تحتفي ميسون صقر في روايتها الاولى "ريحانة" بالمعلن التاريخي والاجتماعي والسياسي، لكنها تضع خطوطاً "حمراً" تحت جملة أحداث وتواريخ ومصائر مسكوت عنها، في كتابة مثيرة وشائقة افادت فيها الكاتبة من خبراتها في الحياة والكتابة والفن التشكيلي، افادة امتزجت مع بنية سردية مدهشة. وأزعم أن أعمال ميسون صقر الشعرية السابقة كانت تنذر بهذا الانفجار السردي المكتظ والمشحون بعوالم وشخصيات نكاد أن نلمسها ونتحاور معها. الظاهر في الرواية أن شخصيتي "ريحانة" و"شمسة" تديران دفة السرد، وتصنعان فضاء الحكاية، لكن الباطن الذي تتحرك فيه كل عناصر الرواية، هو جوهر العلاقات الإنسانية بين القاهر والمقهور والعبيد والسادة، والأدنى والأعلى، ثم تبادل الأدوار في أشكال كثيرة، ما يطرح - ضمناً - نسبية هذه العلاقات انسانياً وطبقياً وثقافياً، وربما تبادل الألسنة ايضاً، أي استعارة الثقافة والخطابات. فليس هناك أدنى وأعلى في شكل مطلق، بالدرجة التي تجعل وجود النموذج الطبقي والاجتماعي والكائن الثقافي النقي نادراً. ونلاحظ أن الشخصيات تتحدث - احياناً - بخطابات معكوسة ومتبادلة، أي أن ريحانة "العبدة" تتحدث بلسان القوي، وهي قادرة على صوغ علاقة جسدها بالآخر، والسيطرة على هذه العلاقة، بينما تتحدث "شمسة" السيدة ابنة العائلة الحاكمة، بوهن وتردد وضعف، ما يجعل خطابها مرتبكاً، تجاه زوجها حبيب الذي لم يحسم من أمره شيئاً. فعلاقة ريحانة بحبيب هي علاقة واضحة المعالم. أما علاقة "شمسة" ب"هادف" فهي علاقة "فوقية" لا يتضافر فيها الاجتماعي. علاقة أشبه بحوار ثقافات ومعلومات، أكثر منها تشابكاً اجتماعياً ونفسياً وإيديولوجياً. تبدأ الرواية بالفضاء الجغرافي - المكاني. فهذا المكان ليس مكاناً فوتوغرافياً، بقدر ما يأتي موظفاً لضرورة ما: "كانت الدولة في الصورة القديمة للجد الأول موجودة، يستظل تحتها المحتاجون والآتون بمظالمهم وشكاواهم حتى طلوع الحاكم فتشهد على خروجه وصدور الأحكام، وكما تشهد على ضرب المساجين فوق المدفعين من دون ان تنطق". ثم الحديث عن الامارات ونشأتها، أي موقعها في التاريخ والجغرافيا، والتسميات التي اطلقت عليها: ساحة القرصنة، المشيخات المتصالحة، ساحل الهدنة، إمارة الساحل المتهادن. هذا هو الفضاء الجغرافي والتاريخي الأول الذي تتجول فيه الشخصيات ثم تظهر "ريحانة" العبدة، ونزوعها المبكر في تخليص المساجين من أسرهم وإطلاقهم. هذا الاصرار على النزوع نحو الحرية يجعل صوت "ريحانة" مسموعاً. هذا الصوت يتحول صراخاً وهتافاً عندما تقول: "لكنّ للصبر حدوداً أو للملكية حدوداً ايضاً". "ريحانة" ترحل مع سادتها الى القاهرة، وتتضح معالم الشخصيات وعلاقتها، والثنائيات المتعددة: ريحانة وعمتها، أي سيدتها، أو ريحانة وشمسة، أي السيدة الصغيرة، تترافقان في كل شيء، في الشارع والمدرسة، في الأكل والكلام، ريحانة وحبيب زوجها الذي تركته مجبرة، "شمسة" وكل شخصيات الرواية، الأم والجدة والأب وعلي "السباك" والجنايني ثم "هادف" في ما بعد. لا تتوقف الثنائيات عند الشخصيات، بل تتجاوزها الى الأماكن، القاهرةوالامارات، الأحياء الراقية والأحياء الشعبية، ايضاً اللغات او اللهجات الفصحى والعامية، والقيم العبودية والتحرر، الحكام والمحكومين... كل ذلك يصنع توتراً درامياً يعطي بنية الرواية صدقية عالية فنياً وجمالياً. لا تتلقى الشخصيات الأحداث في صمت، بل هي تصنع مصائرها ولغاتها المحمّلة بالمضامين الاجتماعية والسياسية والثقافية. وعلى رغم أن هناك احداثاً وسلوكيات تكاد أن تكون غير مرئية، إلا أنها تتضافر مع أشد الأحداث خطورة. فالرحيل من الإمارات الى القاهرة بكل دراميته، والذي يأتي في أعقاب انقلاب على الحاكم، وإزاحته، وربما ترحيله، يشبه الطرد، أو الفرار. وهذا الترحيل او الفرار تحدو إليه "دوافع صغيرة" لا تخلو من طرافة، الا أن هذه الدوافع تعتبر متداخلة تداخلاً كبيراً مع الحدث، مثل تهريب بعض الوثائق المهمة والاحتفاظ بمفتاح السجن الذي يلعب دور الرمز للتخلص والانعتاق والتحرر من كل آليات القهر والاستعباد، إنه المفتاح الذي تنقل من يد الى يد إلى يد. تنتقل الاسرة من الفضاء الجغرافي والتاريخي الأول الى القاهرة، الفضاء الجغرافي والتاريخي والسياسي الثاني، وتلقي بنفسها داخل الأحداث. تعترض الأم، وتتحفظ الجدة، وتتمرد الأخت، إلا أن "شمسة" هذه الشخصية المعقودة عليها آمال كبيرة، تدخل غمار السياسة، عبر حبيبها "هادف"، ويدور حوار بينها وبين الأم التي تقول: "نحن ضيوف"، وكذلك بينها وبين الجدة التي تعلن: "ان السياسة ليست كلاماً"، مع سلوك الأخت الرومانسي وخصوصاً عندما تضرب شاشة التلفزيون بالحذاء رافضة زيارة السادات الى إسرائيل. تلجأ "ريحانة" إلى المخدرات، في لحظة إحباط وانكسار حتى تأتي "صفية" شقيقة زوجة الحاكم المخلوع، وتعيدها الى الامارات، وتعيد اليها زوجها "حبيب" الذي كان تزوج من "فطوم" ثم طلقها عند عودة "ريحانة" مجبراً تحت ضغط "صفية" ثم قوة "ريحانة" التي لم ترض بشريك لحياتها، وقدرتها على اعطائه كل ما تتمتع به، فتفتح له باب جسدها لينهل منه ما يريد وما يستطيع. "ريحانة" لم تكن الشخصية التي تتحرك في الفضاءات الاجتماعية الخليجية او القاهرية إلا لوصفها، وربما لنقضها، فنلاحظ ان الرواية استحضرت الحياة الاجتماعية - التحتية لمجتمع القاهرة، بتشكيلاته الشعبية ولهجته المميزة وسيكولوجية نسائه ورجاله. استحضرت الأحياء الشعبية، الدنيا والعريقة، ولم يكن تجول ريحانة، إلا تأكيداً للاشتباك مع هذا الواقع بكل مفرداته، "صفو السنهوري"، "أم عايدة" بائعة الذرة المشوية، "أبو شهبا" الكومبارس المهدور حقه، كلها شخصيات - على رغم احباطها - تخلق عالمها المشحون والمزدحم بحيوات مفعمة بالبهجة والحزن والاضطراب. أما عالم الامارات التحتي، وتاريخ العبودية والسيادة فيها فمطروح عبر أكثر من زاوية وعلى قارعة أكثر من طريق، فتتطرق إليه الرواية عبر كل تقاطعاتها مع الأماكن والشخصيات والأحداث، من خلال شخصية "ريحانة" التي تحصل على صك حريتها من "عمتها" صفية، وتصبح "سيدة" نفسها ومنزلها وسلوكياتها. وإذ تحرر معها زوجها، تظل أسيرة تاريخها، وأسيرة رؤية ابنها "حراك" الذي ترافقه أشكال الخلل من البداية، منذ رؤية أمه عبدة، وأبيه سائقاً، حتى تحوله الى "مخنث" مع تقلبات مصائره من هلاك الى هلاك، ومن احباط الى احباط، فتتحول ريحانة العبدة الى ريحانة "الحرة" من دون أن تعرف ماذا تفعل بحريتها. الحرية هنا ليست إرثاً بقدر ما هي انجاز محير، فتقلد "ريحانة" عمتها، وهذا يوازي "قانون الاستعمار" عندما يريد المستعمر ان يقلد مستعبديه، فتجن "ريحانة" بعد انحياز "ناصر" اللاإرادي الى جماعات الاسلام السياسي، وذهابه الى افغانستان، وموت "حبيب" وابنته "حلية" في حادث سيارة، وشرود "حراك" وانهياره. أما "شمسة" بكل تحولاتها وتطلعاتها وثقافتها وضغط الإرث العائلي، فتظل حالمة بمستقبل آخر، مستقبل يعيد تنصيب الاشياء في محلها الصحيح. إنها رواية مصائر، يتضافر فيها الصغير مع الكبير، والدرامي مع الوثائقي، والايديولوجي مع العاطفي والعارض مع الشمولي.