Anne-Marie Ducroux ed.. Les Nouveaux Utopistes du Developpement Durable. طوباويّو التنمية المستدامة الجدد. Autrement, Paris. 2003. 342 Pages. أغلب الظن ان التنمية المستدامة ستكون يوطوبيا القرن الحادي والعشرين. لكنْ خلافاً لليوطوبيات التي رأت النور في القرن التاسع عشر وجرت محاولات فاشلة لتطبيقها في القرن العشرين، فان التنمة المستدامة مرشحة لأن تكون يوطوبيا واقعية. فهي، أولاً، يوطوبيا لأنها تريد العالم لا كما هو كائن، بل كما ينبغي ان يكون. وفي الوقت نفسه واقعية لأنها تريد العالم كما يجب ان يكون انطلاقاً مما هو كائن عليه. وذلك هو أصلاً تعريف أرنست بلوخ لليوطوبيا: فليست هي هرباً الى اللاواقع، بل استكشاف في للامكانيات الموضوعية للواقع وجهد دائب لاخراجها من حيز الامكان الى حيز الوجود. التنمية المستدامة رأت النور كمفهوم في عام 1980، في سياق التقرير الذي كان نشره في ذلك العام "الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة" ولكن لم يعم استخدامه في الحقل التداولي للناشطين في مجال علوم البيئة والاقتصاد والانسان الا ابتداء من 1987، بعد ان جعلت منه السيدة برونتلاند، رئيسة وزراء النروج في حينه، مفهوماً مركزياً في التقرير الذي أعدته تحت عنوان: "مستقبلنا جميعاً" وقدمته الى الجمعية العامة للأمم المتحدة بصفتها رئيسة "اللجنة العالمية للبيئة والتنمية". وفي هذا التقرير، الذي اعتمدته قمة الأرض الاولى في ريو دي جانيرو عام 1992، تم تحديد التنمية المستدامة على انها تلك "التنمية التي تلبي حاجات الحاضر من دون ان تضر بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية حاجاتها بدورها". وكما يمكن ان يُستشف من التعبير نفسه، فان التنمية المستدامة تقرن بين مفهومين: "التنمية" و"الديمومة". فالتنمية تمثل قدرة الانسان على تحسين مصيره باستمرار، والديمومة تلزمه بأن يأخذ بعين الاعتبار مستويات الزمن بحيث لا تتم تنمية الحاضر على حساب المستقبل. فصحيح ان التقدم التكنولوجي وهو وسيلة الإنسان الأولى لتحسين مصيره مفتوح الى ما لانهاية، لكن طاقات الأرض نفسها محدودة، ومصادرها قابلة للنضوب، والبشرية، التي تتكاثر بمعدل 87 مليون نسمة كل سنة، مرشحة خلال الخمسين سنة القادمة لأن يتجاوز تعدادها التسعة بلايين نسمة. وفي الوقت الذي يرفض فيه مفهوم التنمية المستدامة ديكتاتورية الحاضر على المستقبل، فإنه يرفض أيضاً ديكتاتورية الشمال على الجنوب. فحاضر التنمية كان حتى الآن حاضراً شمالياً، ومستقبل التنمية لا بد ان يكون ايضاً جنوبياً ليعم جملة البشرية، مثلما يعم جملة مستويات الزمن. فعلى حين ان سكان الشمال لا يمثلون سوى 20 في المئة من سكان العالم فإنهم يستهلكون 85 في المئة من اخشابه، و75 في المئة من معادنه، و60 في المئة من طاقاته الحرارية. وفي الوقت الذي يستأثر فيه خمس سكان العالم من الشماليين بأربعة أخماس الناتج الاجمالي العالمي، فان 1.4 بليوناً من سكانه الجنوبيين لا يجدون منفذاً الى ماء الشرب الصحي، و1.3 بليوناً لا يجدون منفذاً الى الطاقة. واذا استمرت المعطيات على ما هي عليه اليوم، فان المحرومين من ماء الشرب سيناهز تعدادهم الثلاثة بلايين في ربع القرن القادم. وتصحيحاً للعلاقات الشديدة الإختلال بين الشمال والجنوب، إخترع أنصار التنمية المستدامة والشاملة للبشرية جمعاء مفهومين: "الدَين الأيكولوجي" و"البصمة الأيكولوجية". فمديونية بلدان الجنوب للشمال وصلت في العام 2003 الى نحو من 1900 بليون دولار. واذا اخذنا بعين الاعتبار ان هذه المديونية ما كانت تتعدى 65 بليوناً في 1970 فهذا معناه انها قد تضاعفت في مدى ثلث قرن نحواً من ثلاثين ضعفاً. واذا اخذنا بعين الاعتبار أيضاً الفوائد التي سددتها بلدان الجنوب الى الشمال خلال الفترة الممتدة بين 1980 و1990 وحدها فانها تكون قد دفعت ثلاثة اضعاف ما استقرضته في البداية. ومن هنا قرر أنصار التنمية المستدامة في منتدى 2002 في مدينة بورتو اليغري في البرازيل ان ذلك الدين قد غدا "غير مشروع وغير عادل وغير أخلاقي". ومقابل هذا "الدين المالي" الذي بات بحكم اللاغي، يرى أنصار التنمية المستديمة، الممثلون بوجه خاص بجماعة "أصدقاء الأرض"، ان بلدان الشمال المصنعة تدين لبلدان الجنوب، المتخلفة والنامية على حد سواء، ب"دين ايكولوجي". وبدون ان تتوفر اأرقام احصائية عن هذا الدين، فان الفاتورة التي ينبغي على بلدان الشمال المغتنية ان تسددها لبلدان الجنوب المفقرة لا بد ان تغطي البنود التالية: 1- النهب والدمار الذي تعرضت له بلدان الجنوب في اثناء الحقبة الاستعمارية. 2- استخراج موارد الجنوب الطبيعية من نفط وفلزات وغابات وموارد بحرية. 3- الحدود اللامتكافئة للتجارة العالمية المتمثلة بالانخفاض المطرد في أسعار المواد الأولية التي يصدرها الجنوب والارتفاع المصطنع في أسعار السلع الصناعية التي يستوردها من الشمال. 4- اضطرار الجنوب الى تخصيص أخصب أراضيه وهدر مياهه من أجل تطوير زراعاته التصديرية استجلاباً للقطع النادر، مما يعرّض للخطر السيادة الغذائية والثقافية لسكان الجنوب. 5- تلويث الجو من جراء فرط إفراز البلدان المصنعة لأنواع الغازات، لا سيما ثاني اوكسيد الفحم الذي تفرزه السيارات التي يمتلك الشمال 75 في المئة من رحبتها العالمية. ولو تعادل الحق في افراز ثاني اوكسيد الفحم بين الشمال والجنوب لتعين ألا تتجاوز حصة الفرد الواحد من سكان العالم 1.6 طناً في السنة من هذا الغاز، على حين ان هذه الحصة ترتفع اليوم في بلدان الشمال الى نحو من عشرة أطنان وتنخفض في بلدان الجنوب الى اقل من نصف طن. 6- انتاج الاسلحة والمواد الكيماوية والنووية والنفايات الذرية التي تدفن اليوم في كل مكان من بلدان الجنوب، فضلاً عن ملايين الألغام المتخلّفة عن الحرب العالمية الثانية والتي لا تفتأ تقتل وتشوّه الآلاف في بلدان الجنوب، والتي تكلف إزالتها عشرات البلايين من الدولارات. وبالاضافة الى هذا "الدين الايكولوجي"، يقترح انصار التنمية المستديمة اعتماد "البصمة الايكولوجية" لردم هوة التفاوت الايكولوجي بين بلدان الشمال والجنوب. ويعود الفضل في ابتكار هذا المفهوم الى الكنديين وليم ريز وماتيس واكرناجل في كتابهما الصادر عام 1994 تحت عنوان "بصمتنا الايكولوجية". وتقريباً لهذا المفهوم الى الذهن ينبغي ان يتصور الواحد منا انه روبسنون كروزو، او صنوه حي بن يقظان بطل قصة ابن طفيل الأندلسي، وانه يعيش في جزيرة مقفرة. فما حجم الجزيرة الذي سيحتاج اليه كل واحد منا ليعيش في حالة استلقاء ذاتي بصورة مستدامة وليلبي حاجاته من الغذاء والتدفئة ومواد البناء والهواء النقي والماء العذب وتصريف النفايات؟ هذه المساحة هي التي تمثل البصمة الايكولوجية لروبنسون كروزو أو حي بن يقظان. وبديهي ان نمط حياة بطلنا هو الذي سيحدد مدى ضغطه على جزيرته. فلو أشعل مثلاً، في كل ليلة ناراً اكبر من حاجته، اي لو جعل بصمته الايكولوجية اكبر من حجم جزيرته، لتهدد بقاؤه على المدى الطويل. والحال ان البشرية في جملتها هي كروبنسون كروزو في جزيرته: فالبصمة الايكولوجية للبشرية هي المساحة التقديرية من البر او البحر الضرورية بيولوجياً لتلبية جملة حاجاتها مع ضمان بقائها بصورة مستدامة. وتقاس هذه البصمة بهكتار وسطي انتاجي، وهي تصلح لاستعمالات، وبالتالي لقياسات، شتى: العمران المدني، افراز وامتصاص ثاني اوكسيد الفحم، الصيد البحري، استغلال خشب الغابات، الرعي، الزراعة. وتبعاً لتقارير معاهد البحث المتخصصة فان البصمة الايكولوجية الاجمالية للبشرية قد تصاعدت خلال السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة وصار حجمها اكبر من طاقة الأرض. فالمساحة الانتاجية المتاحة بيولوجياً للفرد الواحد من سكان الارض قدرت في 1997 بنحو من 2.1 هكتاراً، على حين ان المعدل الوسطي للبصمة الايكولوجية العالمية قد بلغ 2.9 هكتاراً. ومعنى ذلك ان استهلاك البشرية يتجاوز طاقة الأرض بأكثر من 35 في المئة. على ان استهلاك الفرد الواحد من سكان الشمال يزيد بنحو ثمانية أضعاف على استهلاك صنوه الجنوبي. فالبصمة الايكولوجية للاميركي تصل الى زهاء 12 هكتاراً وللفرنسي الى 7.6 هكتاراً لكنها تنخفض، في المقابل، بالنسبة الى الآسيوي الى 2 هكتار والى الافريقي الى 1.5 هكتاراً. ولو كان جميع سكان الأرض يعيشون كما يعيش الأميركي، لاحتاجت البشرية الى خمسة كواكب أرضية إضافية لتعيش بصورة مستدامة. وهذا معناه ان الشمال هو المطالَب الأول بتقليص بصمته الايكولوجية تحت طائلة أزمة مفتوحة في المستقبل الايكولوجي للبشرية.