حدث غير عادي في تاريخ الأحزاب السياسية المصرية يشهده حزب التجمع الوطني التقدمي، الذي يضم أهم أطياف اليسار في مصر، خلال مؤتمره العام يومي الأربعاء والخميس 17 و18 المقبلين. فللمرة الأولى، منذ العودة الى نظام تعدد الأحزاب في عام 1976، يعتزل رئيس حزب ويُنتخب رئيس جديد. أصر خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع على أن يشمله التعديل الذي أدخله الحزب في لائحته ليمنع استمرار أي قيادي في موقعه لأكثر من مدتين 8 سنوات. الحدث ليس عاديا لأنه لم يحدث من قبل في التجربة التعددية المصرية الحالية التي تجاوز عمرها 27 عاما. وسجل حزب التجمع اليساري هذا السبق، وأصبح ثاني حزب يستبدل رئيسا له في تاريخ مصر الحديث بعد حزب الأحرار الدستوريين الذي نشأ في 1922 وحلته ثورة 1952 مع غيره من أحزاب تلك المرحلة. فقد تعاقب عليه أربعة رؤساء خلال هذه الفترة هم عدلي يكن 1922-1924 وعبد العزيز فهمي 1925-1926 ثم محمد محمود 1929-1941 بعد حوالي ثلاث سنوات أمضاها الحزب من دون رئيس. وعندما توفي محمد محمود في مطلع 1941، عاد عبد العزيز فهمي رئيساً موقتا حتى انتخب حمد حسين هيكل رئيسا في 1943. وبقي حتى حل الأحزاب في 1953 . وهكذا كان حزب الأحرار الدستوريين الليبرالي ثم حزب التجمع اليساري الأكثر ديموقراطية في تجربتي الربعين الثاني والأخير في القرن العشرين. وها هو التجمع يرتقي بديموقراطيته الى مستوى التداول على رئاسته، الأمر الذي يصعب تخيله في أي من أحزاب المعارضة الأخرى. فقد ظلت الديموقراطية بعيدة المنال في الأحزاب العربية عموما. وهنا يكتسب حدث التجمع أهمية أكبر لأنه يأتي بعد أيام على استقالة عبد الرحمن اليوسفي من قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية في المغرب وانتخاب محمد اليازغي أمينا عاما كاتبا أول جديدا. فتزامُن الحدثين يثير سؤالا كبيراً: هل يمكن النظر إلى استبدال رئيسي الحزبين باعتباره مؤشراً على تطور في داخل الأحزاب العربية يجعلها أكثر ديموقراطية، وبالتالي أفضل أداء، أم أننا إزاء حالتين تخصان حزبين عرفا مستوى معقولا من الديموقراطية منذ تأسيسهما لأسباب تتعلق بتركيبهما التعددي؟ أهمية السؤال تتجاوز حال الأحزاب بذاتها الى مستقبل الحياة السياسية والتطور الديموقراطي في بلادنا العربية. فما زال ضعف الأحزاب عائقا أساسيا أمام التقدم نحو مستوى أعلى من الديموقراطية. ومن أهم أسباب الضعف غياب الديموقراطية داخلها، الأمر الذي جعلها طاردة للأعضاء الذين يختلفون مع قادتها فيتعرضون الى قمع من جانب الأجهزة الحزبية التي لا تسمح بخلاف في الرأي. لذلك يبدو إصلاح الأحزاب من داخلها شرطا أساسيا للتطور الديموقراطي لأنه يقوي الحزب ويوسع قاعدته ويجعله مدرسة ابتدائية للتنشئة الديموقراطية في المجتمع الذي يعمل فيه. لكن إذا كان استبدال رئيسي حزبين مهمين في مصر والمغرب، وما ينطوي عليه من ممارسة ديموقراطية، يمثل تطورا مهما في هذا الاتجاه، يظل من الصعب اعتباره ظاهرة عامة في الأحزاب العربية، أو حتى في الأحزاب اليسارية باعتبار الحزبين يساريين. فقد نشأ كل منهما وفق صيغة تسمح بالتعايش بين أكثر من اتجاه داخله. وحين يكون مثل هذا التعايش ضروريا ولا غنى عنه، يفرز الحزب آليات للحفاظ عليه وتتطور مع الوقت ثقافة تعبر عنه. لذلك عرف هذان الحزبان ثقافة ديموقراطية أكثر من غيرهما في البلدين، وإن لم يكن مداها مما يسمح بأن يكونا مصدر اشعاع على غيرهما لأن البيئة المحيطة فرضت سقفا منخفضاً. وهذه مشكلة "الحلقة المفرغة" في العلاقة بين حزب يعرف قدرا من الديموقراطية داخله، وأخرى غير ديموقراطية. فلا يصبح هذا الحزب نموذجا ومصدرا للإشعاع إلا إذا وصلت الممارسة الديموقراطية داخله الى مدى معين، فيما البيئة المحيطة تحول دون توفر الأجواء اللازمة لبلوغ هذا المدى. وفضلا عن الطابع المميز لحزبي التجمع والاتحاد الاشتراكي، لا يمكن التغاضي عن الأثر الكبير لشخصي رئيسيهما اللذين تخليا عن الرئاسة. فهذا الموقف النادر حدوثه في الأحزاب وغيرها من الهيئات في بلادنا العربية، لا يقدر عليه إلا نوع معين من القادة يقل وجوده في هذه البلاد. إنه صنف القادة التاريخيين بالمعنى الحديث المعروف في الثقافة الديموقراطية، وليس بالمعنى المتعارف عليه في ثقافتنا السائدة. فسجلا محيي الدين واليوسفي حافلان بأعمال وأدوار كبيرة على مدى ما يقرب من ستة عقود. وساهم كل منهما في تشكيل الصورة الراهنة لبلده، وليس فقط لحزبه. فهما من نوع الشخصيات الوطنية المؤثرة في مسار بلد بكامله. لذلك فعندما بلغ كل منهما الثمانين، أو كاد، صار مشبعا بدور كبير ممتد جعله قادرا على اتخاذ القرار الصعب، بل ربما الأصعب بالنسبة الى رؤساء الأحزاب وغيرها من الهيئات العامة في بلادنا العربية. فليست السن التي بلغها كل منهما الدافع الأول، بخلاف ما ذهب إليه بعض المراقبين، لأن غيرهما تجاوزوا هذه السن وظلوا متشبثين بمواقعهم. فنحن إذاً إزاء شخصين نادرين عربياً. صحيح أن تزامن ابتعادهما جاء مصادفة. لكن إقدامهما على ذلك ليس مصادفة لأنهما مؤهلان له، ولأن الطابع المميز لحزبيهما يساعد على ذلك حتى إذا اختلفا في طريقة اعتزالهما. قرر محيي الدين الاعتزال إعمالا لتغيير ديموقراطي كبير في لائحة حزبه، وأصر على ذلك رغم مطالبة كثير من أعضاء الحزب باستثنائه. أما اليوسفي فاضطر إلى الاعتزال عندما تغير ميزان القوى داخل حزبه وصار في غير مصلحته منذ المؤتمر السادس في آذار مارس 2001 بسبب الانشقاق الكبير الذي أدى الى انسحاب التيار النقابي وتيار الشبيبة اللذين كانا الأكثر تأييدا له. وبذلك صار نائبه اليازغي الرجل الأقوى في الحزب فعليا. ومع ذلك كان اعتزال كل منهما تعبيرا عن ممارسة ديموقراطية وإن اختلف طابعها. في حزب التجمع إنتصر مبدأ التداول على المناصب القيادية. وفي حزب الاتحاد الاشتراكي استجاب الأمين العام لتحولات نتجت عن تفاعلات ديموقراطية في داخله. ومع ذلك، ما زال أمام الحزبين الكثير مما ينبغي فعله ليصبحا نموذجين للديموقراطية. فممارسة التداول خطوة كبيرة من دون شك. ولكن لا يقل أهمية عنها أن يكون الاستخلاف أكثر تنافسية. ففي التجمع ستنتقل الرئاسة بعد أيام الى الرجل الثاني الدكتور رفعت السعيد بالتزكية، أي من دون تنافس. ولكن قد يعوض ذلك احتدام المنافسة على المواقع التالية بما فيها الثاني الذي كان يشغله الرئيس الجديد. كما أن انتقاله الى موقع الرئاسة لم يحدث نتيجة ضغوط أو مناورات بخلاف ما يحدث في أحزاب أخرى. فقد لعب الدور الرئيسي في بناء حزبه والحفاظ على قدر معقول من الديموقراطية داخله في أصعب الظروف. وفي الاتحاد الاشتراكي انتقلت القيادة الى اليازغي بإجماع أعضاء المكتب السياسي، كما أعلن في مؤتمره الصحافي في 29 تشرين الثاني نوفمبر الماضي. ولكن كان هناك بعض التنافس عطل اختياره لشهر كامل بعد استقالة اليوسفي، وإن ارتبط بخلاف بين كتلتين في دائرة مغلقة أكثر مما اقترن بحوار حزبي مفتوح. غير أن مستوى الديموقراطية في داخل الحزبين يظل معقولا، بل كبيرا، في ضوء المعطيات الحزبية العربية الراهنة. ومن المفيد، بطبيعة الحال، أن يرتفع هذا المستوى. ولكن ربما كان التطلع الى تحسن الأوضاع داخل أحزاب عربية أخرى ليبلغ هذا المستوى أو يقترب منه، أكثر جدوى من زاوية مستقبل التطور الديموقراطي في العالم العربي.