عندما أعلن المدرب الفرنسي جو دارينكه استقالته من قيادة المنتخب الإماراتي قبيل المونديال بعد استئثار المنتخب الأول بخدمات اللاعب إسماعيل مطر، فإنه كان يعي حقيقة ماذا يفعل... فلاعب نادي الوحدة الذي لم يتجاوز ال20 ربيعاً تمكن من أن يكتب اسم بلده بأحرف من ذهب ورفعه إلى دور ربع النهائي للمرة الأولى في تاريخ مونديالات الشباب، بعدما سجّل هدف الانتصار في وقت قاتل 89 في مرمى المنتخب الأسترالي فضلاً عن قيادته الذكية لمشوار منتخبه في هذه البطولة، والإعلان عن ميلاد موهبة كروية إماراتية وعربية يمكن أن تذهب بعيداً في سماء النجوم العالميين لو أحيطت بالرعاية وابتعدت عن حمى الغرور. عندما عمّت الفرحة شوارع مدينة الشارقة بعد نهاية المباراة، وانتقلت مظاهر الاحتفال إلى المدن الإماراتية الأخرى، اعتبر المشهد طبيعياً في البلد المنظّم للمونديال ولمنتخب تجاوز الدور الثاني للمرة الأولى في تاريخ مشاركته الثانية، إلا أن مشاهدة الإماراتيين صباح اليوم التالي يتبادلون التهنئة بالأيادي والأعناق، بعدما شهدت حركة الاتصالات الهاتفية ليلة أمس ذروتها، يؤشر إلى حال فريدة جمعت ما بين فرحتهم بالتنظيم المتميز واطمئنانهم إلى بشائر المستقبل لكرتهم... وإعجابهم بميلاد نجم جديد في سمائهم حتى بدا أن هذا البلد قليل الأمطار في العادة يهتف كلّه مطر... مطر... مطر... ربما اعتبر البعض أن هذا التأهل الإماراتي أمام أستراليا، من أهم مفاجآت هذا المونديال... فكتبت الصحافة المحلية "قهرنا قاهر البرازيل"، لا شك بأن "اسماعيلو" أو "سمعة" كما يحلو للشباب الإماراتي مناداة مطر، يعد رجل المباراة بلا منازع، ولكن التاريخ الحديث لكرة القدم الإماراتية أبرز قدرة المدربين الفرنسيين على حسن استثمار الإمكانات البشرية المتوافرة والتقدم بها إلى مصاف العالمية. بالأمس حقق برونو ميتسو أول لقب آسيوي إماراتي بعد تتويج نادي العين بطلاً لأندية آسيا واليوم يتمكن مواطنه جودار برصيد بشري محدود وغير متجانس باختلاف نسق احترافية الأندية المحلية من أن يعبر الأدوار الأولى لمونديال الشباب بخطة ذكية شلت الآلة الأسترالية الكاسرة وتفوقها البدني الهائل... ليساور الإماراتيين أحلى الأحلام وبعض الطمع في تجاوز منافسه المقبل المنتخب الكولومبي. وتمكن المنتخب البرازيلي من العبور إلى الدور المقبل بفوزه على نظيره السلوفاكي بالهدف الذهبي 2-1، وتغلبت كولومبيا على جمهورية إيرلندا 3-2 في أشد المباريات إثارة، وفازت إسبانيا على باراغواي 1-صفر. لقد أكدت منتخبات أميركا اللاتينية مكانتها في المشهد الكروي العالمي بعد تأهل الأرجنتينوالبرازيلوكولومبيا وتضاعف حظوظها في التتويج باللقب الجديد. ربما بدا المنتخب البرازيلي هشاً في مشواره الأول في غياب المحترفين، لكن أداء المنتخب الكولومبي التصاعدي أبرز أن أميركا اللاتينية كانت وما زالت معيناً لا ينضب من المواهب الفذة ومتعة فرجوية لكل عشاق الجلد المدوّر. لا شك بأن الولاياتالمتحدة لا تعد من الدول العظام في كرة القدم، ولكن تجربتها في استقطاب كبار نجوم اللعبة في السبعينات وتنظيمها مونديال 1994، أفرزا تنامي الاهتمام الشعبي باللعبة الجديدة. ولم تحظَ أوروبا الحائزة على اللقب في 6 مناسبات سابقة، إلا بصعود بطلها الإسباني بعد خروج إنكلترا وتشيخيا وألمانيا من الدور الأول، وقبل أن تلحق بهم سلوفاكيا من الدور الثاني. ولا شك في أن غياب 7 لاعبين محترفين عن المنتخب الإنكليزي أبرز مرة أخرى ذلك التعارض القوي في المصالح ما بين حاجة الأندية التي تدفع للاعبين رواتبهم واستحقاقات منتخباتهم القومية. طغت مشكلة الابن المدلل لأولمبيك مرسيليا ومنتخب مصر أحمد حسام ميدو على السطح مجدداً بعد خروج الفراعنة من الدور الثاني وذلك بسبب التنازع على الفوز بخدماته ما بين منتخبي الشباب والأول لمصر... وناديه الفرنسي. إلا أن مغادرة كل المنتخبات الأفريقية منذ الدور الثاني، يؤكد أن أوروبا استحوذت على أفضل لاعبيها وحرمتهم أنديتها من المشاركة مع منتخباتهم. يشعر الأرجنتينيون بمشاعر الامتنان للاعبهم فرناندو كافيناغي، الذي عدّ منقذهم في اللحظات الصعبة في هذه البطولة، واعتبرته غالبية المراقبين من أبرز نجوم المستقبل لكرة القدم العالمية. ففي زمن الخطط الدفاعية الحديد وشح الأهداف والقناصين الماهرين، أبرز كافيناغي، هداف فريق ريفر بلايت قدرات هجومية هائلة وموهبة في التهديف في أشد لحظات المباريات قساوة. لم يشهد هذا المونديال حركية مكثفة للسماسرة وكأنهم أدركوا أن معدلات اللاعبين أصبحت متقدمة نوعاً ما في الفترة ما بين 17 سنة وأقل من 20 عاماً... لكن ذلك لم يمنع منتخبات الأرجنتينوالبرازيلوأسترالياوكولومبيا وإسبانيا من تقديم نجوم الغد لمنتخب كبارها. في حين كشفت المنتخبات العربية عن مواهب جيدة من أبرزها الحارس المصري شريف إكرامي ومواطنه عماد متعب، وناجي مجرشي وعيسى المحياني من السعودية، واسماعيل مطر من الإمارات... موعودة بأيام جميلة لو أحيطت بالرعاية المتواصلة وتجنبت الغرور والأوهام الاحترافية الزائفة. لا شك في أن الإمارات استحقت بشهادة الجميع تقدير الأسرة الرياضية الدولية بعد تألقها في تنظيم مونديال الشباب وكرم الضيافة في أجمل مظاهره العربية الأصيلة، مثلت الجماهير مفاجأتها حيث تخطت أعدادها في الدور الأول عتبة 350 ألف متفرج متقدمة عن الدورة الأخيرة في الأرجنتين التي لم تتجاوز ال275 ألف متفرج. وعاشت مدن الإمارات أيام أعياد متتالية وعمت مظاهر الفرحة والاحتفال كل زوايا المشهد الإماراتي من ملعب كرة القدم إلى ثنايا الحياة. وسيكون لهذا المونديال تداعيات مهمة على ممارسة اللعبة فيها وتعزيز بنيتها الرياضية بإنجاز ملعب جديد وجميل هو ملعب محمد بن زايد في نادي الجزيرة. لكن سماء هذا البلد الذي أنجب موهبة كروية استثنائية اسمها اسماعيل مطر، تبدو مصرة في هذا الربيع الإماراتي على أن تشرع الحلم الكروي العربي على أبواب اللانهاية بعد ترشح الأبيض الإماراتي إلى نادي الثمانية، فهل تتواصل أنشودة المطر في شوطها الثاني؟