يستهل عبده وازن ديوانه الجديد "نار العودة" دار المدى - دمشق - 2003، بقصيدةٍ تحمل عنوان "أزل"، يحاول فيها أن يستعيد عالماً صافياً طليقاً، كان فيه الكائن متصلاً مباشرةً بسمائه الأولى، وكان فيه "ذئب العتمة أرق من منديل". ليس هذا العالم، الذي يمثل الملكوت اللانهائي للروح حين كانت هي العالم والعالم هي، في وحدةٍ جوهريةٍ، سوى العالم الملحمي، بالمعنى الهيغلي- اللوكاشي، الذي يواجه ما بين زمن الملحمة الشعري وزمن النثر اليومي، زمن الشعر وزمن النثر، زمن الاتساق والسعادة والتناغم وزمن التشقق والاكتئاب والاغتراب. تنجلي هذه الثنائية ما بين الزمنين، في دلالات عنوانه "نار العودة" الذي يبدو هنا وكأنه مفتاح سر تجربته الراهنة، لكن إشكالية العودة تكمن في أنها لا يمكن أن تتم إلا كاستعادة لماضٍ سعيدٍ نديٍ، فرحٍ وأخضر، في زمنٍ نثريٍ عابسٍ ويابسٍ ينفيه. ويكسب ذلك الاستعادة نوعاً من توترٍ ميتافيزيقيٍ خفيٍ ما بين عالم المثال والعالم المحقق، عالم الماضي وعالم الحاضر. من هنا يستعيد وازن الزمن الذي كان "فيه ذئب العتمة أرق من منديل" بحركتين، هما حركة الماضي التام الذي يشير إلى زمنٍ شعريٍ متزايل وحركة التحيين التي تحاول أن ترهّنه وتجعل منه عالماً حالياً، في ما يمكن أن تعبر عنه حركة "عندما… كنّا" المزدوجة، فلا يبقى من ذلك سوى الحسرة الكيانية الشخصية، على ضياع التناغم ما بين الروح والعالم، الذي لا يستطيع سوى الشعر والفن أن يستعيداه، وهو ما يفتح الباب أمام قول تجربة عبده بالشعري كطريقة معرفة ذات أبعاد حدسية وميتافيزيقية بالضرورة، تتخطى حدود الهندسة "التنظيمية" للقصيدة. تكاد الأبعاد الكلية لهذا الفهم الشعري كمعرفة، أن تأخذ في شعر عبده وازن، شكلاً "نوستالجياً" أي شكل حنين إلى الماضي، الذي تتشكل نواته برمتها حول الجوهرية الإنسانية المتزايلة في زمن النثر. أصل ذلك أنه لا تمكن عودة ما كان إلا في شكل استعادة، تكتسب هنا طابع التوتر الميتافيزيقي ما بين الزمنين الشعري والنثري. النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي هي دينامية مرضية، لكن علينا أن نفهمها هنا بمعناها الشعري وليس بمعناها العيادي. ففي سردياته الشعرية التي يحكمها الماضي التام، هناك أناس كثر غامضون يمكثون ويعبرون ويتوارون، ولا يبقى منهم سوى الحسرة. نحن هنا فنياً إزاء السرد التام في المعنى الذي يحدده علم السرديات، لكننا لسنا إزاء النثري إلا بشكلٍ عابرٍ وهامشي ومضطرب. فالشعر الذي يبحث عن استعادة الجوهر الإنساني المضيع في زمن الملحمة السعيد لا يمكنه إلا أن يخترق النثري أي الوقائعي واليومي والمبتذل. وهو ما يدفع إلى القول إن وازن الذي تقول تجربته الشعرية الثرية، إنه ينفر من الثنائية ما بين السامي والوضيع، والطاهر والمدنس، ويحاول بشكلٍ "رجيمي" أحياناً أن يخترقهما، يحاول أن يكتب هنا قصيدةً مختلفة في تاريخ تجربته، وكانه يذكرني بنقلة أنسي الحاج ما بين "لن" وبين "الرسولة بشعرها الطويل". فلقد كان هناك على الدوام في تجربة وازن نسغ صوفي توليدي وتكويني، قد يفسر لنا ديوانه الراهن، استقلاب "وحدة وجوده" في شكل الحنين إلى وحدة الكائن التي كانت له مع الكون. لا ريب أن البعد النوستالجي هو من أبرز الأبعاد المهيمنة على تجربة وازن في هذا الديوان/ النقلة في إطار تجربته الشعرية، ومن هنا يكتب وازن قصائد مثل "صندوق الماضي" و"بئر الماضي". يحضر في الماضي الشخصي المستعاد شخوص وقديسون وأنبياء وشعراء وصور وأمكنة وروائح وأشجار مقدسة، وحدائق إلهية، ونساء ورجال "مغفلون" وسقاة حانات، ينتمون برمتهم إلى نمط الكائن المغترب المتشقق الخائب والمدمر، الذي يحمل في داخله الجوهرية الإنسانية المضيّعة. يبدو حنين وازن إلى كل هؤلاء وكأنه حنين مرثاتي، فالفاجع بات سمة التوتر ما بين الزمنين الشعري والنثري. وهذه السمة هي ما يجعل على وجه الضبط من تجربة وازن نوعاً شخصياً منفتحاً على تجربة وجودية بالمعنى الأنطولوجي أو الكياني، الذي ينفتح على أسئلة الكائن الميتافيزيقية الأزلية، من داخل تعبيرٍ شعريٍ، يبدو في ظاهره اللغوي شديد الشفافية والتلقائية والوصول، غير أنه يبدو في عمقه شديد التعقيد. في تقديري أن وازن نضجت لديه في هذا الديوان، بعد تجربته المثيرة والغنية، والتي كان فيها للحداثوية كما لما بعدها نصيب، عملية الشعري بحد ذاته خارج التصانيف. وهذا هو على كل حال درس الشعراء من أنسي الحاج إلى محمود درويش وأدونيس وغيرهم من مغيري الرؤى الكبار في ثقافتنا. من المفهوم أن طبيعة التجربة ذات الأبعاد النوستالجية والميتافيزيقية والكيانية، والتي اختارت أو وجدت نفسها تعبر بنوعٍ من غنائيةٍ شخصية فريدة - علينا ألا نخلط بينها وبين الغنائية التقليدية، مع أن هذا التمييز ينتمي إلى حقل المدرسيات - أفرزت شكلها ب"عفوية" كما يفرز "النهر مجراه" كما كانت تقول سوزان برنار. لكن هذا الشكل العفوي يبدو في عمقه معقداً، أي أنه يمتلك تنظيماً غير بسيط يظهر في شكلٍ بسيطٍ للوهلة الأولى. وهذا التنظيم ذاتي أي أنه لا يتم وفق مثالٍ سبق، مع أنه يتقاطع في صورته الخطية مع أشكال التجارب الجديدة. ونكثف ذلك بأن مرد عفوية أو مفاجأة تجربة وازن في هذا الديوان ترتد في وجهٍ أساسيٍ، إلى براعته في التجديد اللغوي للصورة الشعرية، التي اعتبرها نقادنا الكلاسيكيون من سمات الشاعر العالي، التي يندر وجودها. وهذا التجديد لدى وازن يتبع التلقائية. هناك شريط لغوي عفوي وبسيط ولكن تتخلله مثل هذه الصور التي تلعب هنا ما تلعبه الخاتمة في حديث الشكلانيين الروس عن الفرق بين القصة والرواية. أي تلعب هذه الصور دور "قذيفة المدفعية" في التأثير، وهو تعبير شكلاني روسي لمن لا يستسيغه. تتركز هذه الصورة النضرة والجديدة على ما يمكن أن يندرج على نحو ما، بتصنيف نقادنا الكلاسيكيين، في التشبيه البليغ الإضافي المقلوب، وهذا شأن بلاغي اختصاصي ليس محله هنا، غير أننا نعبر بلغتنا الحديثة أو ببعضها عنه، تحت اسم اتحاد المجرد بالمحسوس. وازن يحسس المفهوم. يبتكر صوراً نضرة، مثل "غابة انتظارنا" و"ثلج الندم" و"حجر اللوعة" و"زجاج اليقظة" و"سياج الغفلة" و"سياج الحيرة"... إلخ، وهي كثيرة هنا. لكن التجديد ليس هو التجديد البلاغي على مستوى الصورة بحد ذاتها، فهذا له بدوره مطاعنه، بقدر ما هو تجديد يتم في إطار نضارة التجربة، وهي تقوم بتحسيس الروحي، ودمج المجرد بالمحسوس، والجزئي بالكلي، وكأنها تصل ما بين العالم الملحمي الشعري المضيّع وبين عالم النثر. ولنلاحظ هنا أن الجزئي مقيد بينما الكلي طليق، وهو تصوير يراه البعض يفضي إلى اللامعنى، غير أنه يفضي إلى المعنى المؤجل أو الكثير. عبده وازن في "نار العودة" يغيّر جلده، ويكتب فيه قصيدة مختلفة، تجعل من الشعر والفن طريقة معرفتنا الوحيدة لما وراء زمن النثر.