لن يقول لنا الفرحون باعتقال صدام حسين على ذلك النحو الذليل إن ما جرى له كان بسبب دكتاتوريته ودمويته مع الشعب العراقي، اللهم إلا إذا كان بإمكانهم أن يفسروا لنا ذلك الدفء الذي حصل عليه الدكتاتور حيدر علييف في مستشفيات الولاياتالمتحدة، وتلك الرعاية التي حظي بها نجله وصولاً إلى تنصيبه خليفة لأبيه في التحكم برقاب البلاد والعباد. من المؤكد أنه كان بإمكان صدام، ذلك الدكتاتور البشع ذو الشعر المنكوش والعيون الزائغة أن يكون في وضع آخر تماماً، يعيش أجواء الف ليلة وليلة في قصره الجمهوري. اما الوصفة لتحقيق ذلك فليست سراً هيروغليفياً تفرّد بفك رموزه البعض فيما عجز الآخرون، بمقدار ما هي فاتورة معروفة البنود كان عليه أن يقدمها لسادة البيت الأبيض، كما قدمها آخرون سيظلون موضع الرعاية حتى في زمن التبشير بالشرق الأوسط الجديد وفق وصفات كوندوليزا رايس وأصدقائها الصقور الآخرين. من حق العراقيين أو غالبيتهم أن يحتفلوا بنهاية الطاغية، فذلك حق لهم، وهم معذورون حين لا يرون سوى جراحهم وعذاباتهم ودماء ابنائهم وأهلهم وذويهم، لكن الآخرين حكاية أخرى مختلفة. نذكّر بذلك لأن من حق هذه الجماهير العربية والإسلامية البريئة والرائعة من المحيط إلى الخليج ومن طنجة إلى جاكرتا أن تجد من يدافع عنها ويشرح أسرار انحيازها لذلك الطاغية، خصوصاً في أعوامه الأخيرة. إنها بكل بساطة جماهير تدرك المعادلة المعروفة التي أشرنا إليها آنفاً عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء استهداف صدام حسين، بعيداً عن أكاذيب الإعلام الأميركي وما يروّجه بعض النخب العربية مما يصب في الخانة ذاتها. إنها جماهير مطحونة بالقمع والفساد في أكثرية دولها، لكنها تقارن بين قمع وفساد مشفوع بمواقف وطنية تتحدى الدولة الأكثر استهدافاً للعرب وللإسلام والمسلمين وبجانبها طفلتها المدللة "إسرائيل"، وبين فساد وقمع يسيًج نفسه بالتبعية للخارج في مواجهة الجماهير. تحتاج هذه الجماهير إلى شرح ما تشعر به وتراه ممثلاً في استهداف الرجل، خلال مرحلته الأخيرة، وهو ما سنقوم به هنا في سياق تعداد حسنات الرجل، ربما لإكمال المشهد، خصوصاً في ضوء الأجواء السائدة التي لا تعرف سوى احاديث المقابر الجماعية التي تخصص فيها الكثيرون. حين تورط صدام حسين في حربه مع إيران لم ينل من الشارع العربي والإسلامي سوى السخط، بل إن الحملة الإعلامية المركزة لصالحه التي شاركت فيها أنظمة ونخب لا تحصى طالما انتفعت بعطاياه لم تؤد إلى نتيجة، وبقيت الجماهير على قناعتها بأنها بإزاء معركة لا خير فيها للعرب ولا المسلمين بقدر ما كانت خدمة لمصالح الكبار وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة. لكن المشهد بدا مختلفاً في الجولة التالية عام 90 حين بدأ الضغط الأميركي على الرجل لشطب قدرته العسكرية، ومن ثم تورطه في حرب الكويت واصطفاف العالم في مواجهته. هنا بدا التعاطف واضحاً، وإن لم يكن كذلك مع منطق الغزو للجارة العربية. منذ ذلك التاريخ، أي مشهد هزيمة حرب الكويت، كان صدام يدخل في وعي الجماهير بوصفه الرجل الذي يتحدى كبرياء الولاياتالمتحدة وغطرستها. والحال أن ذلك لم يكن تزويراً للحقائق، فقد جاءت سنوات مدريد ومن ثم أوسلو ووادي عربة لتؤكد أن الرجل لم يكن في وارد البيع في سوق "الشرق أوسطية"، وأن إمساكه بمنطق الصراع الجذري مع الاحتلال الإسرائيلي لم يكن زائفاً. وهنا لا بد ان تنكر النخب إياها وجود عرض لمقايضة العقوبات والحصار بالدخول في لعبة "بيريس" إياها وتوفير الفرصة لدولته كي تلتف حول المنطقة بعد تحالفها الاستراتيجي مع أنقرة، لكن معلومات كثيرة مشفوعة بالتحليل المنطقي تقول بخلاف ذلك. بل إنها تقول ايضاً إن المساومة حول الملف المذكور قد امتدت على طول ولاية كلينتون الأولى ومن ثم الثانية من دون جدوى. لم تتوقف حسنات صدام في الوعي الجماهيري عند ذلك، فقد جاءت انتفاضة الأقصى التي حازت حضوراً استثنائياً في ذلك الوعي لتضع صدام المحاصر في قمة الداعمين للشعب الفلسطيني وقواه المقاومة. خلال هذه المرحلة بدأت لعبة ما بعد 11 أيلول سبتمبر، وهنا أدار صدام معركته مع الولاياتالمتحدة على نحو يخدم مصالح الأمة العربية ومعها مناهضي الغطرسة الأميركية. وذلك من خلال استجابته لكل مطالب التفتيش الدولي على أسلحة الدمار الشامل. وعندما سقط النظام تبين أن ثمة حسنة أخرى تتمثل في عدم وجود أسلحة دمار شامل بالفعل، ما أسقط ذريعة الحرب وترك الولاياتالمتحدة عارية أمام الرأي العامل الدولي، الرسمي منه والشعبي، بدليل مظاهرات الرفض لسياساتها والمرتبة التي حصلت عليها في استطلاع الاتحاد الاوروبي حول الدولة الأخطر على السلم العالمي، حيث حازت المرتبة الثانية بنسبة 53 في المئة. نأتي هنا إلى مرحلة ما بعد التاسع من نيسان، فإذا كان لصدام دور ما في المقاومة، وهو دور محدود جداً حسب قناعتنا، فإن ذلك قد خدم العراق، بل إن مناهضي المقاومة كانوا ولايزالون الأكثر جنياً لأرباحها.أما حسنته الأخيرة، وإن لم يقصدها، فقد تمثلت في اعتقاله على ذلك النحو الذليل، وهو أمر، وإن بدا مؤسفاً بالنسبة للروح الجمعية للأمة، إلا أنه كان مفيداً كي تتنفس من خلاله أحقاد ما كان لها أن تتنفس إلا في مشهد إذلال لمن قتل وأذلّ وأثكل على نحو لا يوصف. الآن يغيب صدام وبغيابه يقدم خدمة أخرى للمقاومة التي ستتحلل من حرج الارتباط به، وستكون فرصتها أكبر في حشد الأنصار وتقليل الأعداء، ما يجعل فرصة الاحتلال في الاستقرار محدودة، أكان تحت وطأة المقاومة، أم في مواجهة المطالبين بإعادة السيادة للعراق وأهله. هكذا خدم صدام العراق وأهل العراق كما ساهم في تحجيم قوة متغطرسة لا تسعى لتركيع أمة العرب لها ولطفلتها المدللة "إسرائيل" فحسب، بل تريد عالماً من العبيد ليس له إلا سيد واحد هو جورج بوش. وهو أمر لا يمكن أن يحدث لأنه يخالف سنن خالق هذا الكون من الأزل. كل ذلك لا يوازي بالتأكيد حجم جرائمه بحق العراقيين، أقله من وجهة نظرهم ووجهة النظر الانسانية عموماً، لكنها كلمة لا بد منها كي لا يمشي التاريخ على قدم واحدة، ويغدو مناهضي القمع والشمولية ممارسين لها في وضح النهار. * كاتب من الأردن.