قرأتُ أخيراً ثلاث مجموعات من قصيدة النثر، لثلاثة شعراء متباعدين، أحدهم هو الأردني جهاد هديب، المقيم في عمّان في مجموعة "قبل أن يبرد الياسمين" المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر 2002، والثاني هو الفلسطيني المقيم في رام الله زكريا محمد في مجموعته "ضربة شمس" الصادرة عن المؤسسة نفسها في العام نفسه، أما الثالث فهو الشاعر اللبناني شوقي مسلماني المقيم في سيدني - استراليا، وهو ينتمي الى اللغة أو الشعر، من خلال ديوانه الصادر في العام 2002، عن دار مالتي للطباعة والنشر في سيدني في عنوان "حيث الذئب" الذي وضع تحته بالانكليزية - Where the wolfis. فأي عنوان هو ترجمة للآخر؟ مع ملاحظة أوّلية وهي في رأيي أساسية في النظر الى الشعر، وهي أنّ زكريا محمّد، دون الآخرين، ضمّن مجموعته الشعريّة سبعة نصوص موزونة من أصل تسعين نصّاً، أي القليل القليل منها، وترك النصوص الأخرى حرّة من الوزن... ولهذه النصوص دلالة مقارنة في نظري ستأتي في وقت الكلام على مجموعة زكريا محمّد. قبل أن يبرد الياسمين نتناول هنا الأولى "قبل أن يبرد الياسمين"، ونسأل أنفسنا بعد القراءة، سؤال ما قبل القراءة، ما اتجاهات الشعريّة العربيّة الحديثة والمعاصرة، بعد مرور نصف قرن على مغامرتها الحداثية، المفصليّة والصعبة، انطلاقاً من خمسينات القرن الماضي حتى اليوم؟ ما حساسياتها الجديدة وما هي فضاءاتها وأيضاً ما هي إعاقاتها؟ ولماذا هذا المدّ الكاسح المتعاظم يوماً بعد يوم، لقصيدة النثر، حتى غَدَت بيتاً للأحرار وبيتاً للصوص والسفسطائيين وعديمي الموهبة في وقت واحد؟ أفي ذلك علامة من علامات الترهّل العربي المعاصر في فن الشعر، أم أن ثمّة نقطة ضوء في آخر النفق المظلم؟ هل ضاق مفهوم الشعريّة العربيّة وترهّل من حيث يُظن أنه اتسع وتحرر؟ والسؤال الجوهري هو: كيف تفاعلت الثقافة الغربية مع الحياة العربية واللغة وموسيقى التاريخ العربي، لكي تمنحنا هذه النتاجات؟ وهذا السؤال النقدي كبير وشاسع، لكنّ في الإمكان الوصول الى بعض الإجابات أو الملاحظات الأوليّة من خلال النصوص المتحققة. تحسّ في نصوص "قبل أن يبرد الياسمين" لجهاد هديب، غياب الخيط الموسيقي في جانبه الإيقاعي، غياباً تامّاً، ولكنْ أيضاً تغيب التوازنات البديلة، حتى يكاد يتحول النصّ الى نثرٍ خام. هنا ليست بين يدينا مجسّات أو علاقات لترجيع أو حنين أو استدارات أو استهلالات متكررة لعبارة بعينها، ما يشعر بأسباب الغناء أو الوجدان، لا في اللغة، ولا في الصيغة. لذا تقترب النصوص من السرْد والحكاية أو شبهة الحكاية... أو الخاطرة، وفي كل الأحوال ثمّة تربّص بالغرابة، وتصيّد لها، وأحياناً إلحاح عليها لحدود الفنتازيا. مثلاً، أنظر الى العنوان التالي لمجموعة نصوص "جاء بالجراد يقول فراشاً"، وإلى الجملة الأولى في القصيدة الأولى بعنوان "صورة جانبيّة": "اكتفت/ عزلتك بالقسمة على أبيض أو أسود/ قلبك مقعد شاغر في حديقة/ وصوتك المرّ أكثر قد تشقّق". تتوالى المقاطع، ومع تواليها، يفلت من اليد أي خيط يلمّ شتات الصور والأفكار، ليغدو النصّ نثراً متناثراً. في القصيدة الثانية "بورتريه غير شخصي" نعثر على جملةٍ بمعنى، يمكن أن يعلق بالبال: "في آخر الأمر/ ينسى المرء اسمه إنْ ما كفّ عنه"، ثم نقع على ما يقترب من صيغة ولغة توراتيّة: "افتقدتَ دربك لما خرجت من صمتٍ/ يشبه القفر فجاء من غير خطاك. جاء/ بالجراد يقول فراشاً" بحماقة لم/ ترتكبْها، لقد مضى بحبيبتك الى/ الغابة ثم رجع في يده العاهرة، وقال:/ إخلِ البيت". وهذا الشكل الكتابي لهذا المقطع، أثبتناه على صورته في الكتاب، وهو شكل شعر حرّ أو قصيدة نثر بصريّاً، لكن في الإمكان كتابته كما يكتب أي نص نثري أو سرد حكائي. فلماذا ينتهي السطر الأول عند كلمة "صمت" مع أنها موصولة صلة مباشرة بما بعدها وهو "يشبه القفر"؟ ولماذا ينتهي السطر الثاني عند كلمة "جاء" مع أنها موصولة بالمعنى والكتابة صلة مباشرة بما بعدها "بالجراد يقول فراشاً". وهكذا نلاحظ أنّ الشكل الكتابي الصُوَري للمقطع اتخذ شكلاً شعرياً، في حين أنه سردي حكائي. هو بالطبع بعيد في اللغة والصيغة عن البلاغة العربية القديمة والحديثة، لكن يلاحظ اقترابه من صيغة أو لغة العهد القديم والعهد الجديد المترجمين من السريانية الى العربية. ولا يخلو الأمر من نكهة النصيحة، بالصيغة الأمريّة: "لا تكن طيّباً/ اغضب لمرّة/ ولا تفتح الباب/ جرّب/ أن/ تغضب/ أو في الأقلّ/ خبّي في جيبك الخنجر". مع الملاحظة على شكل الكتابة إذْ ما الداعي لفصل جرّب عن أنّ وأنْ عن تغضب؟ فإننا نرى طغيان نكهة السرد والحكائية والمثل والفنتازيا وتوخي الغرابة، والصورة أو الفكرة غير العضويّة. وأعني بغير العضويّة هي فقدان البناء في الكثير من النصوص... ما يشرذمها أو يشرّدها. ويلحّ السرد الحكائي أيضاً في نص "صورة جانبيّة أيضاً": "حسبنا النهار تدفّق دون تعب/ وصلنا الى البيت من غيبةٍ، ولم يكن/ الليلُ، لكن وجدنا العتمة ناشفةً على/ العتبة./ طردت أشباهي كلهم:/ حدادين كانوا جنوداً ينقبون/ الذكريات...". فما المانع من أن نسمّي هذا النص "قصة قصيرة"؟ فالأخيلة حكائية والشكل غير مهم. أمّا عن الصنف الأدبي، أهو قصيدة أم قصّة أم سرد أم نصّ مفتوح، فهو السؤال... وهنا محطّ الشعر. نفهم، بالطبع، وبالثقافة، أنّ من أسس قصيدة النثر في الغرب، هذه العناصر بالذات: السرد، الاقتراب من القصّ من دون الوقوع في عين القصّة، البحث عن الشعريّة في النثر، من خلال الخطف والتكثيف والغرابة... ثمّ جوّانية النص وإيقاعه الداخلي، وصولاً الى مجانيته أي لا معناه المحدّد. دعْكَ من أنّ قصيدة "النثر" هي بنت المدينة، كما كتب شارل بودلير، إلا أننا نحن، في قصائد النثر العربية، ومنها "قبل أن يبرد الياسمين" ريفيّون، بل رعويّون... وكتبنا، بجدّ، أحوالاً غامضة، لكنْ بارتباك واضح، كالقول: "نسيان/ يأتي عليه نسيان/ كلاهما تخوّف". واستشرنا المخيّلة، لكنْ جاءت اللغة لا لتلمّ أشتات المخيّلة، بل لتربكها. يقول هديب في قصيدة "وحشة أليفة": "ما/ من غرب آكد/ وشرقٌ من هناك/ يبدأ/ إن ترحل إليه/ إن تترك خطاك في صوابٍ/ لتذهب في أثر يضلّ..."... ويقع في النص الآتي، الشبيه بالمقطع السابق في ما يشبه سجع الكهّان: "... يلي فراغاً في الفراغ/ تركته يد لوّحت لبرهة/ ثم جاء موج ومحا شيئاً/ كأنما كان هناك/ إنه/ ينتظر في العتبة". ونحن نحرص في النهاية، على ألاّ تفلت من يدنا الوحشة في نصوص جهاد هديب. حقاً نحن أمام صُوَر سوداء، "شجرة بلا أوراقها وقفت هناك إلى غصنٍ أسود يربض عليه طائر شاب جناحاه"، وربما إلى نصوص عمياء... "تجلس والليل: كلاكما يحدّق إلى صاحبه"، تمجّد الخواء والعدم، وربما لصور كافكاوية تبعاً لكابوسية فراتز كافكا، ولا يعني ذلك أنها غير طالعة من أصل سويداء الشاعر وتجربته... وإلى مقدار واضح من القسوة والحنق والضجر... لكنْ، يبقى لنا أيضاً من جهاد هديب إحساس بعذابه الجميل، وحبه القاسي لدمشق، حبه المبدع المولّد لنصّه الأخير "على شبه الرغبة بها" وفيه يقول: "تظلّ/ تمرض بي/ كلما تذكرت بردى/ رشحتني من جسدها/ كعرقٍ بارد". "حيثُ الذئب" لشوقي مسلماني في مجموعة شوقي مسلماني الصادرة عن منشورات مالتي، في سيدني - أستراليا العام 2002 بعنوان "حيث الذئب"، ما يمكن أن نسميه وكر أفكار أو وجر أفكار. هنا الشعر، كطاقة داخليّة من قلق تنزع في اتجاه الموسيقى، يتكوّم أفكاراً أو صُوَراً، باختزال، على هيئة خواطر وتأملات مختصرة. فنادراً ما يتجاوز النص الصفحة أو نصفها أو ربع الصفحة، ما يعني أنّ الاختزال الكمّي وافتراض ضغط النص جزء من هذه التجربة، ويبقى السؤال: هل الاختزال الكمي، اقتصاد الكلمات، بالضرورة، أدّى الى تركيز التجربة واتساع الرؤيا على قول النفّري: كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة؟ نصوص "حيث الذئب" قصائد نثر، افتراضاً، إذ كل ما يكتب نثراً ويصوّر بصورة الشعر، يطلق عليه التسمية. ولكنْ ما الذي يدفعنا مثلاً، لاعتبار النصين التاليين المختزلين، قصيدتي نثر: الأول بعنوان: "سريعاً" ويأخذ الشكل الآتي على الصفحة: "بين الحديد والمهملات/ طائر يعبر سريعاً/ مع المطر فوق الصفح/ مع هرّة ميتة". الثاني بعنوان: "وجبة"، وصورته على الصفحة هي الآتية: "طيور جارحة أم عصافير نعاس/ تنقد رأسي/ بصبر/ ودأب". وهناك نصوص من ست كلمات حلوليّة أو خمس كلمات أبديّة حيث يكتب: "رماد/ وتنهضين كالفينيق/ من الرماد". والمجموعة بكاملها صور وأفكار وخواطر على هذا المنوال. ولو افترضنا أنّ الشعرية اتّسع نطاقها ونوعُها منذ العثور، في أواسط القرن التاسع عشر، على لمعان الشعر في النثر، والحصيلة "قصيدة النثر"، إلا أنّ الإطار اتسع وفضفض كثيراً، وبلا ضوابط نقدية، نظراً لاستحالة هذه الضوابط مع النصّ اللاإيقاعي، والاسترسال، وحسنة هي الحريّة في النص والفوضى جميلة... ولكنْ، ماذا بيدي أو بيدك لتضرب بها أمام نص وتقول: هنا شعر، أو هناك نثر؟ هنا قصيدة وهناك خاطرة وهنالك صورة، أو فكرة، أو قصة، مثلاً؟ وبمقدار ما اتسعت رئة الشعر، وأصبح تنفّسه عميقاً وحرّاً، صعب النقد وضاقت حيلته. وصحيح أنّ الاحتكام الى المزاج والنظريّة مشروعان، إلاّ أنّ النقد كمعيار، أو نظريّة، ليس بإمكانه الوقوف عند هذين الحدين والاكتفاء بهما. كنت أودّ لو أن شوقي مسلماني كتب ما كتب في إطار الإيقاع الموسيقي والتفعيلة، فربما تحسّن نسل النص، ولكنْ من الذي يضمن صحّة هذا الافتراض، ولماذا؟ في كل حال، رأيي هو أنه لا أرجّح تنسيب هذه النصوص الى قصيدة النثر، فهي أشدّ قسوةً وتطلباً في شروطها، ولغتها، وحركتها الجوّانية، من لمح ومجانية وحكائية... الخ. ولكنْ، بالتأكيد، تسرّبت الى نفسي متعة القراءة، ولذّة النص، في الصورة أو الفكرة، بل علقت في النفس نصوص بجملها المؤثرة... مثل قوله تحت عنوان: "لون الزجاج": "الشوارع تعضُّ قدميَّ/ البحر على المقعد وحيد في العاصفة/ تخرج الأرواح مبتورة الأطراف/ تئنّ/ وتضحك/ يلوّن الزجاج دمي/ ويفترسني الذئب". فأن تعضّ الشوارع القدمين، فكرة آسرة بل صورة حاكمة، كذلك وحدة البحر جالساً على المقعد في العاصفة. وهنا ما يلفت الفكرة والصورة، أما اللغة لدى مسلماني فتأتي لتخدم الخاطرة. ما أعنيه هو أنه ليس لديه حفر خاص به في اللغة ولا حيل شعرية تخصه في اللغة. فالعبارة لديه، والمفردة... في خدمة الفكرة: "طيور جارحة، بصبر ودأب، تنقد رأسي"... طبعاً، كما قلنا، ثمة جمل مقلقة في هذا الصنيع الإبداعي لمسلماني، وهي تعلق، بين المعنى والصورة، ولكنْ، ثمّة أيضاً، جمل تزلق أو تعبر نحو العابر من النثر، لكونها تقترب من العادي الذي يعجز عن الإثارة أو الإيحاء أو الصدمة أو الغرابة... وهي عناصر من شعريّة الشعر، فالعادي عابر... كقوله في نص بعنوان "دخان": "الأفق أم أنا البعيد/ هذا المساء لصّ تحت نافذتي/ هذا الليل نائم/ دخان في جزيرة/ جراد في هذه السماء/ كل ليلة دعوة الى عشاء أخير". أو كقوله في نص بعنوان: "عصفور في المدينة" على الشكل الآتي: "في المدينة عصفور من الشرق/ حي لأنه يغني". ولو قلنا إننا أمام مجموعة أفكار أو يوميات أو ملاحظات وخواطر، فهل يضيرها ذلك في مقام الشعريّة؟ والجواب هو أن الشعر يكمن في ما يخز ويحرّك ويؤجّج ويدهش، فإن انتفى ذلك فلا شعر. ثم هناك اللغة والبناء أو الصيغة، ولا يفتقر مسلماني الى بعض عناصر مما ذكرنا مثل قوله: "غنِّ/ أُعْطِكَ الحصان"، وأنه يتكلّم أحياناً بنبرة رسولية كما في نصّ الغائب: "يرفع مياه الفجر/ يشتل روح المودّة/ يومئ للجزر/ فتأتي/ يقول:/ أنا لحمُكِ يا شمسُ/ حواؤكِ يا سماءُ/ سيرتكَ المديدة يا نهرُ...". أو يتكلم بصوت الغائب، عن الغائب، ما يرسل قشعريرة رسولية في النفس: "قلبه يراكم/ أمواجه في بحيراتكم/ يرفع مياه الفجر/ يشتل روح المودّة...". وربما اتجه نحو الصيغة الإنجيليّة أو التوراتية - أحياناً وليس دائماً. ولكنْ، يظهر دائماً، أنّ خطّ سير النصّ لديه، يبدأ من الرأس والتفكّر، وينتهي في الكلمات... أعني أنه لا تظهر انبثاقات مشتعلة وطازجة، تكون النصوص لهيبها، بل النصوص مكتوبة بإزميل ومعبّرة عن فكرة أو خاطرة أو صورة، وربما ملاحظة. و"حيث الذئب" ثمّة ذات كأنها تعاقر غربتها، وخيوط من ألم مرافق، وسمّ، يقرن بين القمر والأفعى، والأوكسيجين وثاني أوكسيد الكربون، والفئران والملائكة، وثمّة ضجر المتوحّد، حيث يقول: "ماذا يفعل/ إن لم يتلهَّ/ بثقبِ قلبه". وثمة سأم، ووحشة ذات معجم نستطيع تسميته "معجم الذئب" على غرار "معجم الجحيم" لسيف الرحبي "رأيت فراشةً تذبح"، "رفيقي النمر الجائع الأكتع" - وربما عثرنا على ما يشبه وديع سعادة - من خلال قوله: "أخرج من الغبار/ وأجرّ عمياني". وربما تجسّدت الوحشة كعناقيد: "نهض/ ألقى نظرةً على الوحشة المتدلّية من عينيه" أو "كعصفور يجرّ خيط دمه"... وفي مجمل الأحوال والنصوص، فمجموعة "حيث الذئب" تقدّم لنا نصوصاً تتجه اتجاهاً قويّاً نحو التقشّف، وتنطوي على رغبة في التركيز أو التقطير، للفكرة وللصورة وللّغة، وتقدّم لنا حساسية شعريّة، أكثر مما تقدّم مشروعاً في الشعر... أو قصائد، ولا نزعم أن صاحبها يرغب في أكثر من ذلك، على كل حال. يتبع: زكريا محمد.