تعني "فيه شالوم" تعني "واحة الحرية". ربما صح ذلك على المعبد اليهودي الذي يحمل هذا الاسم حتى يوم السبت الماضي. فالمرة الأخيرة التي تحول فيها الكنيس الواقع في قلب مدينة اسطنبول مع المكان المحيط به الى جحيم أرضي، كانت في 1986. منذ ذلك الوقت لم يُسجل أي هجوم ضد المؤسسات اليهودية في تركيا، أو ضد يهود المدينة البالغ عددهم 25 ألف نسمة. لم يشعر يهود اسطنبول مطلقاً بأن وجودهم مهدد بالخطر وسط أكثرية مسلمة، بالمقارنة مع ما يشعر به اليهود في العواصم الأوروبية الكبيرة و"العلمانية"، حيث تسجل أرقام الاعتداءات على المنشآت اليهودية وعلى أفراد الطائفة اليهودية تصاعداً ملحوظاً، كما حدث الشهر الماضي في المانيا عندما ألقي القبض على أكبر خلية نازية كانت تخطط لتفجير كنيس في ميونيخ واغتيال العديد من الشخصيات اليهودية والسياسيين الألمان المتعاونين معهم. وعلى عكس ما حدث في معظم الدول الأوروبية، فإن تاريخ اليهود، الذي يعود في تركيا 500 عام الى الوراء، هو تاريخ انقاذ وحماية لهم. فبعد هزيمة العرب في الأندلس وسيطرة الكنيسة الكاثوليكية تماماً على أراضي شبه الجزيرة الايبيرية في 1492، طُرد أكثر من مئة ألف يهودي شرقي سافاردي مع المسلمين من هناك، وشكل أغلب اليهود المطرودين نخبة المجتمع الأندلسي. فبالإضافة الى اشتغالهم بالتجارة، عمل عدد كبير منهم في الادارة والترجمة، وعن طريق ترجماتهم أهم الكتب اليونانية الى اللاتينية، عرفت أوروبا الفلسفة اليونانية. آنذاك فتحت الدولة العثمانية أبوابها أمام اليهود المهاجرين اليها واستقبلت المتعلمين السفارديين بذراعين مفتوحتين: "فبهذه الطريقة يُفقر بلاده، ويُثري مملكتي"، كما علّق السلطان العثماني بايزيد الثاني على ما قام به الملك الاسباني. آنذاك كانت اللغة السائدة في أوساط اليهود الأسبان هي اللادينو، وهي لغة ما زال بإمكان المرء تعلمها حتى اليوم في المعهد الثقافي الاسباني "سرفانتيس" في اسطنبول. لقد شكل اليهود السفارديون أساس الطائفة اليهودية التي تكاثر عددها لاحقاً، بعد هرب اليهود ذوي الأصول الأشكنازية الغربية، الذين يتحدثون "اليديش" من الملاحقات والمحارق التي حدثت في شرق أوروبا، باتجاه اسطنبول. وفي سنوات الحكم النازي في المانيا تحولت الجمهورية التركية الفتية في ذلك الوقت، الى ملجأ آمن لليهود القادمين من المانيا. رئيسها، كمال أتاتورك سار على خطى السلطان بايزيد الثاني، عرف كيف يستفيد من النخبة اليهودية المتعلمة، وفتح أبواب بلاده لأساتذة الجامعة والعلماء اليهود والسياسيين من الحزب الاشتراكي الديموقراطي من ضمنهم السياسي المشهور، أرنست رويتير، الذي تحول الى أول عمدة لبرلين "الحرة" بعد تحرير المانيا على أيدي الحلفاء. فتركيا إذاً "لم تكن يوماً بلداً معادياً لليهود"، كما يتفق أغلب المحللين السياسيين في الغرب. ففي حي "غالاتا" القديم وحده، هناك خمسة معابد وثلاث مدارس يهودية، بالإضافة الى مقر مجلس الحاخامين الأعلى. وقد اشتهر هذا الحي في القرن التاسع عشر، بكونه مركزاً للبنوك والتجارة. وفي قلب المدينة الأوروبي، أي غالاتا، يعيش منذ زمن طويل أغلب اليهود الذين انضمت اليهم لاحقاً الأقلية المسيحية. لكن الحي لم ينج دائماً من التدهور. وكان ضحايا ذلك التدهور، في غالبيتهم، من المسيحيين اليونانيين الارثوذكس، ومن الأرمن، بسبب الاضطهادات التي تعرضوا لها والتي، للمفارقة، نجا اليهود منها. لكن في 1942، عندما فُرضت ضريبة دخل موقتة على كل الأقليات الدينية، بدأ عدد كبير من اليهود بمغادرة تركيا باتجاه المنفى. بعضهم ذهب عام 1948 الى اسرائيل، فبنى أغلبهم مستوطنات في تل ابيب، وتحولوا لاحقاً الى جسر بشري مهم بين اسرائيل وتركيا. هكذا غدت تركيا أول بلد غالبية سكانه من المسلمين يعترف رسمياً بالدولة الجديدة. والى يومنا هذا لا تزال تركيا البلد المسلم الوحيد في الشرق الأوسط الذي تربطه علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع الدولة العبرية، وصلت الى ذروتها في 1996 بتوقيع معاهدة تعاون عسكري، ناهيك عن تعاون الاجهزة الأمنية. لكن ذلك لا يمنع مواجهة السياسة الحالية لأرييل شارون برفض الرأي العام التركي. وعلى رغم العلاقات الحميمة التي تربط البلدين، ظل الموقف الرسمي المعلن في أنقرة، يطالب بدولة فلسطينية مستقلة. وكائناً ما كان الأمر فتركيا اليوم، بالنسبة الى العديد من الاسرائيليين، مكان للاستجمام وملجأ لقضاء الإجازة. عشرات الآلاف من الاسرائيليين يتمتعون سنوياً بشمسها ورمل سواحلها. وهم يقدرون الشعور بالأمان الذي يحصلون عليه هناك، أو أنهم ظلوا كذلك حتى السبت الماضي. الآن لا يخفي اليهود الأتراك قلقهم، فالوضع تغير: يوم السبت، وبعد حلول الظلام، ظهر في المنطقة المحيطة بالكنيسين المهدّمين متطوعون يهود، يفتشون عن بقايا بشرية بين الأنقاض. وقال أحد الذين علّقوا: "اسرائيل تحصد السياسة التي تمارسها ضد الفلسطينيين". لكن نصف الضحايا كانوا مسلمين من أبناء تركيا التي عرفت تعايشاً وتداخلاً مع اليهود لا تُفصم لهما عُرى.