عمليتان إنتحاريتان في اسطنبول تخلفان قتلى وجرحى ودماراً كبيراً. كان من شأن إذاعة نبأ كهذا أن توجه أصابع الإتهام، على الفور، إلى حزب العمال الكردستاني. ولم تكن الجهات الرسمية التركية تحتاج في ذلك إلى دليل، وهي ما كانت لتتأخر في الإفصاح عن غيظها من إرهاب "المنظمة الإنفصالية" التي تسندها دول إقليمية تسعى في إلحاق الأذى بتركيا. على الفور، أيضاً، كان الجو سيحتقن وتخرج إلى العلن تهديدات بضرب الدول المعنية ما لم تكف عن دعم "الحزب الإرهابي". أشياء كهذه كانت حتى وقت قريب تلوح بديهية ولم تكن ثمة حاجة إلى معاينة أو تمحيص. اذ ما فتئ حزب العمال الكردستاني، منذ تأسس عام 1977 يؤلف لعنة دائمة في فضاء الواقع التركي الحديث. ولم يكن يمر يوم، تقريباً، من دون سقوط قتلى أو جرحى أو حدوث خراب من أثر هجمات مسلحة يخوضها أنصار هذا الحزب الذي أخذ على عاتقه أمر إنشاء دولة كردية مستقلة في جنوب شرقي تركيا. كان الحزب أضحى علامة فارقة في وقائع الحياة اليومية التركية. ولهذا لم يكن يحدث إنفجار أو إغتيال أو إشتباك مع رجال الدرك أو عناصر الجيش من دون أن تتوجه الأنظار نحو أعضاء الحزب وأنصاره. والحال أن هؤلاء هم أول من قاموا بعمليات إنتحارية في عدد من المدن التركية والكردية أضنة، باطمان، قونية... واسطنبول نفسها. مع هذا لم يفكر أحد بحزب العمال الكردستاني حين اهتزت اسطنبول أول من أمس من أثر العمليتين الانتحاريتين اللتين حصدتا الأرواح وخلفتا الدمار. اندثر هذا الحزب من المشهد التركي ولم يعد له أثر تقريباً بعدما اعتقل زعيمه عبدالله أوجلان وأودع السجن في جزيرة ايمرالي التركية عام 1998. منذ ذلك التاريخ انقلبت الآية. تخلى الحزب عن مطالبه ونبذ العنف وترك السلاح، بل إن أنصاره غادروا تركيا، بأمر من زعيمهم المعتقل، وانتقلوا إلى كردستان العراق. وهناك تحولوا إلى مجموعة من الناشطين يعلنون ليل نهار ولاءهم للدولة التركية وتخليهم عن الحقوق الكردية متمسكين بدعوة واحدة، وحيدة، هي أن تقوم الحكومة التركية بتحسين شروط اعتقال زعيمهم. هكذا لم تعد قضيتهم مأساة تجلب العنف وتستدعي السلاح بل تحولت ملهاة تستدر الشفقة وتبعث على السخرية. غير أن الواقع الكردي نفسه، الذي أفرز حزب العمال الكردستاني، لم يندثر. والعلل التي كمنت هناك وخلقت الأرضية الخصبة لانبثاق العنف ونمو الإرهاب ما زالت قائمة. الأشياء لا تختفي بل تبدل طريقها. والفراغ الذي تركه حزب العمال الكردستاني لم يستمر فراغاً. وهو لن يكون كذلك. لقد تلاشى حزب العمال الكردستاني بتلاوينه القومية والماركسية والستالينية وتحول إلى تشكيلة مسالمة مذعورة. هذا الأمر ترك المجال للعنف كي يتسرب في قناة جديدة تقع في أيدي الأصوليين الاسلاميين بإمتياز. والحال أن الحكومة التركية نفسها كانت ساعدت في إطلاق الموجة الأصولية في المناطق الكردية وشجعتها وأمدتها بدعم كبير أملاً في إضعاف النزعة القومية وسعياً في إرباك حزب العمال الكردستاني ودفعه إلى صراعات جانبية. هكذا نهضت أحزاب وجماعات تخاطب المشاعر الدينية لدى الأكراد وتحضهم على الرجوع عن دعاوى القومية واليسار وتحذرهم من السير خلف حزب العمال الكردستاني. ووقعت مواجهات دموية بين الطرفين وأخذ الأصوليون يغتالون الناشطين القوميين الأكراد ويفجرون مكاتبهم ومقرات جمعياتهم ويقتلون الكتاب والفنانين ورجال الأعمال. ولم يمض وقت طويل حتى تسربت الجماعات الأصولية في أوساط الجيش التركي نفسه وامتدت أياديها إلى المدن التركية. وفي الحال أدركت تركيا أنها زرعت بذرة شوكة من الصعب اقتلاعها ما لم تبادر إلى ذلك على الفور. هكذا حصلت المواجهة بين الجيش والقوى الأصولية الكردية وتحولت النعمة إلى نقمة وصار الأصدقاء أعداء. قتلت الدولة الأصوليين ودهمت تجمعاتهم فأعلن هؤلاء الحرب على الدولة. وحين ترك حزب العمال الكردستاني مساحة المواجهة وانسحب من الأماكن التي كان يتحصن فيها وجدت الحكومة التركية نفسها وجهاً لوجه أمام لعنة جديدة ترتدي لباس الدين. تبين أن "حزب الله التركي" الذي ساهمت الاستخبارات التركية في تشكيله نما وترعرع وصار كياناً يمتد في الجهات فلا يمكن تطويقه والقضاء عليه. وكثر ممن كانوا أتباعاً لحزب العمال الكردستاني تحولوا إلى أصوليين ناشطين مستعدين لأن يفجروا أنفسهم من أجل قضيتهم. وقضيتهم هذه تحولت من الرغبة في كردستان اشتراكية إلى تشييد دولة اسلامية شاملة تضم المسلمين جميعاً من الأتراك والأكراد وغيرهم. بل ظهر من أعلن نفسه أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين مثل متين قابلان الذي أسس إذاعة وتلفزيوناً في ألمانيا وراح يبث عبرهما خطبه ودعاويه إلى الأتراك. عمليات تفجير عدة كانت وقعت في اسطنبول وانقرة ومدن تركية أخرى تبنت مسؤوليتها منظمة أصولية تطلق على نفسها اسم "فرسان الشرق الكبير". والشرق الكبير هذا صورة عن الإمبراطورية العثمانية التي يسعى هؤلاء في استعادتها. كثر من هؤلاء ينحدرون من المناطق الكردية في جنوب شرق تركيا. وبعد حرب الخليج الثانية 1991 نشأت أحزاب اسلامية متطرفة في كردستان العراق وتبلورت في ما بعد في تنظيم "أنصار الإسلام" الذي لا يخفي الرغبة في قتل أنصار الأحزاب الكردية "الكافرة" التي تسيطر على المنطقة الكردية وتدير شؤونها منذ قيام المنطقة الآمنة بحماية الولاياتالمتحدة وبريطانيا. و"أنصار الإسلام"، شأن التنظيمات الأصولية الكردية والتركية الأخرى، يعتبر إقامة دولة إسلامية غاية وجوده، ولتحقيق هذا الهدف ينبغي تأجيل التناقضات الثانوية لصالح التناقض الأساسي. هذه مصطلحات حملها معهم الماركسيون الذين انتقلوا من تنظيماتهم اليسارية والشيوعية إلى كنف الأصولية. زعيم الجماعة الملا كريكار قال ان محاربة الولاياتالمتحدة وأوروبا تعتبر أول الجهاد. لكنه أكد أن الجهاد يشمل أيضاً أولئك الذين يسيرون في أثر هذه الدول وينفذون سياستها ويدعمون أغراضها، ولهذا فهو لم يستثن تركيا والأحزاب الكردية، العلمانية، التي تعتبر الحكومات الأميركية والأوروبية من أصدقائها. هذه المحاججة دفعت "أنصار الإسلام" إلى التحالف مع حكومة صدام حسين، البعثية، لمحاربة "الغرب الكافر". واكتسبت المحاججة الآن زخماً إضافياً بعد دخول القوات الحليفة بقيادة أميركية وبريطانية إلى العراق. عند هذه النقطة تلتقي خيوط الجماعات الأصولية كلها، الكردية والتركية والأفغانية والباكستانية والعربية. ثمة إتفاق على دحر "الكفر" وتنظيف "دار الإسلام". ولا عجب أن تكون القاعدة "أم" هذه التنظيمات وأن يكون أسامة بن لادن أبوها. الأرض الرخوة التي يشكلها الواقع القائم في العراق تشكل "ملاذاً آمناً" للجماعات الأصولية التي تضع على جدول أعمالها الإنتقام من "أعداء الإسلام". والأكراد، سواء القادمون من صفوف حزب العمال الكردستاني بأيديولوجيته الكارهة للإمبريالية والرأسمالية، أو أولئك الصاعدون من قاع الفقر والجهل والظلم النازل بهم على يد "علمانيي تركيا" وعسكرها لن يتأخروا في الإنتقام ممن كانوا، في نظرهم، سبباً في شقائهم. وتحتل الولاياتالمتحدة وحلفاؤها، البريطانيون وغيرهم، موقع الصدارة بين هؤلاء. * كاتب كردي.