انطباعي الأول عندما قابلت صديقي عبدالرحمن في المرة الأخيرة، كان أنه... جن! اسمه بالكامل عبدالرحمن الخليل، له شقيقان وشقيقة، وهو آخر العنقود. عرفته منذ كنا على مقاعد الدراسة النظامية، ثم فرقت بيننا الدنيا. وبعد أربع عشرة سنة فوجئت به يطرق باب منزلنا ليهنئنا بحلول العيد. كان عبدالرحمن قد تغير كثيراً، أصبح في السابعة والعشرين رجلاً ذا وسامة واضحة، لبقاً، ومتحدثاً جيداً، ويعمل طبيب أسنان في مركز طبي كبير. تنوعت بنا الأحاديث في جلسة طويلة حافلة بالذكريات الحلوة، ولكن عندما سألته إن تزوج أم لا... ذكر لي أنه يبحث عن زوجة منذ فترة... وعندما أبديت له استعدادي لمساعدته أخرج لي من جيبه مجموعة أوراق أصابتني بالذهول! كانت الأوراق عبارة عن استمارة طويلة معدة بعناية، مملوءة بالعبارات والمواصفات وملونة. قال لي عبدالرحمن إنه يبحث عن شريكة حياته عبر هذه الاستمارة التي بدت لي شديدة التعقيد! أخذت الأوراق وبدأت أقرأ. جمع عبدالرحمن فيها كل المواصفات المحتمل وجودها في أي فتاة، وقسمها ضمن ثلاثة أبواب: الناحية الجمالية، المواصفات الدينية، فالمواصفات الاجتماعية. ثم وضع تحت كل باب البنود الرئيسة العامة، وتحت كل بند وضع الاحتمالات الممكنة كلها. فضمن باب المواصفات الجمالية وضع بند "البياض"، ووضع الاحتمالات "بيضاء جداً جداً، حنطية، سمراء فاتحة، سمراء غامقة، سوداء". وتحت بند "لون العينين" وضع احتمالات "أزرق سماوي، أخضر فاتح، أزرق غامق، أخضر زيتوني، شهل، بني، أسود"، وتحت بند "عيوب الوجه والرأس" "لا يوجد عيب، عيوب قابلة للإصلاح جراحياً، عيوب مقبولة غير قابلة للإصلاح جراحياً، عيوب غير مقبولة"، وضمن باب المواصفات الاجتماعية وضع تحت بند "اللباس والمأوى"، "بذخ وإسراف فاحش، ملائم لمستوى طبقتها، زهد في الكماليات، شح معيب". أما عن طريقة تطبيق الاستمارة، فخص عبدالرحمن كل احتمال بلون معين، شارحاً في آخر الاستمارة طريقة الحساب. ولم اتمالك نفسي من أن أبتسم وأنا أقرأ ما بدا لي معادلات رياضية صعبة!... ما تحته خط أحمر يرفض رفضاً باتاً ولو كان أمراً واحداً فقط. ما تحته خط أزرق مستحب ويجب توافر سبعة منه على الأقل. ما تحته خط أسود مكروه كراهة تنزيه! ويجب ألا يزيد مجموع ما تحته خط أسود على الخمسة. ما تحته خط أخضر مكروه جداً وينبغي ألا يزيد مجموعه على ثلاثة. ما تحته خط رصاصي لا يهم بحال، ولا يقدم ولا يؤخر أبداً. اما ما ظُلل بمستطيل خاص مستحب جداً ويغفر اذا توافر أمر أحمر واحد أو أمران أخضران! محسوبة بالإنش! يبدو من الطريقة التي وضع بها عبدالرحمن استبانته الظريفة أنه لم يغفل شيئاً من أحوال فتاة أحلامه المرجوة. فهو وإن كان يفضلها بلا عيوب خلقية في الوجه والرأس، إلا أنه من الممكن أن يقبل بها إن كان لديها عيوب قابلة للإصلاح جراحياً. يفضلها طويلة ما بين 162 سم و175 سم، نحيفة جداً جداً، ويرفضها تماماً إن كانت ممتلئة أو بدينة، ويتمنى لو كانت تحت سن الثامنة عشرة، ولكنه يرفضها تماماً إن كانت تعدت السادسة والعشرين. وهو لم يدع شيئاً من احتمالات مواصفاتها البدنية والجمالية، ولا حتى مستوى نظرها ودقته! ويبدو أن عقلية الطبيب تبحث عن امرأة عصرية. فهو يريد فتاته لبقة ومتأنقة، من مستوى مادي لا يقل عن المتوسط، تحمل شهادة جامعية مهنية، قوية الحجة وصاحبة نقاش، ويرفضها إن كانت بلدية أو قروية، أو جاهلة. كما أنه وضع مستطيلاً حول بند "تحمل جنسية غربية"، ما يعني أن لهذا الاحتمال مكانة خاصة يدفعه الى التغاضي عن بعض السلبيات في فتاته. أما عن المواصفات الدينية، فعلى رغم أنه يفضلها ذات علم شرعي، إلا أنه لا فرق لديه إن كانت محجبة أو غير محجبة، أو غير محتشمة أصلاً. ووضع تحت بند "الدين والمذهب" احتمال أن تكون سنية أو شيعية في مقام واحد، ثم في المرتبة التالية أن تكون نصرانية أو يهودية، ما يعني قبوله بفتاة غير مسلمة إذا توافرت فيها شروط أخرى يفضلها. بعد أن أنهيت قراءة هذه الاستمارة الظريفة ضحكت كثيراً، وضحك صديقي معي. قلت له إن فتاة أحلامه غير موجودة إلا في الأحلام فعلاً، ولكنه عارضني. وليثبت كلامه أخرج لي على الفور ورقة أخرى، كتب عليها النتيجة التي حصلت عليها فتاتان تعملان معه، بعد أن أجرى عليهما اختباره الخاص. الأولى موظفة استقبال، والأخرى طبيبة. الموظفة فشلت على رغم تفوقها الجمالي، بسبب حصولها على خمس خطوط خضر، بينما ينص قانون الاستمارة على أن الحد الاقصى للخطوط الخضر ثلاثة. أما الطبيبة فنجحت، ما أثار دهشتي وجعلني أعيد النظر في واقعية الاستمارة. عندما سألته لماذا لم يتقدم لها قال إنه وضعها في أول قائمة المفاضلة لديه!... يبدو أن بالك طويل يا صديقي!