يتطرّق هذا القسم، وهو الثاني من مقالة تستعرض أهمّ ما ورد في تقرير "إطلاق فرص العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا/نحو عقد اجتماعي جديد"، إلى ما ورد في هذا التقرير عن كيفية إطلاق فرص العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما يتطلّبه مواجهة تحدّي خلق فرص العمل من مدخل شامل للإصلاح على رغم أنّ تحديد الأولويات وتسلسل السياسات الإصلاحية يختلف من بلد إلى آخر في ضوء أوضاعه الأساسية الخاصّة، بما في ذلك نصيبه من الثروات الطبيعية ودرجة تقدّم الإصلاحات المحققّة فيه ونوعية مؤسساته. فالتقرير يؤكّد أنّ الحاجة إلى طريقة شاملة للإصلاح لا تقلّل من قيمة التدرّج في تنفيذ برامج الإصلاح، كما أنّها لا تقلل من اعتبار أهمّية تسلسل الإصلاحات بالطرق التي ترفع توقّعات النجاح إلى الحدّ الأعلى، ولكنّها تكيّف النظرة إلى ما تستدعيه الحاجة لإحياء الفرص الاقتصادية ولتأمين الحياة الكريمة لسكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأنّ هذه المنطقة تتطلّب تحوّلاً على صعيدٍ واسع في سياساتها الاقتصادية لتعزيز الدوافع الجوهرية للنموّ الاقتصادي، ولخلق تطلّعات قابلة للتحقيق من حيث إيجاد فرص العمل لاستيعاب عشرات الملايين من الرجال والنساء الذين سينضمّون خلال العقدين المقبلين إلى القوى العاملة. تحت عنوان "نطاق وحدود التدخّل في سوق العمل" يرى التقرير أنّّ إصلاح الإطار المؤسّسي والتنظيمي يساهم في جعل أسواق العمل تؤدّي دورها بطريقة أفضل، وأنّ السياسات التي يجري اقتراحها بهدف رفع الضغوط القائمة وتحقيق نتائج أفضل يجب أن تعالج عدم المرونة الذي يطبع الهياكل بما في ذلك دور الدولة كمصدر للتوظيف وكقائم على تنظيم سوق العمل. ومن أجل أن تصبح هذه السياسات فعّالة وقابلة للاستمرار، ينبغي أن يعاد النظر في الحوافز بما يجعلها تُوجّه العمل إلى القطاع الخاص، وبحيث تصبح معتمدة على اعتبارات العرض والطلب معاً. وإنّ قائمة هذه السياسات تراوح بين التناقص الطبيعي لأعداد الموظفين وتجميد الأجور، إلى إدخال تعديلات مهمّة على الأجور أو تقليص المزايا، وإلى إجراء تخفيضات مباشرة في النفقات من خلال تسريح العمال. ويشير التقرير إلى أنّ إتّباع إجراءات أكثر مرونةً في التوظيف والتسريح من العمل هو من أهمّ قضايا السياسات ذات الصلة في إصلاح نظم العمل المؤثّرة على القطاع الخاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ذلك أنّ هذه النظم تحدّ من فرص خلق الوظائف، وتقلّل من المرونة في شأن القوة العاملة. ويعاني العمال، نتيجة لذلك، من فترات بطالة طويلة الأمر الذي يؤدّي إلى تدنّي مهاراتهم وإلى فقدان ما اكتسبوه من خبرة في العمل. وترتفع كذلك معدلات البطالة التي يتعرّض لها النساء والشباب، ما يحدّ من فرص المجموعات المحرومة في الخروج من دائرة الفقر. ويجد العمال أنفسهم، بسبب قلّة فرص العمل في الاقتصاد المنظّم، مدفوعين نحو القطاع غير المنظّم الذي يفتقر إلى صور الرعاية الاجتماعية. وأورد هذا التقرير أنّ إصلاح أسواق العمل يُعدّ مكوّناً ضرورياً في إصلاح السياسات الاقتصادية، إلا أنّه غير كافٍ لمواجهة تحدّي العمالة الذي تواجهه المنطقة الآن وعلى امتداد العقدين المقبلين، وانه بينما توجد أولويات معيّنة في الإصلاح مشتركة بين مختلف دول المنطقة، مثل تقليص دور القطاع العام في سوق العمالة، تختلف مع ذلك أهمّية وأثر الإصلاحات الأخرى من قطر إلى آخر على امتداد المنطقة. وأنّ فهم قضايا سوق العمل في كلّ دولة على حدة هو الذي ينبغي أن يحدّد أولويات مجالات الإصلاح فيها. أمّا عن سياسات سوق العمل النشطة فيجد التقرير أنّ لها حدوداً، وأنّها صورة أخرى من صور التدخّل التي استخدمتها على نطاق واسع كلٌّ من الدول النامية والصناعية على السواء. هذه السياسات شملت تقديم الدعم للأجور والتوظيف والتدريب وإعادة تدريب العاطلين عن العمل واستحداث برامج مباشرة لخلق وظائف، وتقديم خدمات للبحث عن فرص العمل. وهي تهدف لخلق فرص توظيف والإعانة على مخاطر سوق العمل. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما في غيرها من المناطق التي تفتقر إلى نظم تأمين ضدّ البطالة فاعلة على المستوى القومي، فإنّ برامج سوق العمل النشطة تغدو أداةً لمعالجة اختلالات سوق العمل. بعد ذلك يتطرّق هذا التقرير للبنك الدولي عن التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الأدوات التقليدية لخلق فرص العمل، فيرى أنّ الحكومة يمكن أن تستمرّ كمصدر لتوظيف أقليّة من الباحثين عن عمل. إلا أنّه من المستبعد ومن غير المرغوب فيه أن يبقى القطاع العام صاحب الدور الرئيسي في عملية خلق فرص العمل في المستقبل. فمحدّدات المالية العامّة وانخفاض معدلات الإنتاجية لدى العمال تشير إلى أنّ أيّ زيادة في عملية التوظيف من قبل القطاع العام ستؤدّي إلى زيادة النفقات العامة، كما أنّها ربّما لن تكون كافية لاستيعاب طوابير العاطلين عن العمل والخرّيجين الجدد المصطفّين بانتظار الحصول على وظائف حكومية. وفضلاً عن ذلك، فإنّ عدم تسريع نموّ التوظيف في القطاع الخاص المنظّم من شأنه أن يؤدّي إلى نموّ أعداد الذين يُدفعون إلى دخول النشاط الاقتصادي غير المنظّم. ويلفت التقرير إلى أنّ الفرص المتاحة أمام العمالة للهجرة محدودة أيضاً في المستقبل القريب. وأنّه، بينما أتاحت الهجرة داخل دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متنفَّساً مهمّاً للعمال في الدول المصدّرة للعمالة خلال سنوات الطفرة النفطية في السبعينات والثمانينات، إلا أنّ العقد الماضي شهد تقهقراً في صافي العمالة المهاجرة من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الدول المستوردة لهذه العمالة. وفي الوقت الراهن فإنّ البطالة والزيادة السريعة المنتظرة في القوة العاملة المحلية داخل الأقطار المستوردة سابقاً للعمالة في دول مجلس التعاون الخليجي تقدّم حافزاً إضافياً لتخفيض العمالة المهاجرة إليها بصفة عامة. وفي الوقت نفسه، فإنّ الهجرة إلى أوروبا تواجه قيوداً فرضتها سياسات دولها، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذه الهجرة لا تقدّم سوى حلاً جزئياً لتحدّي العمالة. ثمّ ينتقل التقرير إلى نقطة بالغة الأهمّية تتعلّق بحاجة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى سياسات إنمائية جديدة، فيخلص هذا التقرير إلى أنّه ينبغي على دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تتعامل، من أجل تسريع عملية خلق فرص العمالة والنموّ، مع جملة من التحدّيات القائمة منذ زمن على صعيد السياسات والمؤسسات من أجل استكمال ثلاثة تحوّلات جوهرية ومترابطة في اقتصاداتها وهي: - التحوّل من هيمنة القطاع العام إلى هيمنة القطاع الخاص، عبر إزالة العوائق أمام النشاط الخاص مع وضع أطر تنظيمية تحقّق التوافق والتعاضد بين المصالح الخاصّة والعامّة. - التحوّل من الانغلاق إلى مزيد من الانفتاح، من خلال تسهيل عملية التكامل مع الأسواق العالمية مع وضع الضمانات للاستقرار المالي والرعاية الاجتماعية. - التحوّل من اقتصاد متقلّب يعتمد على النفط إلى آخر مستقر ومتنوّع، من خلال استحداث تغييرات جوهرية في المؤسسات التي تقوم بإدارة الثروة النفطية وتحويلها باتجاه الأطراف الاقتصادية الفاعلة. ويؤكّد التقرير على الدرجة البالغة الأهمّية للنتائج الإيجابية المتوقّعة لمثل هذه الخطوات على صعيد خلق الوظائف. و يذكر على سبيل المثال، أنّ سدّ نصف الفجوة القائمة حالياً بين الحصّة الفعلية للصادرات غير النفطية البالغة حالياً ستة في المئة من إجمالي الصادرات وبين إمكاناتها الكامنة البالغة 20 في المئة، مع ما يصاحبه من زيادة في حجم الاستثمار الخاص، لكفيل بأن يقلّص معدل البطالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنحو أربع نقاط مئوية. كما أنّ البرنامج الإصلاحي الأوسع سيجلب معه قسطاً أكبر من الفوائد. ثمّ يتطرّق التقرير إلى كلٍّ من هذه التحوّلات بالتفصيل فيورد تحت التحوّل الأوّل "إعادة تنشيط القطاع الخاص" أنّه منذ أواخر الثمانينات، حاول معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بدرجات متفاوتة من الكثافة ومن النجاح، أن يوسّع نشاط القطاع الخاص. وتدنّت، في الوقت نفسه، أهمّية القطاع العام، وبدا ذلك جليّاً من خلال الخطوات التي اتّخذت في اتجاه تخصيص المشاريع المملوكة للدولة وتخفيض الدعم الذي يُقدّم لها. ومع ذلك، فقد ظلّت حصّة حكومات المنطقة في اجمالي الناتج المحلي كبيرة جداً. وترتّب على هذا أنّ مساهمة القطاع الخاص ارتفعت بنسبة محدودة جداً خلال التسعينات، وأخذت حصة القطاع الخاص في إجمالي الاستثمارات المنحى نفسه، إذ أنّها لم ترتفع بالقدر الذي يعوّض الانخفاض الذي طرأ على حصّة القطاع العام فيها. ويلفت التقرير إلى أنّ هذه المؤشّرات المخيّبة للآمال لا تعكس فقط نتائج السياسات للاقتصاد الكّلي، ولكن تشير أيضاً إلى نقاط ضعف خطيرة في البيئة المحيطة بالنشاط الخاص، وهي ذات أثر سلبي وغير مشجّع للدخول في مشاريع أو تأسيس شركات جديدة. كما يستطرد التقرير أنّه، فضلاً عن ذلك، فإنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأسوأ، مقارنة بأي منطقة أخرى، فيما يتعلّق بالتعقيدات التي تعترض القيام برفع أيّة دعوى قضائية وفيما يتعلّق بالوقت الذي تستغرقه عملية البتّ في الدعوى وإنهائها. وحتى في حال وجود قوانين وقواعد منظِّمة، فإنّ عدم الاطمئنان إلى تطبيقها يخلق مشاكل كبيرة لدى أصحاب المشاريع الجديدة. وبالإضافة إلى ذلك كلّه، فالمشاريع الجديدة تعاني من الضعف في البنية التحتية، وفي النظام المالي، وفي إدارات منح التراخيص والإجراءات التنظيمية، وفي الضرائب والرسوم الجمركية على الواردات. كما أنّ الضعف الذي يطبع خدمات الاتصالات والنقل يعوق بشكل كبير النشاط الخاص والاستثمارات. أمّا عن التحوّل الثاني، "الاندماج مع الاقتصاد العالمي"، فيذكر التقرير أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تبقى من أقلّ المناطق اندماجاً. كما أنّها فشلت في الاستفادة من النموّ الذي طرأ على التجارة العالمية ومن الاستثمار الخارجي المباشر خلال العقدين الماضيين، اذ أنّ التجارة توسّعت منذ منتصف الثمانينات بدرجة فاقت زيادة الإنتاج، وكان هذا في مصلحة الدول ذات الدخل المتوسّط. أمّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فعلى الرغم من صادراتها الهيدروكربونية الكبيرة، إلا أنّ تجارتها تقلّصت من مئة في المئة من اجمالي الناتج المحلي في منتصف السبعينات إلى 60 في المئة في منتصف الثمانينات ثمّ أصيبت منذئذ بالركود. لقد تزامنت هذه المؤشرات السلبية مع تركّز عالٍ ومتزايد في الإنتاج، وفقدان الدينامية بالنسبة للصادرات غير النفطية، ومشاركة ضعيفة في الإنتاج العالمي. ثمّ يشير التقرير إلى إنّ استجلاب المنطقة لتدفقات رأس المال الخاص العالمي كان هو الآخر ضعيفاً على نقيض ما حدث في التجمّعات القطرية المقابلة. وفي عام 2000 بلغ صافي تدفق الاستثمار الخاص المباشر إلى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي، نحو 2.2 بليون دولار أميركي، أي ما يعادل نسبة واحد في المئة من مبلغ 158 بليون دولار، الذي يشكّل إجمالي رأس المال الذي تدفّق على الدول النامية في شتى أنحاء العالم. إنّ تدفقات الاستثمار الخاص المباشر على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شكّلت أقل من 0.5 في المئة من اجمالي الناتج المحلي للفترة 1985-2000 في المنطقة. ويلفت التقرير إلى أنّ ضعف اندماج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع الأسواق العالمية يعكس الحوافز المحلية غير المواتية والتي ضاعف من تأثيرها معوقات للتعامل داخل البلدان. كما أنَّ أسعار الصرف الفعلية ظلّت في تزايد على قيمتها الاقتصادية بنسبة 22 في المئة خلال الفترة 1985-2000. كذلك فإنّ نظم التجارة في المنطقة هي من أكثر النظم حماية في العالم، وتكاليف النقل والاتصالات واللوجستيات عالية جداً في معظم أجزاء المنطقة مضيفة بذلك معوقاً ثالثا. وكان أن أسهمت الكلفة العالية لهذه الخدمات، مصحوبة بالضعف في بيئة الأعمال، وبالمعوقات أمام مشاركة رأس المال الأجنبي، في عدم تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر. وفيما يتعلّق بالتحوّل الثالث، "إدارة أفضل للثروة النفطية"، يورد التقرير أنّ دولاً كثيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتاج إلى إجراء تحوّل ثالث من أجل أن تصبح اقتصاداتها أكثر استقراراً وتنوّعاً، وهو ما يتطلّب إدارة أفضل لثرواتها النفطية، وتوسيع القاعدة الإنتاجية لنشاطاتها الاقتصادية. ويؤكّد التقرير أنّ تنويع النشاطات الإنتاجية هو أولوية متنامية، ليس فقط بالنسبة للدول المعروفة باقتراب نضوب احتياطاتها النفطية، ولكن بالنسبة لكل الدول المنتجة للنفط. ذلك أنّ معدّل صادرات المنتجات الهيدروكربونية للفرد ظلّ في تدهور مستمر في مختلف بلدان المنطقة، وأنّه صاحب هذا التدهور انخفاض في الطلب المحلي على الطاقة مع تسارع نموّ السكان. ومن ثمّ فإنّه يتحتّم على حكومات المنطقة أن تطوّر مصادر جديدة لإيراداتها من أجل أن تضمن فعالية نفقاتها العامّة. ثمّ ينتقل التقرير إلى دور الحكومة في مجال الاقتصاد فيورد تحت عنوان "حكم أكثر صلاحاً أمر حاسم لعملية التحوّل الاقتصادي" أنّ هذا الدور يحتاج إلى إعادة تحديد. وأنّه إذا لم يعد بوسع الدول أن تكون مصدراً أساسياً للتوظيف، فينبغي أن تكون قادرة على أن تلعب دوراً أكبر كشريك في خلق فرص جديدة للعمل وفي المحافظة عليها. ويري التقرير أنّ إصلاحات نظم الحكم مسألة جوهرية لإتاحة الفرصة أمام حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالإفصاح بمصداقية عن رؤية جديدة للعلاقات ما بين الدولة والمجتمع وفي وضع هذه الرؤية موضع التنفيذ. ويصل التقرير بعد عرض ما سبق إلى أنّ بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتاج الى "عقد اجتماعي" جديد، فيرى أنّ إصلاح العقد الاجتماعي في هذه المنطقة أمر حاسم بالنسبة لمستقبل أسواق العمل فيها. فالعقد الاجتماعي القائم على إعادة التوزيع والتدخّل الاقتصادي يعرّض رفاه العاملين للخطر. إنّه يحوّل مسار النشاط الاقتصادي إلى القطاع غير المنظّم ويترك الكثيرين من العمال بلا حماية. إنّه يقيّد الاستثمار والنموّ، ويقلّل من قدرة الحكومات على الوفاء بالتزاماتها في مجاليْ الاقتصاد والعدالة الاجتماعية. وإنّ مقاومة الإصلاح تزداد، في ظلّ ظروف البطالة المرتفعة، ترسّخاً عند من يؤمّن العقد الاجتماعي الحالي حمايتهم. ويؤكّد التقرير على أنَّّ العقد الاجتماعي الجديد سيحمل لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فوائد بعيدة الأمد. إنّ من شأنه أن يوازن بين حاجة سوق العمل للمرونة وبين حقوق العمال، وأن يساعد على اجتناب التفكّك الاجتماعي والصراعات، من خلال تقديمه دوراً إيجابياً للعمل في عملية الانتقال إلى نظم إنتاج أكثر مرونة والتنسيق بينها. أمّا في شأن العوائق التي تعترض الإصلاح، فقد عنون التقرير بحثاً من ابحاثه في شأنها تحت "فهم العوائق التي تعترض الإصلاح أمر حاسم"، وتساءل في بداية هذا البحث لماذا، على رغم الركود، واستنفاد ما جرى اختياره من استراتيجيات للإصلاح، وازدياد أزمات التوظيف سوءاً، لا تزال حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتقاعس عن إجراء تغيير في مسارها؟ وأردف قائلاً أنّه غالباً ما يُفسّر هذا التقاعس بردّ فعل منطقية من قبل القادة في المنطقة مفادها أنّ تكاليف الإصلاح مطلوب سدادها فوراً، في حين أنّ الفوائد منها، فوق أنّها متأخّرة، فهي غير أكيدة. ورأى التقرير أنّ الحذر السياسي والانتباه لتأثير الإصلاح على العمال والفقراء أمور مؤكّدة. إلا أنه يوجد أيضاً كلفة أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية، تترتّب على إبقاء الأمور على ما هي عليه من جمود. ويوماً بعد يوم، تصبح هذه الكلفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أشدّ قسوة، ما يؤكّد الاعتقاد بأنّ الإصلاح البطيء والانتقائي تعوزه المصداقية، وأنّه يفاقم من حدّة الاستقطاب الاجتماعي. ويدرج التقرير ضمن ما خلص إليه من نتائج في البحث أنّ قيود الموازنة المرنة والتحديات السياسية أعاقت الإصلاح، فيذكر أنّ ما عُرفت بقيود الموازنات المرنة قد هيمنت، خلال الثمانينات والتسعينات، على تركيبة إجراءات الإصلاح وحدودها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالكثير من العائدات تولّدت خارج نطاق الاقتصاد المحليّ، وتدفقت إلى الدولة مباشرة عبر المساعدات الخارجية، وعبر تصديرات النفط، ونجحت استراتيجيات الريع كذلك في تغطية أثر الركود الاقتصادي فسمحت للحكومات بأن تتبنّى إصلاحات محدّدة في حين أنّها عمدت إلى تأجيل القرارات الصعبة حول التعديل الهيكلي للعقد الاجتماعي وإعادة بنائه. كما يشير إلى بروز عامل آخر شكّل عائقاً أمام عملية الإصلاح هو التحدي المتمثّل بالحركات السياسية الراديكالية. فقد أصبح التزاوج ما بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي هشّاً، أو لعلّهما قد تفرّقا كلّية، عندما ردّت الحكومات على نجاح حركات المعارضة، وفي بعض الحالات على العنف الذي تقوم به الجماعات المتطرّفة، بإحيائها لاستراتيجيات التسلّط السياسي والتشديد على مسائل الأمن القومي التي تعوق إصلاحات نظام الحكم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويخلص هذا التقرير إلى وجوب الربط بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي، فيشير إلى أنّ هذه الاستراتيجيات قد وصلت إلى نهايتها. وأنّه ظهر ذلك في ضعف قدرة الحكومات على معالجة ما يعتري أسواق العمل من اختلالات وظيفية، أو في تقديم رؤية جديدة للعقد الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تشكّل انطلاقاً لعلاقات أكثر إنتاجية في ما بين الدولة والقوّة العاملة والقطاع الخاص. ويبدو له، في ظلّ هذه الظروف، أنّ الإعراض عن تطبيق الإصلاحات الاقتصادية يتعارض مع ما ترغب حكومات هذه المنطقة فيه بشدّة من استقرار على الصعيدين السياسي والاجتماعي. ويخلص تقرير البنك الدولي في ختامه إلى إنّ هذه الحكومات، إذا أرادت لعملية الإصلاح أن تتجاوز محدداتها الحالية، ستحتاج إلى إحياء الحوارات القومية، حول إصلاح سوق العمل، وحول إعادة هيكلة برامج إعادة توزيع الدخل، وإعادة تحديد مقدمات العقد الاجتماعي. ويبدو له، مع تميّز مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجود شريحة واسعة من الطبقة المتوسطة فيها، أنّ إحياء الحياة السياسية، الذي هو شرط للنموّ الاقتصادي، أمر ممكن لا ريب. وفي الوقت نفسه، فإنّ اختياراً انتقائياً للإصلاح الاقتصادي، موجّهاً من أعلى لأسفل، ومتجنّباً الحاجة إلى تغيير سياسي من شأنه أن يؤمّن شرعية الإصلاح ويضمن وفاء الحكومة بالتزاماتها، لم يعد يفي بعد الآن بالمراد. كما يرى التقرير في الختام أيضاً أنّ مساندة الشركاء من الخارج أمر حيوي، فيورد أنّه في الوقت الذي تتقدّم فيه المنطقة باتجاه تحقيق وعودها نحو مستقبل أفضل، فإنّه يتعيّن على شركاء هذه المنطقة من الخارج، باعتبارهم دعاة للإصلاح ومؤيّدين له، أن يلعبوا دوراً مهمّاً في مساندة العملية الانتقالية التي تضطلع بها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويختم هذا التقرير تحت عنوان "وتبقى المنطقة هي صاحبة المسؤولية الرئيسية" بالقول أنّه منذ نحو عقد مضى، طلب تقرير للبنك الدولي من حكومات المنطقة أن "تكون جديرة بمستقبلها"، وأن تتّخذ الخطوات الضرورية التي تؤمّن لمواطنيها الرفاه الاقتصادي. وأنّه قد تمّ، منذ إعداد تلك الدراسة المبكّرة، تحقيق بعض التقدّم، إلا أنّ الحاجة لتحقيق المزيد لا تزال قائمة، وأنّ مشاهد الشباب من ذوي التعليم الجيد متعطلين عن العمل هي التي تسِم الآن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر من غيرها في العالم. وأنّ قادة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يجدون أنفسهم الآن، بسبب عدم إقدامهم في الماضي على اتخاذ الخطوات الضرورية، في مواجهة خيارات أشدّ صعوبة، وضغوط للتحرّك أكثر إلحاحاً. ويؤكّد التقرير في الختام أنّ العقد الاجتماعي القديم لم يعد صالحاً بعد اليوم كنقطة انطلاق للإصلاح. وأنّ هناك حاجة ملحّة إلى عقد اجتماعي جديد، عقد يحقّق التكامل بين استراتيجيات النموّ القائمة على اقتصادات السوق مع مراعاة قيمتي التضمينية الاندماج السياسي والمساءلة، وبين الالتزامات القائمة منذ أمد طويل نحو تحقيق العدالة الاجتماعية. * البنك الدولي