أخطأ الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش حين أرجع مشاعر الكراهية التي يحملها كثير من شعوب العالم نحو أميركا إلى حقد هذه الشعوب لنجاح أميركا في ما أخفقوا هم في إنجازه وتحقيقه من تقدم وازدهار اقتصادي وسياسي وعلمي وتكنولوجي واجتماعي يؤهلها لأن تسيطر على بقية العالم الذي يتعثر بدرجات متفاوتة في محاولته اللحاق بها. وينسى الرئيس الأميركي أن هذه الشعوب تحمل - مع الغيرة التي لا شك فيها - كثيراً من الإعجاب والتقدير للإنجازات التي أفلح الإنسان الأميركي في تحقيقها، كما تشعر بكثير من الود نحو الأميركيين العاديين لبساطتهم في التعامل مع الآخرين بل لسذاجتهم - وهذا أمر مستغرب - إزاء فهم الثقافات الأخرى التي تختلف اختلافاً كبيراً عما هو سائد في المجتمع الأميركي، لذا فإن هذه الكراهية التي تؤلف ظاهرة عامة في معظم أنحاء العالم ليست موجهة إلى الإنسان الأميركي كشعب ومجتمع وأفراد وإنما هي موجهة ضد السياسة الاميركية والفلسفة التي تقوم عليها هذه السياسة في الوقت الراهن، والتي تتناقض تماماً مع المبادئ الإنسانية الراقية التي قامت عليها الولايات الاميركية منذ حروب الاستقلال. فالكراهية هنا هي كراهية مبادئ، وهي أعمق وأخطر من كراهية الأشخاص لأنها تعبر عن موقف ذهني محدد يرفض مجموعة الأسس والمسلَّمات والقيم والدعاوى التي يرتكز إليها أسلوب الحكم في أميركا المعاصرة، والذي يتميز بالغطرسة والاستعلاء والجموح نحو الهيمنة على بقية شعوب العالم، ما يؤدي إلى الخلل الرهيب الذي نعيشه الآن في العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية بين الدولة الاميركية ودول العالم الأخرى، خصوصاً الدول اللاغربية التي تشعر بالمهانة النابعة من العجز جراء هذه النظرة الاميركية المتعالية. وثمة أمران جديران بالملاحظة في محاولة تفهم أبعاد هذه الكراهية التي تؤلف مبادئ ذهنية أو حتى أيديولوجيا راسخة تحكم العلاقات الآن بين أميركا ومعظم دول العالم. الأول: يتصل اتصالاً وثيقاً ببناء المجتمع الأميركي نفسه المؤلف من عدد كبير من الجماعات المتباينة عرقياً ودينياً ولغوياً تتصارع في ما بينها صراعاً يصل إلى حد الكراهية المتبادلة كما هو الشأن بين البيض والسود عموماً وبين السود واليهود خصوصاً. وتؤدي هذه الكراهية المتبادلة إلى ضعف نسيج المجتمع الأميركي، ولذا تحرص الدول - على ما يقول آرثر شلزينغر المستشار السياسي للرئيس كينيدي - على أن تخلق لنفسها دائماً عدواً خارجياً حتى يلتئم هذا النسيج ويتضامن ضد ذلك العدو الخارجي. بل إن العلاقات الاجتماعية بين الجنسين التي يمكن أن تقوم على أساس المشروع تصل أحياناً في أميركا إلى حد الكراهية كما هو واضح مثلاً في موقف بعض الجمعيات النسائية من الرجل. وهناك جمعية نسائية فاعلة ومؤثرة ترمز إلى نفسها بكلمة SCUM وهي كلمة تحمل معنى رديئا في ذاتها، ولكنها هنا تتألف من الحروف الأولى لإسم الجمعية جمعية تقطيع أوصال الرجال Cutting Up Men FOR ociety وليس التقطيع هنا مجرد كلمة مجازية وإنما هو أمر وارد، إذ تتضمن تعاليم الجمعية الدعوة إلى طرد الرجال من كل مجالات العمل وأوجه النشاط ومحاربة المؤسسات الاقتصادية التي يقومون بإنشائها أو العمل فيها من خلال الغش والخداع والنهب والتخريب والتعامل مع الرجال بالعنف الفيزيقي الذي قد يصل إلى حد القتل إذا لزم الأمر، لأن الرجل كائن طفيلي في الحياة والمجتمع وليس ثمة حاجة إلى وجوده، خصوصاً أن عملية الإنجاب التي يقوم عليها وجود المجتمع واستمراره تتم الآن بنجاح من خلال التلقيح الاصطناعي وهكذا. فالكراهية المتبادلة مبدأ فكري راسخ يتحكم في العلاقات الاجتماعية ويختفي وراء قناع التسامح والتلاؤم والسلام والديموقراطية. الثاني: هو أن الكراهية بين الشعوب والمجتمعات تنشأ من التحامل والتعصب والتخوف الناجمة عن جهل هذه الشعوب بثقافات بعضها بعضاً أو الخطأ في فهمها وتفسيرها وإدراك أبعادها وأعماقها الحقيقية، ما كان يؤدي إلى تعظيم الذات على حساب الآخرين. وكانت الكراهية تحكم العلاقات بين الغرب والمجتمعات اللاغربية خلال مراحل عدة وطويلة من التاريخ. وكان للإسلام والمسلمين نصيب وافر من هذه الكراهية التي تمثلت في موجات الغزو الاستعماري المتتالية ومحاولة إذلال العرب والمسلمين، كما تمثلت في تحامل بعض المستشرقين والرحالة على الفكر الإسلامي والعادات والقيم العربية والإسلامية. ولا يزال هذا التحامل واضحاً في ما يبثه على شبكات الإنترنت بعض الكتاب اليهود ورجال الدين المسيحي المتعصبين في أميركا خصوصاً، من أفكار سقيمة تنضح بالكراهية ولا ترتفع كثيراً عما ذكره دانتي في "الكوميديا الإلهية" عن نبي الإسلام. كذلك حظيت أفريقيا بقدر كبير من الازدراء والاستعلاء والكراهية من جانب المبشرين من رجال الدين المسيحي وحكام المستعمرات الذين كانوا يرون في مجرد وجود تلك الشعوب القبلية عائقاً تجب إزالته حتى تسير الحضارة الغربية في طريق تقدمها وانتشارها في العالم. وظلت الحال كذلك إلى أن كشف علماء الأنثروبولوجيا من خلال بحوثهم الميدانية المكثفة عما في ثقافات هذه الجماعات والقبائل من رقيّ فكري وعمق إنساني. ومن الإنصاف، على أية حال، أن نشير إلى أن المجتمعات الغربية كانت تحمل كثيراً من الكراهية لبعضها بعضاً كما هو واضح - على سبيل المثال فقط - في بعض أشعار الشاعر الفرنسي بودلير عن الشعب البلجيكي حين وصفهم في ديوانه الشهير "أزهار الشر" بأنهم حيوانات وكائنات رخوية وقردة متحضرة ومجموعة كريهة من البشر. وعلى أية حال، فإن كراهية الغريب كانت دائماً إحدى الصفات الملازمة للفكر الإنساني على مدار التاريخ، إلا أن انتشار وسائل الإعلام وسهولة انتقال الأفكار وهجرتها ساعدت على إدراك مدى تغلغل أو شيوع هذه المشاعر التي تؤلف الآن نوعاً من الأيديولوجيا التي تحمل في ثناياها كثيراً من الأخطار التي تهدد علاقات التسامح والسلام، سواء بين الجماعات المختلفة داخل المجتمع الواحد أم بين مختلف الجماعات والثقافات في عالم الكراهية حيث نعيش الآن ويزداد فيه ما يعرف الآن باسم "جرائم الكراهية" زيادة رهيبة تستدعي ضرورة المواجهة، ليس من طريق سن القوانين أو اتخاذ الإجراءات الرادعة وإنما من خلال الدراسة والفهم وحسن التشخيص. وبينت إحدى الدراسات التي نشرت في أميركا في شباط فبراير 2001 عن تحديات القرن الحادي والعشرين أن جرائم الكراهية تأتي على رأس المشكلات الثلاث الرئيسة التي يعانيها المجتمع الأميركي إلى جانب انتشار المخدرات بين المراهقين وأوضاع التعليم السيئة. وأظهرت الدراسة أن ثلاث جرائم مختلفة تقع بدافع الكراهية كل ساعة واحدة، ويحدث اعتداء واحد كل يوم على الرموز الدينية - بما في ذلك الصليب - ويتعرض كل يوم للأذى والاعتداء الجسدي ثمانية من السود وثلاثة من الشواذ جنسياً وثلاثة من اليهود وأميركي لاتيني واحد، على رغم أن أميركا تفاخر العالم بأنها مجتمع التسامح الذي يضمن حرية الفرد وعلى رغم الإجراءات العنيفة ضد النزعات العنصرية والعرقية. كما تشير الدراسة إلى أن نسبة لا بأس بها من السكان يعيشون تحت الخوف من أن توجه ضدهم بعض الاتهامات حول الهوية، ما يتطلب إعادة النظر في سياسة الدولة عن محاربة الكراهية والعقوبات المفروضة على تلك الجرائم. والواقع أن جرائم الكراهية المتزايدة تواجه في الغرب بإجراءات قانونية صارمة، وظهر ما يعرف بإسم قوانين الكراهية للقضاء عليها. وكانت نقطة الانطلاق في ذلك محاربة الآراء والأفكار والكتابات التي تشكك في روايات اليهود حول الهولوكوست، ولجأ إليها كثير من الدول التي تحترم حرية الرأي مثل كندا وفرنسا وسويسرا والسويد، لدرجة أن إحدى المحاكم في باريس حكمت على ناشر الترجمة الفرنسية لكتاب هتلر "كفاحي" بأن يصدر هذه الترجمة - على رغم أن الكتاب معروف ومتداول - بمقدمة طويلة فيها تحذير شديد من محتوياته. ولكن هذه القوانين والاجراءات تلقى في الوقت ذاته كثيراً من المعارضة من عدد من الكتاب والمفكرين الذين يرون فيها هي ذاتها اعتداء على حق التعبير عن الرأي، طالما أن ذلك لا يصاحبه أي عمل من أعمال العنف كما هي الحال في الكتابات التي تشكك في حقيقة المحارق النازية، بل إن هذه الإجراءات والقوانين تحمل بين ثناياها شبهة الكراهية ضد أصحاب تلك الآراء والاتجاهات المتحررة وأنها تزيد بذلك من حدة الكراهية التي قامت للقضاء عليها وتتناقض مع القيم السائدة في المجتمعات الديموقراطية التي تلجأ إلى وضع هذه القوانين وتبيح للسلطات الأمنية تتبع حركات المواطنين وعلاقاتهم بقصد التحري عن اتصالاتهم والتعرف الى آرائهم وأفكارهم، أي أنها تعطي هذه السلطات حق التفتيش في ضمائر الناس ومساءلتهم عن نياتهم وليس عن أفعالهم، وهي من أبشع صور الحكم الشمولي المعادية لمبادئ الديموقراطية. إن محاولات تجريم الفكر التي تلجأ إليها أميركا الآن تحت ستار محاربة الإرهاب لا تختلف كثيراً عما كان يحدث في الاتحاد السوفياتي أيام ستالين، أو في الصين أيام ماو تسي تونغ تحت مسمى الثورة الثقافية. وتشبه من حيث الجوهر والهدف والمغزى والدلالة، الأحداث والإجراءات التي أشار إليها الكاتب الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984. فهل يريد الرئيس الأميركي أن يقوم بدور الأخ الكبير في تلك الرواية الذي يرى كل شيء ويحاسب على كل شيء ويبث الرعب في نفوس الآخرين تحت ستار إقرار السلام العالمي؟ * انثروبولوجي مصري