قال أسقف بغداد للاتين المطران جان سليمان ان "العراق لا يزال قبلياً في شكل مخيف على رغم 35 عاماً من حكم البعث". واضاف في حديث الى "الحياة" في روما التي زارها للبحث مع المسؤولين في الفاتيكان في شؤون تتعلق بأبرشيته وبالوضع في العراق، ان انعدام الأمن يبقى المشكلة الأكبر على الإطلاق في العراق. وقال ان البابا ومعه عدد كبير من المسؤولين جربوا اقناع الرئيس صدام حسين بالتنحي وتسليم الحكم إلى آخر لسحب البساط من تحت أقدام الذين قرروا الحرب. وفي ما يأتي نص الحوار: ما هي رؤيتكم الى الأوضاع في بغداد؟ - في مقدم المشاكل التي يعاني منها العراقيون اليوم مشكلة الأمن. أمام بيتي في بغداد مدرسة يقوم اهالي الطلاب بمرافقة أبنائهم وبناتهم اليها وهم مسلحون خوفاً من عمليات الخطف. هذا أمر مخيف للغاية. مشكلة الأمن تبقى الأكبر على الإطلاق. كيف ترون الى حل هذه المشكلة؟ - أعتقد بأن الأمن أمر شمولي. الكهرباء تساعد في الأمن، وكذلك الخبز والراتب الشهري عنصران أساسيان في الأمن. لو أُمّنت هذه الحاجات الأساسية للشعب العراقي فإن مشكلات أمنية كثيرة كانت حُلّت. هذا لا يعني أن المشكلة السياسية كانت ستُحل ولكن ذلك كان سيسهم في خفض أعداد عمليات الإجرام والتعدي على الحريات. أعتقد بأن المواطن هو المساعد الأول لرجل الشرطة والأمن فهو إذا لاحظ شخصاً مشبوهاً سيسارع إلى الإخبار عنه ولكن كيف يخبر عنه ولا يوجد هناك هاتف، أو صلة مع رجل الأمن. الحرب كانت زلزالاً بالنسبة للمؤسسات. لم تبق هناك مؤسسة واقفة على قدميها. الجيش والشرطة حُلا، والقضاء شُل. هذا يعني أننا نعيش حتى الآن في فراغ أمني مخيف. لا شك في أنه لو كانت هناك نصيحة أقدمها للقيّمين على النظام في العراق فهي إعادة الحد الأدنى من الأمن الإجتماعي والأمن بمعناه الحصري للناس. وكما قلت هناك ضرورات كثيرة. الراتب الشهري أمر مهم جداً لشعب عانى الكثير من الحصار ويعاني الكثير الآن من تعامل المصارف معه. أورد لك مثالاً، الكثير من العملات الورقية لا تقبل، فمثلاً ورقة العشرة آلاف دينار يقبلها التاجر بسعر ثمانية آلاف وحين يسأل المواطن عن السبب يُقال له: ربما كانت مزيفة. إذا كانت تلك القطعة مزيفة فلماذا يتم التعامل بها وقبولها وتصريفها، ولماذا إذا طلب المودع في مصرف ماله لا تعطيه المصارف إلا جزءاً من المال ومن فئة عشرة آلاف دينار التي يمكن أن تكون مزيفة. هناك حلقات مغلقة كثيرة ينبغي كسرها، كالمعاشات والكهرباء والماء والمدارس. شُكّل مجلس الحكم والحكومة على أساس طائفي وديني. هل تعتقد أن في إمكان مؤسسات بنيت على هذا الأساس أن تبني ديموقراطية حقيقية؟ - أنا لا أعتقد أن في امكان هذه المؤسسة أو غيرها بناء الديموقراطية، لأن الديموقراطية أمر معقد ويفترض لبنائها تبديل المنطق والعقليات. تنبغي إعادة اكتشاف الإنسان كشخص وكقيمة. نحن في الشرق الأوسط تطغى علينا الجماعات أو الشخص القوي، أو القوة أو الروح الجماعية كي لا أقول الروح الطائفية والروح القبلية. وأنا فوجئت بأن العراق لا يزال قبلياً في شكل مخيف. لم أكن أعتقد أنه بعد 35 عاماً من حكم البعث كان يمكن أن يبقى، ليس فقط الانتماء القبلي ولكن أيضاً السياسة القبلية. أعتقد أنه حتى الأميركيون وغيرهم مضطرون اليوم للتعامل مع رؤساء القبائل سواء في العملية السياسية أو في العملية الأمنية وربما سيلجأون مرة أخرى إلى القبائل لحماية أنابيب النفط. مجلس الحكم عُيّن وهو الذي عيّن الوزارة. لا شك في أنه جرّب تمثيل جميع الفئات قدر الإمكان. أنا أعتبره خطوة إيجابية بجميع الحدود لهذه العملية السياسية لأن الأخطر من ذلك هو عدم وجود رؤية سياسية مستقبلية. أي ديموقراطية، كائناً ما كانت، تتطلب تحضيراً ثقافياً بالمعنى الأنثروبولوجي. يعني يجب النظر إلى الإنسان نظرة إيجابية غير السائدة الآن. كانت هناك مخاوف بسبب الزخم الديني الشيعي بالذات وامكان ان يؤثر في شكل أو آخر في المسيحيين والكلدان في العراق. هل تعتقد أن هذا الخطر لا يزال ماثلاًً أم أن تمثيل المسيحيين بعضو في مجلس الحكم سيكون حائلاً دون ذلك؟ - إسمح لي أن أعود إلى وراء. لسنين طويلة قيل ان المسيحيين ممثلون في الحكم بطارق عزيز. أعتقد بأن طارق عزيز ما كان ليمثّل المسيحيين. كان بعثياً وكان أميناً للرئيس صدّام حسين وبهذه الصفة كان يحتل مركزه. واختباري الشخصي يدل على ذلك وربما سيتعجب البعض عندما يستمعون إلى ما أذكره لك الآن. نحن ككنائس كنا نحصل من المسؤولين السياسيين المسلمين أكثر ممّا كنا نحصل عليه من طارق عزيز. مرات كثيرة حدثت في الماضي مشكلة للتعليم المسيحي، لم يحلها طارق عزيز بل حلّها صدّام حسين نفسه وأقال وزير الأوقاف في حينه. أعود الآن إلى اليوم. أجل هناك ممثل للمسيحيين في مجلس الحكم وهناك ممثل آخر في الوزارة ولكن أتمنى ألا يكون ممثلاً للمسيحيين فحسب. أتمنى أن يكون الجميع ممثلين لهذا الشعب على رغم أن الظروف اقتضت تعيينهم بطريقة معيّنة. ليست الطريقة الفضلى، ولكن أتمنى أن يعمل الجميع وكأنهم يمثلون الجميع حتى خصومهم السياسيين. هذه هي الوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق وأتمنى أن لا يكون المستقبل حبيس الطائفية بهذا المعنى النسبي، ففي نهاية المطاف إذا أردنا أن نبني ديموقراطية تنبغي العودة فعلاً إلى المواطن كجامع لهذا الشعب العراقي المتباين والذي يجمعه الكثير سواء على الصعيد الثقافي أو التاريخي أو المعنوي. هناك جوامع كثيرة وأتمنى أن تتاح للمسيحي أن يمثل المسلمين أيضاً. كما ينبغي الالتفات الى مشاكل مريرة أخرى داخل المجتمع العراقي. جاء في دراسة لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي أن نسبة الأميين في العراق تبلغ 47 في المئة تقريباً. لا أعلم ما إذا كانت هذه الإحصاءات صحيحة أو على أي قاعدة بُنيت، ولكن لا شك في أن هناك أميين. كنت أحد الشهود الأساسيين على مرحلة ما قبل الحرب، خصوصاً الجهود الهائلة التي بذلها البابا يوحنا بولس الثاني لدرء الحرب عبر ارسال موفدَيه الخاصين الكاردينال إيتشيغاراي والكاردينال بيو لاغي إلى بغداد وواشنطن. لماذا لم ينجح البابا في مسعاه؟ - أعتقد، بناءً على ما سمعت وقرأت، أن الحرب كانت شيئاً محتوماً أي مقرراً منذ زمن. كانت خطوة تندرج تحت إطار إستراتيجية العولمة أكثر من اندراجها تحت طائلة إزاحة نظام وحاكم مستبد أو كما قيل للبحث عن أسلحة الدمار الشامل المحظورة. إذاً هناك نفق كان المسؤولون دخلوا فيه، وعلى رغم كل الجهود التي قام بها البابا والتي عبرت عنها ملايين الجموع في جميع أرجاء الدنيا، خصوصاً العالم الغربي الذي تظاهر أكثر من العالم العربي، وعلى رغم تصدي بعض الدول بسبب قناعاتها السياسية، كانت الحرب تبدو محتومة وربما من قررها لم يعد في استطاعته تغيير مسارها، وربما كانت الإدارة الأميركية أسيرة لقرارها أو لقرار سابق على دخولها الحكم. على أي حال أعتقد بأن البابا ومعه عدد كبير من المسؤولين جربوا اقناع الرئيس صدام حسين بالتنحي وتسليم الحكم إلى آخر لسحب البساط من تحت أقدام الذين قرروا الحرب وسموها الحرب الاحترازية أو الضرورية وما إلى ذلك. تردد أن موفد البابا الشخصي إلى الولاياتالمتحدة الكاردينال بيو لاغي، وبعد خروجه من لقاء الرئيس جورج بوش في البيت الأبيض قال: لماذا جئت إلى هنا!؟ الحرب مُقررة. ما مدى صحة المعلومات التي وردت وذكرت أن البابا عرض على صدّام حسين حمايته الخاصة؟ - لست على علم بالتفاصيل. وما أقوله نوع من الاستنتاج. رافقت الكاردينال إتشيغاراي، وكنت في بعض الأحيان أُترجم له. وفي الحديث الشخصي معه لم يُفضِ ولو لمرة واحدة بتفاصيل المهمة ولكن تُستشف بعض الأمور مما يقوله، بمعنى عندما كان يقول: أتوجه إلى ضمير الحكام، فإنه ربما كان يعني ان هذا الشعب يستحق التضحية من أجله بمقعد الرئاسة. هذا إستنتاج. أنا لم استفسر إحتراماً للتحفّظ المطلوب في هذه المهمة التي يقوم بها مبعوث البابا. الكاردينال إتشيغاراي جاء بأمر شفهي وعاد برسالة شفهية والحق للإعلان عن تفاصيل تلك المهمة للبابا فقط. ربما كان تنحي صدام حسين سيحول دون وقوع المئات من القتلى العراقيين ودون سقوط المؤسسات. وربما كان سيحدث تفاوض ما يحول دون حل الجيش بكامله بل باستبعاد بعض الضباط وتبقى المؤسسة، وكذلك الأمر بالنسبة الى الشرطة والأمن والقضاء وقطاعات الدولة الأخرى. ليس في الإمكان إقامة دولة من دون مؤسسات ولا يمكن إحياء مجتمع والحفاظ على أمنه وسلامه من دون هذه المؤسسات الحيوية.