خمس سنوات كاملة تفصل بين المؤتمر الاول الذي اقامه المجلس الاعلى للثقافة عن الرواية العربية والمؤتمر الثاني الذي اقيم في الفترة من 18 وحتى 22 تشرين الاول اكتوبر تحت عنوان "الرواية والمدينة" وخلال الخمس سنوات جرت في النهر مياه كثيرة ومن ثم فإن السؤال الذي طرح نفسه منذ البداية، هل ينجح المؤتمر في الالتفات الى الانتاج الروائي الجديد الذي يحاول ان يفرض نفسه ويغير في اتجاهات القراءة ومن ثم اهتمامات النقاد؟ ربما كان هذا هو السؤال الذي وجد اجابات صريحة عبّرت عن نفسها سواء في الجلسات او في الموائد المستديرة وفي المحور المخصص للشهادات التي يقدمها الكُتاب، ولذا لم يكن غريباً ان نستمع الى شهادة كاتب شاب يملك رواية وحيدة لكنها جيدة ويمكن القول ان ملتقى القاهرة الثاني للابداع الروائي هو تأكيد حضور "رواية التسعينات على الاقل في مصر" ومحاولة جادة لتثبيت أقدام كُتابها، واللافت ان هذه المحاولة لم تنتزع الرضا الكامل من هؤلاء الكتاب الذين تحفظوا على برنامج المؤتمر بعد ان أدرجوا في جلسة "شهادات" سبقت الحفل الختامي. وعلى رغم هذا التحفظ كان حضور الاسماء الروائية الجديدة لافتاً للنظر خصوصاً ان معظم الدراسات والاوراق المقدمة حاولت بدرجة او بأخرى الإنصات الى هذا الصوت الجديد واستكشاف آفاقه في التعامل مع المدينة التي تتخذ شكلاً مغايراً للمدينة التي كتبها روائيو الستينات "إذ تناول الناقد المصري صبري حافظ في اولى جلسات المؤتمر ما سماه ب"تحولات مدينة القاهرة وخطابها الروائي في رواية جيل التسعينات"، قاصداً بذلك الإشارة إلى أن ظهور المدن العشوائية على أطراف القاهرة التقليدية ولد مدينة جديدة سماها بالقاهرة الثالثة بحسب تعبير المعماري المصري أبو زيد راجح، وهذه المدينة ظهرت تجلياتها في الروايات التي يكتبها روائيو التسعينات كما توقف عرض الناقد المصري الشاب حاتم عبد العظيم لما سماه "فضاء المدينة في رواية التسعينات المصرية" مفرقاً بين مصطلحي المكان والفضاء، وقدم قراءة في مجموعة من الروايات منها "اسم آخر لقطة" للكاتب حسني حسن و"أحلام محرمة" لمحمود حامد، و"لصوص متقاعدون" لحمدي أبو جليل و"باب السفينة" للكاتب سعد القرش، ولاحظ عبر هذه الروايات أن المدينة المعنية هي القاهرة لكنها "قاهرة المهمشين" التي تابع محمد بدوي ظهورها في السردين الروائي والفيلمي عبر ملاحظات اولية اشار فيها الى حضور المهمشين في الخطابين الروائي والفيلمي في مصر الحديثة منذ "زقاق المدق، والسقا مات، وغيرهما" لكنه توقف أمام نماذج من أعمال ابراهيم اصلان ويحيى الطاهر عبد الله معبرة عن عين متعاطفة مع هذا "العالم المهمش" وهي الاعمال التي نقلها الى الشاشة سينمائيون معنيون بالعالم ذاته مثل داود عبد السيد واشتغاله على رواية اصلان "مالك الحزين" أو رضوان الكاشف في فيلميه "الساحر" و"ليه يا بنفسج" اللذين قدمهما بتأثير من افتتانه بجيل الستينات بخاصة يحيي الطاهر. ولاحظ بدوي ان السرد ذاته تطور باتجاه خلق علاقة جديدة مع المهمشين لا تتضمن نظرة تعاطف وفيها ما سماه "الشجن النبيل" وانتقل الى آفاق اخرى مع كتابات حمدي ابو جليل او مصطفى ذكري وقد عرفت كتابات الاخير طريقها الى السينما مع المخرج اسامة فوزي في فيلمي "عفاريت الاسفلت" و"جنة الشياطين" اللذين تضمنا رؤية تنزع الهالة عن هؤلاء المهمشين وتتعامل معهم بعيداً عن الايديولوجيا، وعاود سيد عشماوي الحديث عن المهمشين في اعمال جيل الستينات خصوصاً كتابات خيري شلبي، وعبر قراءة ترصد التحولات التاريخية في المدينة. ولم يكن حضور مدينة القاهرة قاصراً على كتابات الروائيين المصريين إذ رصد شعبان يوسف الصور المجازية لها في كتابات كلٍ من ميسون صقر وسالم بن حميش ومحمد برادة وغالب هلسا وعند غازي القصيبي في روايته "شقة الحرية". وقد لاحظ اختلاف الصور المجازية للمدينة من مدينة للضياع الى مدينة للثورة والنضال ضد الاستعمار أو قاهرة المثقفين، كما لدى غالب هلسا الذي أعاد المؤتمرُ الاعتبارَ لكتاباته التي كان لها نصيبٌ وافرٌ في اهتمامات النقاد إذ لاحظ سمير قطامي انه على رغم انشغال هلسا بكتابة المكان فإنه لم يركز في روايته "الروائيون" على المكان ربما بسبب تزايد حساسية الاغتراب الذي ربما دفعه للرحيل إلى بغداد التي احتلت بؤرة اهتمامه في روايته "ثلاثة وجوه لبغداد" وبدت كمدينة غير مطمئنة ومحفوفة بالمخاطر. وقدم الناقد السوري صلاح صالح ورقة عنوانها "محاكمات المدن المتهمة" ولاحظ فيها أن الرواية العربية لم تكن بمعزل عن ربط المدينة بالريف خلافاً للرواية الأوروبية. ومن هنا فإن معظم الكُتاب الذين كانوا من أصول ريفية قدموا محاكمة للمدينة التي ظهرت حاملة لمجموعة من القيم السلبية وحضرت بوصفها "متاهة" عملت على تضييعهم. وفي محور الشهادات شهد اليوم الأول من أيام المؤتمر قيام مجموعة من الكُتاب يمثلون أجيالاً مختلفة بتقديم شهادات كشفت عن تنوع تجاربهم الإبداعية، إذ تحدث الروائي السوري خليل صويلح صاحب رواية "وراق الحب" عن حاجته لكتابة رواية تجمع بين صحراء الإنترنت وصحراء البادية العربية القديمة، رواية لها قدرة على إدراك لحظة التشظي الراهنة. وفضلت الروائية اللبنانية رشا الأمير صاحبة رواية "بيت الدين" أن تقدم عرضاً بالشرائح المصورة لرؤية تشكيلية قدمها رسام معاصر لروايتها التي تتناول علاقة امرأة برجل دين سُني، وتدور أحداث الرواية كلها في جامع اختارت الكاتبة ألا يكون له موقع محدد في مكان عربي يمكن التعرف إليه لأن روايتها بهذا المعنى ليست عن المدينة وانما عن المكان. أما الكاتب بهاء طاهر فقد تناول الإشكالية التي يطرحها عنوان المؤتمر "الرواية والمدينة" وهي إشكالية دفعته لتأمل تجارب الكُتاب المصريين في علاقتهم بالمدينة بداية من نجيب محفوظ مروراً بكتاب الستينات إذ لاحظ أن الرواية كانت دائماً بالنسبة للكتاب القادمين من الريف حاملة للقيم الإيجابية. وتناول طاهر تجربته مع المدينة في روايته "شرف النخيل" و"خالتي صفية والدير". وقال إنه عبر هذين العملين حاول طرح أشكال الهوية في مدينة منفردة الطبقات مثل القاهرة. وكان لافتاً انشغال المشاركين في المؤتمر بقراءة الاعمال الروائية تحت تأثير ضغوط الاحداث اليومية فقد طغت الهموم السياسية على المؤتمر منذ جلسته الافتتاحية وهو الامر الذي دفع المستعربين المشاركين على "غسل ايديهم" من السياسات التي تمارسها الولاياتُالمتحدة وحلفاؤها الاوروبيون والتأكيد على قيمة الادب كجسر من جسور التواصل الحضاري الذي يلغي سوء الفهم وهو المعنى الذي اكده المستعرب السويسري هارتمون فاندريش في الكلمة التي القاها نيابة عن المشاركين الأجانب، إذ أشاد فاندريش بالزيادة المستمرة في عدد الباحثين الأجانب في المؤتمرات العربية باعتبارها إسهاماً فاعلاً لإضاءة الخفي في الثقافة العربية. وتمنى فاندريش أن تحسن جامعة الدول العربية استغلال العام المقبل بوصفه عام الثقافة العربية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، معتبراً أن الرواية العربية كجنس فني ديموقراطي هو أهم وسيلة الى الحوار لأنها تقدم خطابات تسمح بتعددية الفهم. وضرب المستعرب السويسري مثالاً برواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني وقال إن هذه الرواية قُرأت عند صدورها كرواية تتناول نهاية العصر المملوكي ومنعتها الرقابة حين قرأتها كنموذج لنقد النظم الاستبدادية، وقال إن التهمة لاحقت الرواية في الاتحاد السوفياتي إذ وقف النظام ضد ترجمتها للروسية لأنها "رواية تنتقد النظم الشمولية والاستبداد"، وتوقع هارتمون ماندريش أن تقوم السلطات الأميركية قريباً بمنع توزيع الترجمة الإنكليزية من الرواية ذاتها لأن نظام الرئيس الأميركي بوش سيقرأها كرواية ناقدة للسياسات الأميركية الغاشمة وهذا دليل قوي على ما يمكن للرواية أن تقدمه من اختلاف في الرؤى وتعدد صور الفهم. وكان الروائي المصري ادوار الخراط تحدث في الجلسة ذاتها نيابة عن الروائيين المصريين، مشيراً إلى ما يمكن للروائي العربي أن يقدمه من اسهامات ضد العولمة المغلوطة وضد سياسات الهيمنة الأميركية وصور القهر والسياسات الإسرائيلية المدعومة أميركياً في فلسطينالمحتلة وما تقوم به أميركا في العراق. ومن جهته، قال الدكتور جابر عصفور أمين عام المجلس الأعلى للثقافة في الجلسة التي ترأسها "إن تاريخ الرواية العربية هو تأريخ للقمع وصور مقاومة هذا القمع، وقال: إن الرواية بتاريخها الطويل حريصة على أن تكون صوت المجتمع المدني وصيحات المهمشين ومحاولاتهم في مواجهة مختلف أشكال القمع وتعرية النظم الاستبدادية التي لا تريد أن تتعلم من دروس التاريخ. وفي تلك الجلسة ركزت المداخلات والأوراق المقدمة على الرواية كجنس أدبي قرين للديموقراطية ومقاومة الاستبداد، وتحدث صبحي حديدي عن "المدينة وجدل الحاجة إلى الرواية" وعرض نماذج من مؤلفات الروائي اللبناني الياس خوري، إذ يلعب الروائي دور المؤرخ من خلال تقنياته الفنية، ويقدم تاريخاً خفياً لهذه المدينة وتبدو الحكايات المتوالدة كصورة متعددة للمدينة. ومن جهته، تناول فيصل دراج أسباب احتفال الروائي بالمدينة معتبراً أن الرواية هي الجنس الأدبي الديموقراطي الذي يتيح لكاتبه الإبداع والتحرك من دون رقابة، وقال إن الرواية منذ فترة مبكرة انحازت الى المدينة على حساب الريف بسبب تعدد الأصوات في المدينة، مشيراً إلى نماذج روائية اعتمدت اعتماداً كلياً على المدينة وأبرزها أعمال حليم بركات. وانتهى دراج إلى القول إن الرواية العربية لا تزال في أقطار كثيرة تمثل جنساً معوقاً بسبب افتقارها إلى المتعدد المدني الذي تحتاجه الرواية، فالمدينة العربية في معظم أشكالها مزيج من الكتل الأسمنتية والتراكم الديموغرافي بعيداً عن التنوع المادي الذي أطلق الرواية الأوروبية، واعتبر دراج أن الإعاقة الداخلية في تكون المدينة العربية هي التي تميل على السياسة والتبعية والحداثة المجهضة. وامتداداً لأطروحاته عن اللغة والأنوثة. وتحدث الناقد السعودي عبدالله الغذامي عن مفهوم الخيال المؤنث الذي هو على حد قوله مؤسس جذري للممارسة السردية، معتبراً أن هذا الخيال المؤنث يختلف عن الخيال الفحولي المنتج للشعر. ومن جهته، قال الناقد المغربي مبارك ربيع إنه لا يختلف مع فكرة انه لا رواية من دون حرية لكن الرواية العربية أيضاً عبرت عن نفسها في ظل قمع الأنظمة. وبعيداً عن السجال النقدي حول الانتاج الروائي العربي، خصص المؤتمر واحدة من الموائد المستديرة للنقاش عن معوقات نشر وتوزيع الرواية العربية انتهت بالدعوة إلى عقد مؤتمر خاص يناقش مشكلات نشر وتوزيع الكتاب الأدبي في العالم العربي. برعاية عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية وكان المشاركون من ناشرين وكُتاب اتفقوا على ان وجود إحصاءات دولية تؤكد تراجع حركة النشر على المستوى العربي بما لا يتلاءم مع عدد السكان، هذا في الوقت الذي نشطت فيه الرقابة في عدد من الدول العربية لمحاصرة بعض الكتب، فضلاً عن تراجع الدور الطليعي للصحافة الأدبية وسيادة نزعة محافظة تحكم المناخ العام. وكان جابر عصفور لاحظ أن اهم الروايات المصرية التي صدرت في السنوات العشر الأخيرة لم تكن من اصدار دور النشر الكبرى، لأن الدور الكبرى تخاف من المغامرة والرهان على الأسماء الجديدة، بعكس دور النشر الصغيرة التي نجحت في تقديم الأدب المصري والعربي الجديد. أما الناشر المصري محمد هاشم مدير دار ميريت فأرجع أزمة نشر الكتاب الأدبي لمشكلات في التوزيع سببها الرئيس قيام المؤسسات الحكومية باحتكار عملية توزيع الكتاب من دون منافسة تدعم الناشر الصغير. وفي المائدة ذاتها طالب الناشر اللبناني حسن ياغي باستثمار المؤتمر لطرح مشكلات ترجمة الأدب العربي إلى لغات أجنبية. ووجه ملتقى القاهرة للابداع الروائي تحية خاصة للمفكر الفلسطيني ادوارد سعيد إذ حملت هذه الدورة اسمه كما خصصت مائدة مستديرة للنقاش حول اعماله أدارتها فريال غزول وتحدث فيها فخري صالح مؤكداً ان رؤية سعيد المعرفية كانت تصدر عن تصور "يرفض النظريات الاصولية في فهم الادب والتاريخ وهي التي ترى في الاصل الغربي الاوروبي مصدر اشعاع يغمر بضيائه الثقافات الاخرى"، مشيراً الى ان كتاب "الاستشراق" لسعيد كان نقداً مضاداً لكل النزعات الاصولية ولكنه بعقله التحليلي استطاع ان يعيد تأطير فكر المستشرقين وانجازهم. وقالت الناقدة المصرية فريدة النقاش إن الجهد الفكري لسعيد ينطوي على قضايا أساسية في ما يخص ثقافة المقاومة وهي "الاصرار على الحق في رؤية تاريخ المجتمع ككل" وعدم النظر الى ثقافة المقاومة باعتبارها مجرد رد فعل على الامبريالية بقدر ما هي نهج بديل في تصور التاريخ البشري يقوم على تحطيم الحواجز القائمة بين الثقافات والاعتراف بالمهمشين تاريخياً".