من دون شك، يمثل اعتقال الرئيس العراقي السابق صدام حسين نقطة تحول أساسية لا في تاريخ العراق وحده، بل في تاريخ المنطقة برمتها. وبدأت النقاشات تحتدم بصورة واسعة، إن بين العراقيين انفسهم أو في الأوساط العربية والأميركية والأوروبية، في شأن طريقة محاكمته المرتقبة والمصير الذي ينتظره بعد عقود من ممارسات دموية واجرامية ارتكبها في حق شعوب العراق والانسانية جمعاء. وعلى رغم ان هذه النقاشات لا تزال تحمل كثيراً من العموميات والفرضيات، فإنها توفر في الوقت عينه فرصة مثالية أمام العراقيين لتسليط ضوء ساطع وحقيقي على ملمح اساس من ملامح العراق المستقبلي الذي ينشدون بناءه: ملمح التسامح والأمل ونبذ الكراهية والأحقاد ووضع حد لسيول الدماء. مثل هذا الملمح لا يتجسد فقط في تجاوز التراث السياسي والنفسي والأخلاقي لصدام حسين، وهو بالمناسبة تراث نابض ومستمر بقوة في أوساط عربية وعراقية عدة، وعرّفه الكاتب حازم صاغية في أحد تعليقاته في صحيفة "الحياة" ب"الصدامية"، إنما يتجسد أيضاً في نبذ أحكام الإعدام في العراق الديموقراطي المرتقب حتى بحقّ رجل أفقدته الجرائم صوابه مثل صدام. في هذه الأثناء، يظل السؤال مطروحاً: كيف يمكن العراقيين أن يؤكدوا انسلاخهم من تراث النظام السابق والارتباط بتراث انساني وديموقراطي جديد؟ كيف يمكن هذه الحال أو التحولات المعنوية، ان تُثبت حدوثها في وقت يحمل فيه الخارج من حفرة العنكبوت على أكتافه وفي طيات لحيته ونظراته التائهة التي لا توحي إلا بعيني ذئب مطارد، وزر أكثر من ثلاثين سنة، أذاق خلالها شعب العراق وجيرانه والعالم أجمع مرّ العذاب؟ الإجابة عن هذا السؤال، بكل صراحة، يمكن ايجازها في قول مفاده ضرورة إعلان العراقيين نبذ فكرة انزال حكم الإعدام بصدام حسين حينما تتاح فرصة محاكمته داخل العراق أو خارجه. بدءاً، لا بد من القول ان صدام حسين يستحق كل عقاب صارم على ما اقترفه من جرائم وممارسات بشعة في حق العراقيين، عرباً وكرداً، وفي حق الانسانية جمعاء. وان الذاكرة العراقية قد تنسى أشياء كثيرة، لكنها قطعاً لن تنسى الى زمن غير منظور صور حلبجة وضحايا الأنفال والأهوار وحملات القتل وضحايا الحروب والمعوقين والأمهات الثكالى والتوابيت. لكن المهم بالنسبة الى العراقيين الذين يغذون السير وسط مرحلة معقدة وحافلة بالألغام والمخاطر، أن ينتبهوا الى حقائق اساسية قد تؤثر في شكل حاسم وعميق في حياتهم ومستقبلهم وتجربتهم في بناء عراق جديد: - ان أسوأ ما في صدام حسين انه استثمر نزعات التخلّف والريفية والقبلية في المجتمع العراقي لبناء منظومة متكاملة من القيم اللاإنسانية وثقافات القتل والقوة والانتقام. هذه المنظومة السلوكية غير السوية، رسخت بدورها ممارسات وجرائم توزّعت بين قتل انسان واغتصاب فتاة واعتقال عشوائي وسلب حقوق، مروراً بتدمير قرى وبيئات بشرية وقتل مجموعات سكانية مدنية وإبادة اعراق الى إشعال الحروب وشن الغزوات الهمجية. الى ذلك، أخذت هذه المنظومة تبني لدى الانسان العراقي، بعد أكثر من ثلاثة قرون من التغذية الفكرية والتعليمية والتربوية، نسقاً مرضياً يتجسد في إحدى صوره في مبادئ ليس أقلها ان القوة فوق الجميع، وأن الزعيم الذي يمثل الظل السامي على الأرض هو مصدر القوة ومالكها. وكان من شأن كل ذلك أن يفتح أمام العراقيين لا باباً واحداً من أبواب جهنم بل جميعها: حملات تصفية دموية، تعذيب وحروب، وحضّ النفس الانسانية على الكراهية وتقديسها، وإحلال القتل والترويج لفكرة القتيل الخائن والشهيد البطل. أما العراقيون فمنهمكون، بتعاون مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا والمجتمع الدولي ومنظمات غير حكومية، في بناء ما يصفونه بأنه سيكون عراقاً ديموقراطياً مختلفاً في كل تفاصيله عما رأيناه في العراق القديم. لكن المشكلة التي لم تنتبه اليها سوى أوساط عراقية محدودة، ان هذا البناء لا يمكن أن يكون سليماً ومتيناً وحقيقياً إذا لجأنا الى تقمص الشخصية الانتقامية والثأرية لصدام حسين واستعرنا لغته ونظراته المترعة بالحقد والكراهية، وغلّبنا منطق القتل والإعدام على سوية التسامح الذي افتقده صدام حسين كلياً. وبمعنى آخر، لا يمكن اعدام صدام حسين، إن في الشارع أو عبر القانون والمحاكمة، أن يكون سوى استمرار له في السلطة لا بشخصه وجسده، وإنما بفكره وعقليته وثقافته السياسية السوداء. يواجه العراق في مرحلته الراهنة تحديات سياسية وقانونية غير قليلة أهمها التخلخل الحاصل بين تكويناته الداخلية والصراعات الخفية التي تتحكم بهذا التخلخل. وفيما الحال على هذه الشاكلة، فإن إعدام صدام حسين لن يكون سوى التدجين الأول لطريق التصفيات والدماء والحبال الدموية بين هذه التكوينات العراقية. هنا، يصح التساؤل: هل يمكن إعدام صدام حسين أن يسهم في تخفيف حدة هذه الصراعات، أم انه سيزيدها اشتعالاً: ثم هل يمكن إعدامه أن يضع نهاية للتوترات العرقية والمذهبية في العراق، أم سيزيد من أوارها ويهيئ مثالاً شديد السواد لثقافة القتل والثأر في العراق المستقبلي؟ حين نفكر بعقل صدام حسين، وبثقافة الحجاج بن يوسف الثقفي، ونسمح لعروقنا الشرقية بصوغ الردود الاحتقانية، يكون الرد: إعدام صدام حسين سيشبع ظمأ جموع غفيرة من العراقيين ويهدئ من روعهم ويضعهم على طريق التطلع نحو المستقبل. لكن، أي ظمأ هو هذا؟ ظمأ الى ثقافة القتل التي جسدها صدام حسين أم الى ثقافة التسامح التي نريد تجسيدها في العراق المستقبلي؟ أما إذا فكرنا بعقل هادئ انساني، فالأكيد أننا سنحسب قيمنا الانسانية ومستقبل بلدنا وحرصنا على قطع الطريق على كل مكروه دأب صدام حسين على فتح الأبواب أمامه. ونقول بصوت قويّ وثابت: نعم لمحاكمة صدام حسين في العراق، ولكن في الوقت عينه نعم لتحويل مناسبة انزال العقاب القانوني بهذا المجرم الى فرصة لتأكيد تمسكنا بسويّتنا الانسانية الرفيعة التي تدعونا الى بناء عراق مستقبلي بعيد من تراث الكراهية والثأر الدموي. في سياقات ذات صلة، لا بد من التذكير بجملة ملاحظات: أولاً، لا يعني هذا الكلام الدعوة الى اعطاء أي مكان سياسي لبقايا صدام حسين أو لامتداداته الحزبية والايديولوجية في العراق الجديد. فالتعددية والتسامح لا يعنيان على الاطلاق إفساح المجال أمام أفكار وأنماط سياسية شوفينية ودموية وغير انسانية اثبتت ارتباطها الوثيق بثقافة القسر والإكراه والقتل. ثانياً، لا يعني هذا الكلام، أيضاً، التقليل من شأن صدام حسين أو الدعوة الى تخفيف العقوبات التي تنتظره، بل يعني ضرورة الحكم عليه وفق معايير حضارية تسهم في رسم مفترق بين العراق القديم الذي تشبعت شوارعه ودهاليزه وساحاته بدماء أبنائه، والعراق الجديد الذي ينبغي أن تحرَّم فيه عقوبة الموت حتى بحق رجل غائر في الدماء مثل صدام حسين. ثالثاً، لا يعني هذا الكلام الالتقاء مع جهات وأوساط من بقايا النظام السابق أخذت تدعو الى عدم محاكمته في العراق ونقله الى الخارج ليمثُل أمام محكمة دولية، بحجة ان المحاكم العراقية مسيّسة وغير مؤهلة للبت في قضيته، ولا التقاءً مع أوساط ثقافية وليبرالية وديموقراطية ترى ان العراق في وضعه الثقافي الاحتقاني الراهن قد لا يمثل الموقع الأفضل لإجراء محاكمات من هذا النوع. رابعاً، ان المفرح في الحال العراقية أن بعضاً من أعضاء مجلس الحكم متفهمون لأهمية نبذ حكم الإعدام بحق صدام حسين على رغم معرفتهم بأحقيته في تحمل كل انواع العقوبات الصارمة. والأرجح ان بعضاً من أسباب هذا التفهم يعود الى اقامة هؤلاء سنوات طويلة في العالم الغربي احتكوا خلالها بالتجارب الانسانية وأفكار التحضر الانساني، واستوعبوا تيارات الديموقراطية والتسامح في عالم اليوم. والمفرح أيضاً ان قطاعات غير قليلة من العراقيين، مثقفين وكتاباً وفنانين ونخباً، ممن عاشوا الهجرة القسرية أو الطوعية مدركون حقيقة قانونية وانسانية مهمة مفادها أن عقوبة المجرم لا تعني بالضرورة اعدامه وسلب حق الحياة منه. لذلك كله، قد يكون صعباً على الأذن العراقية ان تسمع رأياً يدعو، لا الى الرأفة بصدام حسين لأنه ليس جديراً بالرأفة، إنما الى عدم إعدامه انطلاقاً من سوية انسانية طالما افتقدها العراق. ولكن مع هذا، يظل نبذ حكم الإعدام في حق صدام حسين، في محكمة عراقية أو غير عراقية، بمثابة المحك الأساس لما سيكون عليه العراق مستقبلاً والألوان التي ستطبع ملامح ديموقراطيته المرتقبة. * كاتب كردي عراقي، وهو كاد يشرف على الموت في العام 1987 إثر محاولة تسميم تعرض لها مع عدد آخر من زملائه، نفذتها أجهزة الأمن والاستخبارات العراقية في شمال العراق.