عاد الرئيس جورج بوش إلى بلاده بعد غياب 150 دقيقة قضاها في العراق - وإن أردنا الدقة في مطار بغداد - مساء الخميس 27/11/2003 للاحتفال مع قواته بعيد الشكر وتوجه فور وصوله الى مزرعته في كروفورد - تكساس فوصلها فجراً. وأحيطت الزيارة بسرية بالغة وبذلت لاتمامها ترتيبات ضخمة غير عادية، فلم يعرف أحد من مطبخه الداخلي حتى زوجته بها إلا بعد أن تمت. وكان يتساءل طوال الوقت: "هل يمكن أو لا يمكن أن ندخل ونخرج من العراق بأمان؟" كان يقصد نفسه وجماعته المرافقة ولم يكن يقصد قواته المغروزة في العراق ولا يجد لها مخرجاً! وبلغ به الخوف حداً جعله يردد "كنت مستعداً لإعطاء أمر بالعودة لو أفشي سر الرحلة" بل حينما هبطت الطائرة في مطار بغداد أطفئت الأنوار في الطائرة وأغلقت نوافذها بالستائر وتسلل جرياً الى قاعة المطار الذي كان فيه 600 جندي وضابط يمثلون الفرق الموجودة وعددها 150000 فرد. ألقى عليهم رسالة العيد ثم حمل صينية كبيرة عليها ديك رومي ليشارك الجرسونات في تقديم الأكل للجنود وهو يردد "شكراً على خدماتكم" ثم استقل طائرته عائداً الى مطار أندروز... وأخذت صور الرحلة... وخلاص! لم ير الرئيس وحداته ولم يسمع منها ما تحسه ولم يناقش القادة ولم يقف على أحاسيسهم كقائد أعلى لقواته المسلحة... حط في مطار بغداد متسللاً وقضى هذا الوقت القصير ثم طار! زيارة خائبة علق عليها كثيرون تعليقات طريفة من بينها أنها عملية علاقات عامة موجهة الى الرأي العام الأميركي لتعزيز معركته الانتخابية القادمة... لو حدث وكسب لأيقنت أن الشعب الأميركي ساذج لا يحسن الاختيار لأن الزيارة بالطريقة التي تمت بها تدل الى أن قواته لم تحقق الأمن في العراق فدخل مطار بغداد متسللاً علماً بأن القائد يجب أن يكون في مقدمة قواته لا أن يتسلل مرتعداً خلفها أويهبط بمسؤولياته الرئاسية ليمثل دور جرسون يحمل صينية كبيرة عليها ديك رومي. *** ارييل شارون يحتل الأرض ويقلع أشجار البيارات ويرفض تنفيذ قرارات مجلس الأمن ولا يحترم الطلبات الأميركية القليلة ويهدم المباني ويقتل الأطفال والرجال والنساء ويحاصر شعباً بأكمله ويحدد إقامة رئيسه في "المقاطعة" ويبني المستعمرات والخط العازل... أبو عمار والرئيس الفلسطيني بالانتخاب يكافح للحصول على جزء من حقوقه التاريخية محدداً إقامته في "المقاطعة" يرى شعبه وهو يقتل وعشرات النعوش تحمل جثث الشهداء الى مقرها الأخير وآلاف من الشعب معطلة تكاد لا تجد لقمة العيش وجزء منه أصبح بلا مأوى بعد تدمير المنازل بالجرافات. الرئيس بوش ورجاله يقابلون شارون ويعترفون به وبأعماله. بل يعتبرونه رجل سلام في حين أن قياسات الرأي العام تعتبر إسرائيل أكبر مهدد للسلام... الرئيس بوش ورجاله لا يقابلون ياسر عرفات ولا يعترفون بشرعيته ويسمونه بالإرهابي! *** في خطابه في 6/11/2003 طالب الرئيس بوش بلادنا بالديموقراطية بصفته صاحب رسالة يعدل بها النظام العالمي وصاحب الرسالة يجب أن يكون قدوة وصحيفة سوابقه بيضاء ويقول ما يفعل... آل غور نائب الرئيس السابق يقول عن الرئيس بوش إنه يقوض الحريات المدنية للأميركيين ويستغل قصة الحرب ضد الإرهاب لتعزيز نفوذه السياسي بإجبار الشعب على التخلي عن حريته في سبيل تحقيق آماله في العيش في أمان وسلام... جاك بالكين أستاذ القانون الدستوري في جامعة ييل - كلية الحقوق يقول عنه إنه أخطر شخص على وجه الأرض فهو رجل فرد مدجج بالسلاح النووي يتصرف بسلوك عدواني وإن لم يحسن حساباته سيغرق العالم في الدم والفوضى... مؤسسة "يورو باروميتر" وفي استطلاع رأي عام قامت به بناء على تكليف من المفوضية الأوروبية وضعت بلاده في المرتبة الرابعة لأكثر الدول خطراً وتهديداً للسلام وكانت على رأس القائمة اسرائيل، فالطيور على اشكالها تقع. *** بعد سقوط بغداد في آذار مارس الماضي هبط الرئيس الأميركي على سطح حاملة طائرات ووقف يخطب وخوذته تحت إبطه ووراءه يافطة مكتوب عليها "انتهت المهمة" كانت استخباراته اخطرته بأن الشعب العراقي سيقابل قوات الغزو مغنياً راقصاً مردداً الأهازيج وبالأحضان... ولكن المهمة لم تنته. سقطت قيادة الجيش العراقي ولكن الشعب التقط الراية ليكمل المشوار... المقاومة مستمرة وهناك 30 - 35 غارة يومياً ضد قوات الاحتلال، وتصل يومياً إلى المطارات الاميركية 10 نعوش على الأقل فيها الجنود القتلى غير عشرات غيرهم يدخلون المستشفيات كجرحى... الأسلحة تحت التقليدية تواجه الترسانة التقليدية لجيش الاحتلال بالقنابل اليدوية والقنابل البشرية وبعربات الكارو كراجمات صواريخ وبالحمير والكلاب المفخخة... المهمة لم تنته بعد، بدليل أن القائد الأعلى للقوات الاميركية دخل متسللاً الى مطار بغداد ولم يمكث فيه الا 150 دقيقة، وعلى رغم ذلك يصرح الرئيس بوش ورجاله بأنهم مرتاحون الى سير الأمور في العراق وراضون عن سير العملية الديموقراطية وإعادة إعمار البلاد لتصبح نموذجاً ديموقراطياً! هل هذا حقيقي أم "هزار"؟ يتساءل البعض وأرد: نعم حقيقي فيضحكون لأن شر البلية ما يضحك!.. *** وزير الخارجية كولن باول يصرح في مؤتمر صحافي أثناء جولاته بأنه يلمس أن تقدير الشعوب للسياسة الاميركية أقل من تقدير حكامها وأن بلاده تواجه مشكلة جديدة في ما يتعلق بصورتها لدى الرأي العام الأجنبي. طيب يا سيدي انتم تنادون بالديموقراطية فهل تتعاملون مع الشعوب أم مع الحكام؟ التعامل طبعاً مع الحكام فهذه هي القاعدة ولكن مع الاستماع الى صوت الشعوب... كم من ذئاب وأفاع صنعتموها وتعاملتهم معها وبعدما نفذت ما تريدون تخليتم عنها فانطلقوا ليضربونا ويضربوكم... شاه إيران محمد رضا بهلوي كان يتولى حراسة مصالحكم بالوكالة رغم أنين الشعب وصرخاته، ولكن ماذا حدث للشاه؟ أصبحت الصورة الآن في ايران أن آيات الله غير راضين عن سياستكم والشعب ايضاً ساخط وكاره! يعني موقفكم هناك يتدهور من سيء إلى أسوأ! لماذا لا تتوقف وتسأل عن كيفية تصحيح المعادلة؟ لو أجبت عن ذلك تكون قدمت الإجابة التي يلح الرئيس في معرفتها عن السؤال الذي يردده دائماً: لماذا يكرهوننا؟! *** ولكن يبدو أنك لن تفعل شيئاً حتى إذا رغبت فهناك فروق كبيرة بين الرغبة والقدرة. دهشت لتصريحك الأخير أثناء وجودك في المانيا "لقد أخذت الدرس من وزير الخارجية الاسبق مارشال الذي قال إنه لا يستقيل من منصبه حتى لو اختلفت آراؤه مع آراء الرئيس فكان مارشال يعارض الاعتراف بإسرائيل كدولة عند قيامها بينما كان الرئيس هاري ترومان يرى عكس ذلك، ورغم ذلك، لم يترك مارشال مكانه"، ثم اضفت: "أحيانا أخالف رأي الرئيس ولكن لن أترك منصبي رغم ذلك، فالرئيس هو الذي يتحمل النتيجة وهو صاحب القرار". فهل تعني تلميحاً أنك تخالف سياسة الرئيس بوش في تأييده المطلق لإسرائيل ورغم ذلك فإنك لا تفكر في التخلي عن منصبك، ومستمر في تنفيذ سياسة لا تؤمن بها؟! *** قال الرئيس بوش أخيراً إنه لن يغادر العراق هو وقواته إلا بعد أن يقبض على صدام، وكان قال ذلك أيضاً عن الشيخ عمر وبن لادن والظواهري في افغانستان... دونالد رامسفيلد يقول "إن العثور على صدام كمن يبحث عن ابرة في كوم قش". سبق للرئيس الاميركي أن قال إنه سيغزو العراق لنزع أسلحة الدمار الشامل التي تهدد اميركا... ولا يزال هو وقواته يبحثون ولا يجدون شيئاً...! عيب على دولة عظمي أن تبقي قواها للبحث عن شخص مهما كانت خطورته... الخطط الكبيرة والامكانات العظيمة لا تتناسب أبداً مع هذه الأغراض الصغيرة. ومن المعروف أن السلاح لا بد أن يتناسب مع الغرض الذي يتعامل معه فلا تجوز مطاردة لص باستخدام المدفعية ولا يعقل تفريق تظاهرة باستخدام الطائرات، فالعقاب لا بد أن يتناسب مع الجريمة. أين استخباراتكم، إذن، التي قال عنها أحد الصحافيين المصريين الكبار "إذا كنت تشرب فنجاناً من القهوة فإن الاستخبارات الاميركية في لانغلي في واشنطن يمكنها أن تعرف هل هي قهوة بسكر على الريحة أو بسكر مضبوط أو بسكر زيادة أم أنها قهوة سادة"؟ أين استخباراتكم التي قررت أن العراقيين سيقابلون قوات الغزو بالزغاريد، مما تسبب عنه خطأ مميت في انتشار قواتكم اثناء تنفيذ خطة الغزو وحيرتكم الملموسة في التصرف بعد نهاية الحرب؟ العيب الأساسي في السياسة الاميركية أنها تتعامل مع أو ضد اسماء... شاه إيران، صدام التكريتي، الشيخ عمر والظواهري وبن لادن، أبو عمار، الإرهاب... الاستمرار في هذا الخلط يسبب عدم الاستقرار العالمي والاقليمي والقطري. *** في الوقت الذي تقوم اسرائيل بجرائمها في فلسطين، وفي الوقت الذي تتحدى قرارات مجلس الأمن بخصوص بناء الجدار العنصري والمستعمرات، وفي الوقت الذي تدير ظهرها للاعتراضات الاميركية على بناء الحائط يوافق الرئيس الاميركي على اعطاء إسرائيل ضمانات قروض بمبلغ 10 بلايين دولار!.. لمواجهة إصرار اسرائيل على موقفها أعلن الرئيس بوش خصم 250 مليون دولار من القروض التي ستستولي عليها اسرائيل بضمان اميركي!.. النقود ليست نقود اسرائيل تماماً كحال بعض رجال الأعمال عندنا الذين يستولون على أموال البنوك ويستخدمونها في أغراضهم الخاصة أو يهربون بها الى الخارج. فإذا قرر الرئيس الاميركي خصم 250 مليون دولار من قرض حجمه 10 بلايين دولار فهو عقاب مضحك لا يستحق مدحاً من الجامعة العربية اصدره الناطق الرسمي باسم أمينها العام في صحيفة "الاهرام" 1/12/2003 وإسرائيل لا تشكر أبداً بل تأخذ وتطالب بالمزيد. *** السياسة الأميركية بالنسبة الينا فيها طرائف كالمبكيات وكتبنا مراراً أن على واشنطن ألا تخلط الجد بالهزل في سياستها حتى تتعامل بجد وصدقية مع عدالة القضايا الخطيرة التي تهدد استقرار المنطقة. ولكن يبدو اننا ننفخ في "قربة مقطوعة" أو أن الحديث موجه الى آذان صماء مسدودة بالطين وليس بالعجين كما كنا نقول زمان لأن العجين غال ونادر!.. * كاتب وزير دفاع مصري سابق.