظهور "العجائبي" الذي يعزى، بالطبع، الى سحر السينما ومعجزتها الصغيرة، حتى تحط في مطار نورمبورغ. وبعد ثوانٍ من الترقب، يخرج أدولف هتلر من باب الطائرة مبتسماً راضياً. ووسط تصفيق الحضور الصاخب المدهش، يتجه الرجل ذو الشارب المربع - والذي قد يبدو لنا اليوم مضحكاً بقدر ما هو مضحك شارب تشارلي شابلن -، نحو الملعب الفسيح الذي تدور فيه فاعليات المؤتمر النازي. ولكن المراقب الذي كان يتوقع أن يجابهه مؤتمر حقيقي تجرى فيه مداولات ومساجلات، سيفاجأ بأن لا مؤتمر هناك ولا من يحزنون. كل ما في الأمر أن ثمة استعراضات ومارشات لا تنتهي، وصفوفاً من الأجساد والوجوه غير المعبرة التي تتوازى وتتواكب مع آلات قد لا تفوقها جموداً وصلابة. اضافة الى عشرات الألوف من أبناء الشعب المصفقين الصارخين الملوحين بالأعلام ذات الصليب المعقوف المتلهفين لمشاهدة ولو قبس يسير من ملامح بطلهم الأوحد. كل هذا صورته كاميرا ليني ريفنشتال بحذق وبراعة، كما صورت في الوقت نفسه، أولئك القادة النازيين الذين راحوا يتتالون على منبر الخطابة ملهبين حماسة الجمهور مثيرين صياحه واعجابه: رودولف هس، ثم أوتو دتريك فالمهندس تودت ثم والتر داري وجوليوس ستريشر وروبرت لي، وأخيراً - قبل ظهور هتلر نفسه في موقع الخطابة - غوبلز الذي بدا متقناً للعبة أكثر من كل الذين سبقوه، إذ أنه بكلماته الصاخبة جعل الجمهور الصاخب بدوره يبدو في أقصى درجات اللهيب مهيئاً تماماً لاستقبال الزعيم وتلقف كلماته ونبضاته وحركاته. وإذ أصبحت حال الجمهور على تلك الدرجة من الحرارة، ظهر هتلر أخيراً، مبتسماً محبباً وبدأ دفق الكلام يخرج من فمه، فيما راحت كاميرا المخرجة الحاذقة تقرأ ردود الفعل على وجوه الحضور. انها لحظة لا توصف، وحدها الكاميرا تقدر على نقلها وتأبيدها. والمخرجة، في خضم ذلك كله، وقبل أن تصور كثافة الأعلام واليافطات ودموع العذارى متشوقات للدنو من الأب/ البطل/ العشيق في اندفاعة جنسية لا شك فيها، عرفت كيف تنتقل بفيلمها كله لتصور العمال في المصانع حول آلاتهم والفتيان في تجمعاتهم الجزلة بوجوههم النضرة، والجنود في اصطفافهم المريع... ولكن كاميرا المخرجة عرفت أيضاً، في لحظات من الفيلم، كيف تخترق أماكن راحة كبار الضباط والمسؤولين فتصورهم في لهوهم نصف عراة، وكأنهم، في حميميتهم تلك، لا يتورعون عن السخرية من كل ما يحدث. هنا في مثل هذه اللقطات لا يعود الشخص جزءاً من الديكور أو هندسة المدينة أو الاحتفال، بل جزء من نظرة كان القصد منها ان تصوره انسانيته فإذا بها تكشف بربريته. أو هذا على الأقل ما رآه بعض المؤرخين. ذلك ان "انتصار الإرادة" الذي يبلغ زمن عرضه ساعتين، واشتغلت عليه ليني ريفنشتال عامين قبل أن يعرض للمرة الأولى أواخر العام 1935، جوبه دائماً بنوعين من ردود الفعل، فكان هناك من اعتبره، على رغم كل شيء "معلماً من معالم فن السينما"، و"درساً في الدعاية السياسية في أبهى تجلياتها" كما كان ثمة من اعتبره "معنى للبريرية في أقصى تجلياتها وأقسى وجوهها"، وذلك بحسب وجهة النظر. أما المخرجة فاكتفت دائماً بأن تقول: "كل ما فعلته كان انني صورت ما كان العالم كله، في ذلك الحين، شاهداً عليه. ففي ذلك الحين كان الناس ما زالوا يؤمنون بالجمال، وأنا صورت الجمال. أما الأمور السيئة فلم تكن قد أتت بعد. ترى هل كان لنا أن نتوقع مجيئها منذ ذلك الحين؟". والحقيقة ان الفيلم نفسه، بروحه بصوره، بالتلاحم التام فيه بين زعيم ديماغوجي وشعب مفتون خانع، كان يحمل الجواب. وليني ريفنشتال نفسها، عادت وصورت في العام 1936 فيلماً مماثلاً، لا يقل قوة عن "انتصار الإرادة" وهو "آلهة الملعب" الذي استخدمت فيه امكانات مماثلة لتصوير الألعاب الأولمبية في برلين في ذلك العام. وليني، بعد زوال النازية من المانيا، توجهت الى الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي الذي برعت فيه دائماً واليها الفضل يعود في انتشار تلك الصور الرائعة عن بلاد النوبة، بين مصر والسودان، وجمال أجساد بناتها كما اهتمت بتصوير أعماق البحار، حيث أنها لسنوات قليلة كانت لا تزال قادرة على الغوص. وهي ولدت في برلين العام 1902، وبدأت حياتها ممثلة قبل أن تتحول الى الاخراج، إذ قامت بأدوار عدة في أفلام من اخراج بابست وفرانك ومن أشهرها "الجبل المقدس" 1932، قبل أن تشارك فرانك في اخراج "الضوء الأزرق" الذي تعرفت إثره على هتلر.